Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هانس أوب دو بيك يعلق الزمن لكشف عبثية الوجود

معرضه الفرنسي الحالي يتتبع المؤثرات الكلاسيكية الفاعلة في فنه

عمل فني معرض هانس دو بيك (خدمة المعرض)

ملخص

معرضه فرنسي للفنان الفلمكني هانس أوب دو بيك يتتبع المؤثرات الكلاسيكية الفاعلة في فنه

لا عجب في تنظيم "متحف فلاندرز"، في مدينة كاسيل الفرنسية، معرضاً للفنان الفلمنكي المعاصر هانس أوب دو بيك، ليس فقط لأن أعمال هذا المبدع الباهرة تستحق مثل هذا الاهتمام، بل لأنها أيضاً مشبعة بمراجع تعود إلى الفن الفلمنكي القديم، ولأنها تنسج بالتالي روابط مثيرة مع مجموعة المتحف المكرسة لهذا الفن.

وهذا تحديداً ما يفسر سينوغرافيا المعرض التي تقترح حواراً تتجلى فيه هذه الروابط إلى حد تنتفي فيه الحاجة إلى أي شرح أو تعقيب. أما عنوان المعرض "صمت وصدى"، فيستحضر المناخ الذي تحله أعمال دو بيك بتجاورها مع أعمال المعلمين الفلمنكيين.

ولمن لا يعرف هذا الفنان الموهوب، نشير بداية إلى أنه حصد شهرة دولية واسعة بفضل تجهيزاته العملاقة التي يزين بعضها أماكن عامة مهمة في وطنه وخارجه. تجهيزات تخطف الأنفاس بجمالياتها الفريدة، لكنها لا تختصر عمله الذي تعرض ثماره بانتظام في أهم المتاحف الغربية، ويقترح الفنان فيه، باستثماره وتحريفه رموز مجتمعاتنا الراهنة، وأيضاً مشاهد مألوفة وقطع تقليدية مختلفة، رؤية نقدية مشبعة بالشعر.

هكذا شيد دو بيك على مر السنين عالماً خاصاً به، عالم ما بعد نهاية عالمنا، تتجاور فيه الكآبة والجمال الصافي والاستبطان والعزلة، مشكلة خير تعريف بأعماله الصامتة، وتتجلى العولمة بكل صفاتها من خلال شمولية الموضوعات المقاربة، وأيضاً عن طريق التقنيات والوسائط العديدة التي يلجأ إليها (نحت، فيديو، تجهيز، رسم، تلوين مائي، تصوير فوتوغرافي، إخراج...)، وتتقاطر لمد فنه بمختلف جوانب ثرائه، ولخوض تأمل عميق في الوضع البشري الراهن.

الزمن المجمد

في معظم أعمال دو بيك يبدو الزمن مجمداً، والألوان محصورة بواحد، رمادي، يوحد الديكور الذي يقدم الفنان داخله أماكن لا وجود لها، لكن يمكن تحديد هويتها، ولحظات وشخصيات تبدو وكأنها خرجت تواً من الحياة اليومية المعاصرة. مشاهد تسعى وتنجح في الإمساك بالعبثية التراجيدية ــ الكوميدية لوجودنا في ما يعرف اليوم في حقبة ما بعد الحداثة، بمقاربتها موضوعات راهنة، مثل تواري المسافات وفقدان الفرد جسده الملموس والتجريد الزمني الناتج من العولمة والتحولات في بيئتنا المعيشية التي سببها تطور وسائل الإعلام والأتمتة والتكنولوجيات الزاحفة.

توزيع أكثر من عشرين عملاً لدو بيك داخل المسار الثابت لـ"متحف فلاندرز" يسمح برؤية بعض المؤثرات الفاعلة في فنه، والتي تعود إلى رسامين فلمنكيين كبار من القرنين السادس عشر والسابع عشر. وفي هذا السياق، يستحضر تجهيزه الضخم "فانيتي" (Vanity) لوحة مواطنه جاكوب فان إيس "طبيعة جامدة"، كما تستحضر لوحاته المائية الساحرة لوحات رسامي المناظر الطبيعية جيسبرخت لايتينس وجوس دو مومبر. ومع أن اللون الرمادي الذي يطغى على أعماله يتعارض مع الألوان البراقة الغالية على قلوب المعلمين الفلمنكيين، لكن مثل هؤلاء، نراه يسائل فيها غاية الأشياء والكينونة. وحتى في كمال أجساد منحوتاته، الذي استقاه من أعمال رسامي ونحاتي عصر النهضة الإيطالية، يتماثل دو بيك مع بعض رسامي وطنه الذين تبنوا قبله قوانين الرسم والنحت القديم إثر رواجها من جديد في إيطاليا مع انطلاق النهضة المذكورة.

