Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حرب الجنرالين في السودان... التداعيات أخطر من الأسباب

تركة نظام الإخوان بإحياء النعرات القبائلية لـ30 سنة ستكون اليوم جاهزة لتصعيد القتال الدائر إلى حرب أهلية بلا أفق

 أسئلة كثيرة تتداعى فجأة لتشل التفكير أمام الخراب المفاجئ لمدينة الخرطوم (أ ف ب)

ملخص

لم يكن الخلاف بين الطرفين المتصارعين مبرراً بأي حال من الأحوال لتفجير مثل ذلك العنف المميت في الخرطوم وبقية المدن السودانية، فما هي الأسباب؟

فجأة، بدا كثير من السودانيين كما لو أنهم قد فقدوا ذاكرة الأمس السياسي القريب لكي يصبح موقفهم مشوشاً إلى هذه الدرجة الغريبة حول الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، التي يشكك كثير من المراقبين (لا سيما بعد إطلاق سراح قادة "المؤتمر الوطني" وعلى رأسهم البشير ورفاقه من سجن "كوبر" يوم الثلاثاء وسط اتهامات بين الجيش و"الدعم السريع" على خلفية إطلاقهم) بأن من أشعلها هم ضباط كبار في الجيش السوداني من الإخوان المسلمين اتخذوا قرار الحرب من دون أي استعداد لها.

يدل على ذلك أن الجيش لم يقم برفع حال الاستعداد ولو بنسبة 10 في المئة قبل صباح السبت المزلزل، توقعاً لمثل هذا الحدث الذي فجر مدينة الخرطوم بمثل ذلك العنف الخطر والمميت في الـ15 من أبريل (نيسان)، كما أن وقوع أكثر من 86 من كبار ضباط الجيش بين رتبة فريق ولواء وعميد (بمن فيهم المفتش العام للجيش السوداني) أسرى في يد قوات الدعم السريع منذ اليوم الأول للحرب يدل بوضوح على أن كثيرين من ضباط الجيش لم يكونوا على علم بهذه الحرب، ولا بساعة صفرها.


أسئلة القتال

ثمة أسباب كثيرة اليوم تقف في خلفية هذه الحرب، فعندما تقع المعارك فجأة لتقوض الواقع السياسي، تنفجر كثير من علامات الاستفهام لتطرح أسئلة جوهرية حيال جدواها، وأسبابها، ومآلاتها، وعلاقتها بسياق الحرب في التاريخ السياسي للسودان.

 أسئلة كثيرة تتداعى فجأة لتشل التفكير أمام الخراب المفاجئ لمدينة الخرطوم، بما سيبدو معه لكل متأمل في السياق التاريخي لموضوع الحرب والسلام في السودان أنه خراب لا يخلو أبداً من رد المتأمل إلى إشكالات بنية الدولة المركزية وعلل نشأتها التي حملت فيها بذور التناقضات على نحو يدل كل عاقل على أن مآل الحرب الأخيرة هذه، بعد أن طافت الحرب من قبل بالجنوب والغرب والشرق، سيكون وعلى نحو خطر ومقلق في المركز الحكومي الذي كان يطلق نيرانه على الأطراف تجريباً لسياسات عدمية لم تخلف إلا تراكمات فاسدة من غبن الأطراف وضغينة الهوامش.

ذاكرة الحرب السودانية، ومنذ تكوين دولة ما بعد الاستعمار في هذا البلد، ستضع المتأمل فيها حيال إشكالية مفهومية لا تتصل فقط بظاهر الأسباب المعلنة لتلك الحرب بقدر ما تتصل بغموض المبدأ التفسيري للحرب ذاتها، ومدى علاقة ذلك المبدأ بمشروع الدولة والثورة في هذا البلد. وهي إشكالية لا يكاد ينجو منها أحد حين يتأمل الملابسات المعقدة التي شكلت مسارات الحرب الأهلية في السودان.

ذلك أن العنف الذي عبأ سياق الحرب في السودان عكس في ما بعد وعياً فصامياً لمجندي الحرب، سواء كانوا ميليشيات أم جيشاً حكومياً، وهو وعي لم يكن في يوم من الأيام منفصلاً عن تلك الذاكرة التقليدية في تمثلاتها لعنف الحرب، إذ لم يكن التعويم الرسمي لشعار الحرب والتأطير الوطني المزيف بذاته كافياً لقمع تداعيات خزين متوحش من الحماس والكراهية والعنصرية في ذاكرة الفرقاء المتقاتلين على النحو الذي نراه اليوم في هذه الحرب بين رفقاء الأمس.

هكذا كشفت هذه الحرب اليوم إلى أي مدى أصبح الشعب السوداني مشوشاً في القدرة على فرز رؤية حيال ما كان يجري قبلها سياسياً من مواقف لطرفي الصراع، لذا يمكننا القول إن الاصطفاف الساذج اليوم لأحد الطرفين (كما يروج الآن عناصر النظام القديم لمناصرة الجيش في هذه الحرب) لا يعبر سوى عن استمرار الأزمة.

أسباب الحرب

فإذا ما أدركنا أن السبب الذي أدى فجأة لافتراق خط الجيش بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان عن خط "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) بعد أن كانا جبهة واحدة طوال 10 سنوات، هو موقف أحدهما مع الانتقال الديمقراطي (كما عبر عن ذلك موقف الجنرال حميدتي) فسندرك أيضاً السبب الذي يضطر أحدهما للحرب.

بطبيعة الحال لا يعني تحليلنا هذا أن الجنرال حميدتي، بحسب معياره التكويني وتاريخه، شخصاً ديمقراطياً، لكن علينا أن نتأمل في جملة من الإكراهات والسياقات والضغوط الدولية التي اضطرت حميدتي إلى تأييد الاتفاق الإطاري نتيجة لأخطاء كارثية ارتكبها خلال عام 2022 وما قبله (منها زيارته الكارثية لموسكو في يوم اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية) الأمر الذي سيفسر لنا أن سبب الحرب هو افتراق طريق الجنرالين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا نحتاج اليوم إلى تحليلات ساذجة ومريحة لنقول إن هذه الحرب هي فقط حرب بين الجيش و"الدعم السريع"، ما لم ندرك أن سبب الحرب هو بالضرورة افتراق خطهما إلى خطين متناقضين، بعد أن كانا خطاً وأحداً، وإذا صح ما ذهبنا إليه يصح أيضاً أن من بدأ الحرب هو الخط الذي يرفض الانتقال الديمقراطي.

ثم هل يمكننا القول إذاً، إن هذه الحرب التي من المرجح أنها بفعل قادة كبار من الإخوان المسلمين في الجيش السوداني، هي في تحليل أخير قد تكون نتيجة لتحقق رؤية تحليلية مفادها أن راسمي خطط وسياسات ما سمي المشروع الحضاري الإسلامي على مدى 30 سنة في ظل سلطة النظام القديم بقيادة حسن الترابي حين خططوا لتكريس أيديولوجيا الإسلام السياسي التي خربت السلم الأهلي وخرقت النسيج الاجتماعي كانوا يرسمون خراباً عبر عن نفسه بطريقة ربطت ربطاً عضوياً بتلازم مصيري سيعكس فيه انهيار النظام، في النهاية، انهياراً للدولة المركزية ذاتها، والعكس صحيح؟

ربما كان ذلك صحيحاً بالنظر إلى اندلاع هذه الحرب التي هي المحاولة العنيفة والأخيرة من طرف قادة من الإخوان المسلمين في الجيش لحكم الشعب بالقوة تحت عنوان ضرب قوات الدعم السريع باسم وحدة الجيش، بعد فشل كل محاولات متنفذي النظام القديم في الجيش وجهاز الدولة العام، منذ محاولتهم الأولى لفض الاعتصام في الثالث من يونيو (حزيران) 2019 بمذبحة القيادة العامة التي انتفض بعدها الشعب السوداني بالملايين في الـ30 من يونيو، مما اضطر قادة الجيش ومتنفذي النظام السابق آنذاك تحت ضغط الخارج والداخل إلى توقيع اتفاق 17 أغسطس (آب)، وحيث أدركوا أنه اتفاق يمكن الالتفاف عليه (لأنه اتفاق رعاه "الاتحاد الأفريقي" وهو منظمة إقليمية لا حول لها ولا قوة ولا أنياب أو أظافر) تم الانقلاب على الاتفاق وإسقاط حكومة الثورة بقيادة حمدوك عبر انقلابهم يوم 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 المشؤوم، وذلك بعد يأس قادة الجيش من نجاح عملية شد الأطراف التي توخت إشعال الفتن الأهلية والقبلية بين المكونات في شرق السودان وغربه، لاستمالة الشعب واضطراره للقبول بحكمهم عبر مقايضة الأمن بالاستقرار.

العودة إلى السلطة

وحين أدركوا استحالة استمالة الشعب لحكمهم بعد تظاهرات 21 أكتوبر 2021 التي خرج فيها الشعب بالملايين للاعتراض على حل حكومة الثورة، ثم بعد أقل من عام من انقلابهم المشؤوم وعجزهم عن تنصيب رئيس وزراء حتى اليوم، وسط مقاطعة من المجتمع الدولي وضغوط من الشعب السوداني عبر مسيراته المليونية خلال سنة كاملة، اضطروا للخضوع وقبول الاتفاق الإطاري والخروج ظاهرياً من العملية السياسية مع تبييت النية للانقلاب على الاتفاق الإطاري، لكن هذه المرة حين أدركوا أن قائد "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (حميدتي) رفض الوقوف إلى جانبهم (لأن حميدتي عام 2022 على أثر زيارته لموسكو دفع ثمناً غالياً اضطر بموجبه للخروج من العملية السياسية تحت ضغوط المجتمع الدولي)، وحين أدركوا كذلك أن الاتفاق الإطاري ترعاه الرباعية الدولية (أميركا - بريطانيا - السعودية - الإمارات) وهي دول كبرى لها مصالح وضغوط وأنياب وأظافر، وليست مثل "الاتحاد الأفريقي" - الذي رعى اتفاق 17 أغسطس 2017 حين أدرك كبار قادة الجيش من الإخوان المسلمين أنه لا مفر من التحول الديمقراطي، تورطوا في إشعال هذه الحرب كخيار أخير لوضع الشعب السوداني بين خيارين، إما حكمه بالقوة أو حرقه بالنيران.

في الوقت ذاته، تحيل الحرب، في مستوى ما من مسؤولية اندلاعها بطريقة غير مباشرة، على قوى الثورة السياسية التي عجزت عن الاتفاق على برنامج ثوري وفق حد أدنى لإسقاط الانقلاب أو إنهائه، لكن الانقسامات العمودية والعمى الأيديولوجي لبعض أحزاب التغيير الجذري انعكس سلباً من دون قيام كتلة جماهيرية حرجة، الأمر الذي شجع عناصر النظام القديم على استجماع قوتهم ومحاولة الالتفاف على الثورة.

عبثية الحرب الجارية

أي عقلنة سياسية للحرب، إذ تعكس هوية الدولة بمعناها الموضوعي عبر ضبط مسار القتال، فإنها بالضرورة ستعكس تماهياً مع فكرة الإيمان بمشروع الدولة، بما يعنيه ذلك من تعويم لشعارات الدولة في الحرب، لكننا في الحقيقة إزاء هذه الحرب بين كل من الجيش و"الدعم السريع" أمام تأويلات انقسامية متوهمة لشعارات "وطنية" ستفضي بنتائج الحرب -إذا طال أمدها- إلى تحولات فوضوية منذرة بحرب أهلية لا سمح الله.

وهكذا إذ تشحذ ذاكرة الحرب خيال مجنديها مزاجاً ينتصر لفكرة القتال ضد الآخر الحميم عبر تصورات مشوشة لا تحصن صاحبها من استدعاء أسباب ذاتية تجيز له فعل القتل بلا أفق ولا ضابط، تصبح لعبة الحرب بذاتها بعد ذلك خاضعة لمسارات تتوالد من أفعال الحرب المتجددة حتى تتحول في وعي الجماعات السودانية إلى مشاريع ارتزاق على هامش خراب الدولة الوطنية.

وأخشى ما نخشاه اليوم من مسار هذه الحرب، في ظل ظروف الهشاشة الاستثنائية التي ظل يعيشها السودان لعقود من ضعف اقتصادي وانفلات أمني، أن تتطور من عنف سياسي -حتى الآن على الأقل- بين طرفين عسكري وشبه عسكري، إلى حرب أهلية مفتوحة إذا امتدت لأكثر من شهر، فتركة خراب النسيج الأهلي الذي أفسده نظام الإخوان المسلمين بإحياء النعرات القبائلية لـ30 سنة ستكون اليوم جاهزة لتسعير هذه الحرب وتصعيدها إلى حرب أهلية بلا أفق.

خطر إطلاق البشير

كما أن إطلاق كبار قادة نظام الإخوان المسلمين من السجن، أمس الثلاثاء، (وفيهم إلى جانب البشير كل من علي عثمان وناقع وأحمد هارون وعبدالرحيم محمد حسين) سيكون له تأثير كبير في مسار الأحداث خلال الأيام القادمة، الأمر الذي سيدل على تطورات خطرة جداً في ظل وجود هؤلاء، إذ لم يكن غريباً أن يذيع أحمد هارون (وهو أحد كبار قادة الإخوان المسلمين وأحد المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية) عبر أكثر من قناة إخبارية عربية بياناً أعلن فيه نيابة عن سجناء قادة نظام الإخوان، عن دعمه الواضح للجيش في هذه الحرب ضد الدعم السريع، مما سيدل بوضوح على تداعيات خطرة ستشهدها الأيام القادمة لهذه الحرب، ما لم يضغط المجتمع الدولي بقوة من أجل الإسراع لاحتواء الحرب قبل اتساع رقعتها.

حصاد الحروب

لقد كشفت الحرب، عبر محطاتها المختلفة في السودان، عن أحكام واقع قاسية ظلت باستمرار قناعاً مأساوياً مزيفاً لأحكام القيمة المفترضة في اتصالها بهوية الدولة والمواطنة عبر ما جسدته من عبث بالشعارات الوطنية.

وإذا كانت حرب الجنوب في ظل حكم نظام الإخوان المسلمين قد انتهت إلى الانفصال الذي كان نتيجة حتمية لنهاية الانقسام على تأويل الهوية الوطنية للدولة، فإن انعكاسات حرب دارفور التي تناسلت عنها مجموعات قتالية محترفة كانت مؤشراً خطراً على خروج منظومة الحرب عن إطار العقلنة السياسية، مما أسس لموازين قوى شبه عسكرية مع تطاول أمد الحرب في دارفور كرست وجودها المستقل عبر تقديم خدمات عسكرية لنقل خبرات الحرب من خلال سلطة المركز كقوات موازية للجيش الوطني، الأمر الذي أدى إلى تأسيس قوات الدعم السريع عام 2013 برعاية جيش النظام الإخواني ذاته.

وهكذا وفيما كان تعويم النزعات العرقية المتوترة كوقود لحرب منفلتة في دارفور في ظل حكم نظام الإخوان المسلمين، كانت المفاعيل الضارة لذلك التعويم تتجسد في تلك الأجسام العسكرية التي أعادت إنتاج نفسها على هامش الحرب في دارفور، لتقدم خبراتها المتنقلة عبر خدمات أمنية استثمرها النظام في لعبة السلطة داخل الخرطوم.

إن الخطايا المضللة لنظام الإخوان المسلمين نحو الاتجاهات الأيديولوجية الخاطئة لغايات الحرب أفضت إلى مسارات عبثية لها، وكان من نتائج ذلك غموض المبادئ الوطنية المحركة لأسباب الحرب والسلام في السودان، إذ ليس بكاف في هذه الحرب التي تدور اليوم بين الجيش و"الدعم السريع" ادعاء جيش الدولة مواجهة التمرد بمعزل عن الأسباب الموضوعية للحرب، ناهيك بمجرد اختلاف –ظاهرياً على الأقل– حول مواقيت للدمج في عملية للإصلاح الأمني والعسكري توافق عليها كل من الجيش و"الدعم السريع" ضمن الاتفاق الإطاري، ولم يكن الخلاف بينهما مبرراً بأي حال من الأحوال لتفجير مثل ذلك العنف المميت بين الطرفين في الخرطوم وبقية المدن السودانية، ما لم تكن هناك أسباب لاعتراض حقيقي أضمره أحدهما، ليس على تفصيل على بند من بنود الاتفاق، بل على الاتفاق الإطاري ذاته، والأرجح أن الأخير هو السبب.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل