Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مصر والسودان" ليسا شارعا... نظرة إلى الحدود

آخر ما كان يطرأ على البال مناقشة علاقة المصريين بالسودانيين لكن ذلك حدث في ظل النظام العالمي الجديد

إنها علاقة تاريخية جغرافية اجتماعية اقتصادية نفسية أنثرولوبجية عائلية، هي الخلطة السرية التي يصعب وصفها (أ ف ب)

ملخص

المشاهد ومقاطع الفيديو وشهادات السودانيين في داخل السودان والمقيمين في مصر منذ ما قبل الأزمة تقول إن السودانيين يعبرون الحدود من دون مشكلات

شارع مصر والسودان ليس مجرد طريق يربط بين قصر القبة الجمهوري في القاهرة وميدان كوبري القبة شمالاً ليصل جنوباً إلى طريق الأوتوستراد. الشارع العامر بالتاريخ الغارق في التفاصيل الملغم بالرموز والمعاني الكامنة في بطن أحداث وحوادث 100 عام من الشد اللذيذ والجذب اللطيف.

إنه الشد السياسي أحياناً بين مصر والسودان، والجذب الاجتماعي دائماً بين المصريين والسودانيين، سخرية القدر أو لعلها دعوة جاءت بمحض الصدفة لمراجعة الجغرافيا والنظر بعين الاعتبار إلى التاريخ اللذين يشيد عليهما الحاضر، شاء بعضهم أو أبى آخرون.


على باب الجيوسياسي

آخر ما كان يطرأ على بال الجدل الجيوسياسي أو تحليل الاجتماع السياسي أو تفنيد علم النفس الاجتماعي الغارق في السياسة أن يصل إلى مناقشة علاقة السودان بمصر أو علاقة المصريين بالسودانيين، لكن ذلك حدث في النظام العالمي الجديد، وفي ضوء إصرار "الربيع العربي" على المضي قدماً إن لم يكن بثورات تدق الباب فبأحداث تتسلل من تحت عقبه.

بعد اندلاع الأحداث الأخيرة في السودان، توقع بعضهم أن تشهد مصر، الجارة الشمالية للسودان، تحركاً أو نزوحاً أو ارتحالاً من نوع ما، وما هي إلا أيام قليلة، أو ربما ساعات معدودة حتى تأكدت ملامح كابوس القتال، وتوثقت أمارات استدامة الصراع، الوجه الآخر للقتال الداخلي والصراع الذي لا تلوح نهايته في الأفق القريب هو النزوح، ووجهة النزوح الكلاسيكية والمنطقية والتاريخية للسودان كانت وستظل مصر.

وفي مصر، وتحديداً في الأحياء والمناطق المعروفة بتجمعات السودانيين (سواء الذين قدموا إلى مصر في السنوات القليلة الماضية أو أولئك المقيمين منذ عقود طويلة) تسهل ملاحظة الحراك المنبئ بقرب استقبال الأقارب والأهل والمعارف المتوقع وصولهم، وبالفعل يصل إلى المنطقة الحدودية، وأبرزها معبر "أرقين"، الآلاف على مدار الساعة، لا جدوى من العد أو الإحصاء في هذه الآونة، إذ التوقعات لن تكون ذات معنى.

حدث جلل يدور

معنى المشهد الدائرة رحاه عند حدود مصر والسودان هو أن حدثاً جللاً يدور عند الجارة الجنوبية، التي على رغم أحداثها الجسام العديدة في العقود القليلة الماضية، فإن هذا الحدث الآني غير مسبوق. عشرون عاماً من الحرب الأهلية في جنوب السودان (وقت أن كان السودان موحداً شماله وجنوبه) نجم عنها آلاف الفارين من الصراع الآملين في أن تكون مصر دولة عبور في اتجاه الغرب بغرض إعادة التوطين، العدد الرسمي للاجئين من جنوب السودان الذين سجلوا في مصر، بحسب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، نحو 25 ألف شخص، لكن العدد الفعلي، إذ لم يكن بعضهم يوثق أوراقه لدى مكتب المفوضية في القاهرة تعدى ذلك بكثير. ومن حرب جنوب السودان الأهلية إلى دارفور التي يتجدد فيها الصراع بصفة شبه دورية منذ عام 2003، ما أن تهدأ موجة حتى ينساها العالم إلى أن يحين موعد الموجة التالية، وفي كل موجة تضطر أعداد متراوحة من السكان المدنيين إلى الفرار من أتون الصراع، ومنهم من يتجه صوب مصر.

 

 

هذا الصراع المتجدد دائماً بفعل الصدامات العرقية صاحبة القدرة المتميزة على إشعال وإذكاء نيران الصراع طالما بقيت الأسباب مطموسة والعوامل متجاهلة. عقود طويلة وعوامل الاشتعال تخفت ولا تنتهي. صدام قائم على العرق، صراع مسلح، اغتصاب نساء وقتل رجال وأطفال وحرق بيوت ومعها أوضاع اقتصادية بالغة الصعوبة وأحوال مناخية تنجم عن الجفاف الشديد وتؤدي إلى مجاعات لا تتوقف تفاقم مرارة الأزمة، وصراع على الموارد من دون ملمح تنمية أو أمارة حلول مستدامة جعلت من دارفور منطقة على صفيح ساخن، وضمن ردود الفعل لكل موجة سخونة موجة نزوح يتجه بعضها صوب مصر على مدار سنوات الصراع.

الصراع في السودان

لكن الصراع في السودان شأنه شأن دول عربية عدة، مكتوم ومستدام. جانب منه سياسي، وجوانب أخرى عديدة تختلط فيها السياسة بالدين بالاقتصاد بالعرق بالمنافسة بالقبلية والقائمة تجدد نفسها.

تجدد الصراع هذه المرة يتخذ شكلاً غير مسبوق، حيث العاصمة مركز الاقتتال، والمقاتلون المسلحون المدربون المتقاتلون "الرسميون" يتخذون من المدنيين حلبة للصراع وأرضاً خصبة للاقتتال، وهو ما جعل نزوح وهجرة ولجوء المدنيين أموراً في حكم المؤكدة.

تأكدت الرؤية وتحول معبر "أرقين" إلى خلية نحل، حركة العابرين الفارين الباحثين عن النجاة تجري على مدار الساعة. مصريون كانوا يقيمون في السودان لأسباب مختلفة بين عمل ودراسة، وأجانب، وسودانيون. الجميع يعبر الحدود في مشهد لا ينم إلا عن تجهيزات شبه كاملة على الجانب الشمالي من المعبر.

ترجمة فعلية

التجهيزات ترجمة فعلية لبيان الخارجية المصرية الصادر يوم السبت الماضي، بعد تأكيدات عن مراقبة الأوضاع ومتابعة التطورات، وإشارات إلى تعاون وتنسيق، إضافة إلى تعليمات للمصريين يدور أغلبها حول التزام الهدوء وتجنب الوجود في مناطق التوتر والانفلات الأمني والإبقاء على قنوات الاتصال مع التمثيل المصري الدبلوماسي لمتابعة إرشادات عمليات الإجلاء، لا للمصريين فقط، بل لغير المصريين المقيمين والراغبين في ترك السودان.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أرض الواقع تشير إلى إصدار السلطات المصرية تأشيرات بغرض تيسير عملية العبور من السودان إلى مصر عبر معبر "أرقين". عشرات الباصات تنتظر على الأراضي المصرية لنقل العابرين الذين يصلون إلى المعبر فرادى أو على متن حافلات قادمة من مناطق عدة في السودان.

في السودان جرى لغط كبير حول إجراءات العبور لمصر عبر الحدود. صفحات التواصل الاجتماعي امتلأت عن آخرها بآلاف يبحثون عن خبر يقين، هل يتطلب عبور السودانيين صوب مصر تأشيرة؟ هل يمكن الحصول على تأشيرة عند المعبر؟ الأدهى من ذلك أن خدمات الإنترنت قطعت عن مناطق عديدة في السودان بشكل شبه كامل، لذلك جهود الاستفسار عادة تجري من خلال طرف ثالث يقوم بالمهمة لتوصيلها إلى الأهل والأصدقاء في الداخل عبر القليلين المتاحة لديهم الخدمة، ومنهم عبر سبل التواصل التقليدية.

ضبابية العبور

وعلى رغم "ضبابية" موقف العبور للسودانيين، وعدم صدور بيان رسمي واضح يبين طريقة التعامل أو طبيعة الخطوات والإجراءات، فإن أرض الواقع تشير إلى باصات تنقل آلاف السودانيين عبر المعبر إلى الداخل المصري.

مصادر دبلوماسية تقول في تصريحات صحافية نشرتها وسائل إعلام مصرية عديدة (شرط عدم ذكر اسمها) إن "الدخول عبر المنفذ الحدودي (للسودانيين) يكون عبر تواصل الأشقاء من دولة السودان مع السفارة المصرية في الخرطوم، مع ضرورة توافر جواز السفر ثم الدخول عبر المنافذ الحدودية من دون تأشيرة مسبقة. وضعت مصر ضوابط ميسرة على المنافذ الحدودية لدخول المواطنين السودانيين، بشرط توافر جواز السفر والتنسيق مع السفارة المصرية في الخرطوم".

التصريحات المتداولة على نطاق واسع قطعت جزءاً من الشك بجانب من اليقين، والمشاهد ومقاطع الفيديو وشهادات السودانيين في داخل السودان والمقيمين في مصر منذ ما قبل الأزمة والموجودين في بقاع الأرض المختلفة تقول إن السودانيين يعبرون إلى مصر دون مشكلات.

مشكلات الحدود

مشكلات الحدود بين مصر والسودان ليست وليدة الصراع الحالي وحتى في لوجيستياتها المتشابكة تشابكاً بالغ التعقيد مع السياسة والإسلام السياسي وتناحر قوى إقليمية وأخرى دولية بغية ضرب مصر من الجنوب تبقى مشكلات سياسية لا علاقة لها بالصلة بين المصريين والسودانيين.

إنها علاقة تاريخية أزلية جغرافية اجتماعية اقتصادية نفسية أنثرولوبجية عائلية، إنها الخلطة السحرية السرية التي يصعب وصفها بكلمات منطقية أو شرحها من دون الوقوع في وصمة "الكليشيه" أو سبة المجاملات السياسية المستهلكة.

في زمن ما قبل كشف النقاب عن الصراعات "الإقليمية" و"الأيديولوحية" المحتدمة، لا يدور الحديث عن السودانيين في مصر إلا في إطار "الأهل" الذين جاءوا إلى مصر في زمن "القطر الواحد" فأقاموا وتزوجوا وأنجبوا وتزوج الأبناء وأنجبوا أحفاداً، إنه حديث الأحياء المعروفة بتجمعاتهم المندمجة مع محيطهم المصري، التي لا يكاد يلحظ الفرق في المكون السكاني لهذا الحي أو ذاك إلا عبر لافتة "مقهى جي جي" في وسط القاهرة، أو "جمعية صاي" في شارع قولة، أو "مقهى زاد الحبايب" في عابدين، وغيرها من جمعيات ثقافية ومقاه ترفهيهية تجمع أبناء السودان من المقيمين أو الزائرين لمصر.

أقارب وجيران

في مصر، تعتبر الغالبية المطلقة من المصريين السودان وأهله أقارب وجيران. الأكبر سناً يتذكرون زمن الوحدة، أو بالأحرى آثار زمن الوحدة بكثير من الحنين، ما زالت الصورة النمطية لـ"عساكر الهجانة"، أولئك الجنود السودانيون الذين يمتطون جمالاً، وهي تلك الوحدة الشرطية التي يعود تاريخها إلى أواخر القرن الـ19، وقتها استعان مسؤولو الأمن الداخلي في مصر بعدد قليل من الجنود السودانيين لتطويق خارجين على القانون في بعض المناطق بمصر، وفي عام 1915 تشكلت وحدة من هؤلاء الجنود في منطقة عين شمس بالقاهرة، ولم يزد عدد أفرادها على 31 شخصاً عملوا بجد وكد وإخلاص، فكانوا نواة لـ"سلاح الهجانة" التابع لنظارة (وزارة) الداخلية في مصر، وتمدد القطاع وأعداده وانضم له المئات من السودانيين ممن يتقنون ركوب الجمال، وأصبح هذا السلاح مقترناً بالجندي السوداني الذي يجوب الشوارع، لا سيما في المدن الحدودية، على جمله.

الأصغر سناً من المصريين لم يعاصروا الجندي السوداني أو الجمل، بل يعرفون أن السودان جارة مصر الجنوبية، وأن السودانيين في مصر شأنهم شأن غيرهم من سكان المحروسة.

"سم" الإسلام السياسي

لكن زمن ما بعد الصراعات الإقليمية وبزوغ "سم" الإسلام السياسي في المنطقة لم يترك العلاقات المصرية السودانية في حالها أو سابق عهدها. وتجب الإشارة إلى أن أياد عديدة تعبث بهذه العلاقات منذ سنوات طويلة بين مراكز دراسات غربية مخصصة لـ"تضارب" المصالح بين البلدين، إلى وحدات أكاديمية معلوماتية عن جذور "الصراع" في المنطقة إلى تقارير وأوراق وأطروحات تكاد لا تخرج "مسلماتها" عن مفردات الاحتقان والالتهاب والاحتكاك بين الجارتين.

 

 

الجارتان تجمعهما إضافة إلى التاريخ والمصاهرة وحركة التنقل الدائمة، حدود يبلغ طولها 1276 كيلو متراً. إنها شاسعة بكل معاني الكلمة، وتشير ورقة صادرة عن مركز "مالكولم كير كارنيغي" للشرق الأوسط عنوانها "الحدود المصرية – السودانية: قصة وعد لم يتحقق" (2021) للباحث شريف محيي الدين إلى أنه "منذ استقلال السودان عن الحكم المشترك البريطاني - المصري عام 1956، أسفرت سياسات الحدود التي اتبعتها مصر والسودان عن تحويل هذه المنطقة إلى مرتع دائم للشكوك والتوترات، وعلى رغم الجهود التي بذلت منذ الانتفاضات العربية عام 2011 لتغيير هذا المنحنى، فإن إرث الماضي لا يزال يعوق تحسين العلاقات، وهو ما يفسر محدودية تدفق المواطنين عبر الحدود، وكذلك محدودية التبادلات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية".

وتتطرق الورقة إلى جذور "الخلاف" والقيود التي فرضتها مصر في أعقاب ثورة 1952 على عبور المواطنين إلى السودان، ونزاع حلايب وشلاتين، والضغائن التي برزت إبان عهد مبارك حين نجا الأخير من محاولة اغتيال في إثيوبيا وألقت القاهرة فيها باللوم على السودان وما نجم عن ذلك من "حرب باردة"، ومواقف السودان المتقلبة في ما يختص بـ"سد النهضة"، حيث تقارب حيناً مع مصر وأحياناً مع إثيوبيا، إلى غير ذلك من شؤون السياسة والمصالح والصراعات.

تقارير ودراسات وفتن

الصراع الآني في السودان غالباً سيقلب موازين التقارير والدراسات عن العلاقات والحدود والحروب الباردة والساخنة. أغلب ما يرد أكاديمياً واستخباراتياً ودولياً عن العلاقات بين مصر والسودان يغفل أو يتجاهل أو ربما لا يقع في نطاق اهتمامه أو اختصاصه العلاقات بين المصريين والسودانيين.

العلاقات الشعبية ليست ملائكية، ولا يتوقع منها أن تكون كذلك، لكنها أيضاً لا تلقي بالاً كبيراً للعلاقات بين القادة والقوى، أو للتوازنات بين أطراف الصراعات وأطياف المصالح، والاستثناء الوحيد ربما هو للأيديولوحيات التي تدق أوتار الشعوب، وفي مقدمتها في التاريخ المعاصر الإسلام السياسي.

ممثل الإسلام السياسي في قصر الرئاسة المصري عام 2013، الرئيس الراحل محمد مرسي اختار السودان للزيارة "التاريخية" في قائمة زياراته أثناء عام حكم جماعة الإخوان لمصر، في أبريل (نيسان) من عام 2013  زار مرسي السودان والتقى "نظيره" السوداني عمر البشير، وإضافة إلى ما اتسمت به الزيارة من تأكيد أواصر الصلة والتنبيه على جذور المحبة والإشارة إلى مفاصل التقارب، فقد أدى مرسي صلاة الفجر في مسجد بالخرطوم، واستمرت الصلاة قرابة ساعتين، وأدى الرئيسان "السابقان" صلاة التهجد ثم أتبعاها بصلاة الفجر قبل أن يقيما "مقرأة" للقرآن ختما فيها ومرافقوهم القرآن كاملاً، وأنهى مرسي زيارته مؤكداً "المستقبل يحمل خيراً كثيراً".

المستقبل لم يحمل خيراً

والمستقبل لم يحمل خيراً كثيراً أو قليلاً، بل حمل صراعات واحتقانات، وخدوشاً نادرة الحدوث للعلاقة بين المصريين والسودانيين، أو بالأحرى بين المصريين من معارضي وكارهي ومنتقدي الإسلام السياسي والإصرار على خلطة السياسة بالدين من جهة، وبين السودانيين من محبي ومؤيدي ومعتنقي الخلطة، وعلى رغم أن هذا الخدش هو نفسه الذي حدث بين المصريين من معارضي الإسلام السياسي ومؤيديه، الذي كشف عن أبعاده منذ اندلاع أحداث يناير (كانون ثاني) عام 2011 في مصر، إلا أنه بعد "التدخل في السياسة الداخلية" لمصر من قبل محبي الإخوان في السودان، ولو من طريق مقالات لكتاب سودانيين مؤيدين للجماعة أو على صفحات التواصل الاجتماعي، جعل الخدش خدشين.

ولأن الخدوش ليست دائمة، وحيث إن الطوارئ الإنسانية تمحو الخلافات السياسية بممحاة، فما بالك بطارئ إنساني لدى "أهل الجنوب"، فقد تصدرت دعوات شعبية مصرية تطالب بفتح الحدود على مصاريعها أمام "أهلنا في السودان"، "أشقاء الوادي"، منذ تفجر الصراع المميت.

إلغاء التأشيرة

ظل هاشتاغ "إلغاء تأشيرة دخول السودانيين مصر" على رأس "الترند" أياماً، صحيح أن مستخدمي "الهاشتاغ" ليسوا على قلب رجل واحد باحث عن النجاة والأمان للسودانيين الهاربين من نيران الاقتتال، لكنه يبقى "هاشتاغ" معبراً عن أخوة الشمال والجنوب، وكعادة "السوشيال ميديا" الكاشفة، فإن "الهاشتاغ" المدشن في الأصل لأسباب إنسانية بحتة، يستغله الفريق المتيم بعشق جماعة الإخوان المسلمين للدق على أوتار انقلاب الإرادة الشعبية المصرية على حكم الجماعة، كما يستخدمه هواة الصيد في مياه الصراعات العكرة لعله يضعف شوكة مصر ونظامها السياسي أو يزرع بذرة إضافية في محاولة نثر الفتن بين الشعوب ونشر قيل العنصرية وقيل الفوقية التي يدق عليها منتسبو الكتائب الإلكترونية في كل مناسبة.

صحيح أن المناسبة مؤلمة والأوضاع مزرية، لكن من رحم الألم تنكشف الحقائق وربما تنجلي أيضاً الظلمات، ظلمة الأوضاع على الحدود لم تترك مجالاً كبيراً للجدال المصري الشعبي الداخلي، مجال الشد والجذب يقتصر على مخاوف اقتصادية مع توليفة من "الأخذ على الخاطر" (اللوم) جراء مواقف تضامنية أشهرها بعضهم في السودان مع جماعة الإخوان المسلمين والإصرار على استمرار جثومها على صدر مصر عام 2013، وموقف الآخرين المؤازر لإثيوبيا على حساب مصر بعد حساب لكفة المصالح، وتدوينات وتغريدات ينتقد أصحابها النظام السياسي في مصر مطالباً بتعديله أو تغييره أو ما شابه.

تشابك التوليفة

وتتشابك هذه التوليفة أحياناً لدى بعض المصريين، فيبدون تخوفاً من زيادة الضغط الاقتصادي المحتدم أصلاً لو فتحت الحدود من دون ضابط أو رابط، إضافة إلى مخاوف أمنية تتراوح بين قدوم عناصر تنتمي أو تتعاطف أو تتوالف مع الإخوان ومعهم "العناصر الإجرامية" من المسجونين التي تقول تقارير صحافية إن أبواب السجون فتحت لهم في السودان.

يظل أصحاب التخوفات قلة، وحتى بين هذه القلة تتضاءل الرغبة في المنع أو المطالبة بإغلاق الحدود، موجات الترحيب بـ"إخوة الوادي" و"أبناء السودان الشقيق" عاتية، واللافت أنها واضحة وضوح الشمس من دون رياء أو شك بين طبقات وفئات تنأى بنفسها عن السياسة، أو ربما تنأى السياسة عنها لأسباب كثيرة يتعلق أبرزها بالانشغال بتأمين لقمة العيش بعيداً من المطالبة بفتح الحدود أو إغلاقها.

قادمون قادمون

المتخصص في دراسات السكان والهجرة، عضو المجلس القومي للسكان أيمن زهري يقول إنه لا خيار أمام مصر لتفتح الحدود أو تغلقها، بمعنى أن فتح الحدود التزام دولي وأخلاقي، مضيفاً "كل الدول المحيطة بالسودان متضررة، لكنها مضطرة لفتح أبوابها لاستقبال الهاربين من جحيم الحرب. هؤلاء لاجئون أو طالبو لجوء لأن الظروف التي دفعتهم للهرب قهرية. ويحق للجميع الحديث والنقاش وإبداء المخاوف حول الأزمة الاقتصادية والصراع على لقمة العيش والمخاوف الأمنية كما يشاءون، لكن لا علاقة لذلك بالتزام مصر الدولي والقانوني والأخلاقي".

يطالب زهري الحكومة المصرية بإرسال رسالة طمأنة وترحيب بـ"الإخوة السودانيين ليشرفونا في مصر". ويشير أن مصر يكفيها فخراً أنها الدولة الوحيدة في المنطقة التي تنعم بأمن كامل وعلينا أن نكون أول الدول التي تبادر باستقبالهم، ويضيف "السودانيون قادمون قادمون. والأفضل لنا أن نستقبلهم بشكل إيجابي ومنظم. وهذه هي الصورة الحقيقية والمتوقعة والمطلوبة من مصر".

 

 

يتوقع زهري أنه في حال استمر الوضع في السودان على ما هو عليه، فما لا يقل عن 10 ملايين سوداني سيتركون السودان خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وأكبر الدول المستقبلة هي مصر وإثيوبيا وتشاد وإلى حد ما جنوب السودان.

يقدر زهري أعداد السودانيين المقيمين في مصر قبل الأحداث الحالية بين مليونين وثلاثة ملايين سوداني لا أكثر، مؤكداً أن "التقديرات التي تشير إلى خمسة وستة و10 ملايين فيها مبالغة ومزايدة"، ويشير إلى أن نسبة ليست قليلة من السودانيين المقيمين في مصر حالياً ليست من اللاجئين، بل ممن قدموا إليها بمقتضى بنود اتفاقية "الحريات الأربع" التي وقعتها مصر والسودان عام 2004، وقد نصت هذه الاتفاقية على حرية التنقل والعمل والإقامة والتملك، وعلى رغم دأب عديد من المنصات الإعلامية الغربية على مدار السنوات الماضية على انتقاد عدم تطبيقها كاملة على أرض الواقع، مع تلميحات دائمة بتحميل مصر المسؤولية الأكبر في عدم التطبيق، لكن يبدو أن الواقع الذي كشفت عنه الأحداث الحالية يشير إلى عكس ذلك تماماً.

"عبء" الاستضافة

عن "عبء الاستضافة" في المرحلة الأولى، وهي مرحلة الصدمة عقب وصول السودانيين إلى مصر، يقول زهري إن الجالية السودانية المقيمة والمستقرة في مصر ستتحمله.

تحمل مرارات المنطقة المتواترة لا ينقطع، مكتب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في القاهرة يشير إلى أن تجدد الصراعات وانعدام الاستقرار السياسي في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، وكذلك الاضطرابات في العراق واليمن، دفع آلاف الأشخاص من السودان وجنوب السودان وإثيوبيا والعراق واليمن إلى اللجوء لمصر، وحتى أيام قليلة مضت، شكل السوريون المقيدون لدى المفوضية أغلبية تعداد اللاجئين في مصر، تلاهم السودانيون ثم القادمون من جنوب السودان ثم إريتريا وإثيوبيا واليمن والصومال والعراق إضافة إلى أعداد قليلة من 50 جنسية أخرى.

المفوضية تؤكد أن أغلب اللاجئين وطالبي اللجوء يعيشون في بيئة حضرية في مصر، ويتركزون إلى حد كبير في القاهرة الكبرى والإسكندرية ودمياط ومدن عدة في الساحل الشمالي، لكنها أيضاً تشير إلى أنه على رغم ذلك، فـ"في السنوات الأخيرة، زادت الظروف الاقتصادية الصعبة في مصر بشكل كبير من احتياجات اللاجئين وأفراد المجتمع المضيف، ومع افتقار عديد من اللاجئين إلى مصدر دخل ثابت إلى جانب زيادة التضخم، تتم تلبية الاحتياجات الأساسية بالكاد".

التحديات الأخرى التي تشير إليها المفوضية تشمل فرصاً معيشية محدودة، وافتقاراً إلى التعليم الرسمي المستدام الذي يمكن أن يدعم تطورهم، ناهيك بالرعاية الصحية والنفسية اللازمة لا سيما للقادمين من مناطق الحروب.

حرب مشتعلة لتوها، أوضاع معيشية بالغة الصعوبة في الشمال وأقسى منها في الجنوب، ظروف مناخية صارت مصدر تهديد مستمر بالجفاف والجوع، رواسب مكايدات سياسية ورماد قابل للاشتعال على أنقاض حلم تمكين الإسلام السياسي، كتائب إلكترونية تعبث هنا بغرض التهييج وميليشيات عنكبوتية مسخرة هناك لعلها تستعيد حلم الفوضى الذي تبدد في عام 2013، ودوائر من الهري العنكبوتي على منصات "السوشيال ميديا" حول فتح الحدود أو إغلاقها أو الإبقاء عليها "مواربة"، كلها تشكل مشهداً سخيفاً وسقيماً، إذ الأولوية تبقى دائماً وأبداً للإنسانية.

وتبقى تدوينة كتبها طبيب مصري اسمه شريف فكري ثروت كاشفة عن التوجه المصري العام، معبرة عن الشعور الشعبي الذي ينأى بنفسه في أوقات الأزمات عن يمين السياسة ويسار الاقتصاد ويبقى في منطقة الوسط الإنسانية.

يقول فكري "من فضلكم يا جماعة، دعونا نتكلم عن كارثة السودان من الناحية الإنسانية فقط، أما الناحية السياسية والأمنية وما شابه فلها مسؤولوها وهم أدرى منكم ومني للتعامل معها. كن إنساناً. لا بد أن تجير من يستجير بك. ارحموهم واجبروا بخاطرهم حتى ولو بالكلمات. حفظ الله السودان وشعبه الطيب، وما عليكم ببقايا الجماعة (الإخوان) الكارهين لأنفسهم والنافخين في النار".

المزيد من تحقيقات ومطولات