لكن المقارنة مع وجوه الفن الفلمنكي القديم تتوقف عند هذا الحد. فسواء في أفلامه أو منحوتاته أو مائياته أو في تلك القطع التي يبتكرها كديكور لمسرحيات وأعمال أوبرا، يبقى دو بيك حداثياً وابن زمنه قبل أي شيء، يبرع في تشييد سرديات سوريالية شديدة التعقيد بأشكال وتوليفات مينيمالية. أما بالنسبة إلى اختياره تجنب الألوان في أعماله التصويرية وإسقاط سردياتها بلون واحد، رمادي، أو بالأسود والأبيض، فلا عبثية أو مجانية فيه، بل حيلة بصرية حاذقة تسمح بتعرية الظلال على سطح الواقع المجسد. أعمال تسمح أيضاً، بمراجعها السينمائية، بالإفلات من الظروف العادية للحياة اليومية، عن طريق خلقها فرصة لرؤية موضوعات مألوفة بشكل مختلف، جديد، كما تشكل، بتخيل الفنان فيها لحظات معلقة من التبصر أو الراحة أو النوم دعوة للمتأمل فيها إلى الاستسلام لتأمل صامت في الإمكانات المتوافرة خلف التجارب اليومية. من هنا وصف دو بيك لها بـ"الاقتراحات".

وفعلاً، تترك لنا هذه الأعمال الخرافية، الناتجة من عملية إخراج دقيق، خيار أخذها على محمل الجد، كما لو أنها نوع من الواقع الموازي، أو النظر إليها كمجرد تشييد بصري لا أكثر. ومن خلالها، يسائل دو بيك العلاقة المعقدة بين واقع وتمثيل، بين ما نراه وما نريد أن نصدقه، بين ما هو حقيقي، ملموس، وما نتخيله من أجل مواجهة بشكل أفضل تفاهتنا الوجودية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي بعض أعماله، ثمة جانب ساخر يدعو إلى التنسيب، كما في تجهيزه "منزل مجمع الفن" الذي يحتل 250 متراً مربعاً، ونشاهد فيه الفضاء الداخلي الفخم لمنزل مجمع فن، الذي يعج بالكتب القديمة الثمينة، بالتماثيل واللوحات الجميلة، وبحيوانات محنطة، ويتضمن بركة ماء داخلية تطفو على سطحها زهور زنبق الماء، لكن مهما بدا هذا الداخل فاخراً، يحضر كفضاء كامد، وحده المتأمل فيه، الذي يحق له أن يدور في أرجائه ويجلس على أرائكه المريحة، يضفي عليه قليلاً من الألوان.

وسواء كانت شديدة الضخامة أو صغيرة الحجم تتميز جميع أعمال دو بيك بجانب شعري أكيد يفسر سطوتها، ويحضر إما عن طريق المناخ الملغز الذي توحي به، أو من خلال تفاصيل صغيرة معبرة. ففي فيديو "إخراج الصمت" (2009)، نشاهد يدين مجهولتين تحولان باستمرار تحت أنظارنا معالم عالم مصغر. عمل يشكل خير شهادة بصرية حية على قدرة الفنان على خلق عالم خرافي كلياً، لكن يمكن التعرف إليه، انطلاقاً من عناصر زهيدة القيمة، كالقطن والورق المقوى والسكر، عناصر فانية مثل الحياة نفسها.

وفي تجهيزه "مدينة الملاهي" (2015)، لا يحتاج دو بيك إلى أكثر من مساحة صغيرة وأشياء قليلة لإسقاطنا داخل مدينة ملاهٍ مهجورة توحي أجواؤها بتوقف الزمن ونهاية العالم. تجهيز ساحر يتزامن إنجازه مع فيلم "زمن ليلي" الذي يشكل نقيضاً له، ولا يقل فتنة، بوضعه تحت أنظارنا مشاهد ليلية خارجية جامدة تعود فجأة إلى الحياة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة