Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الخبز والقمح... "ذهب الأرض" الذي يمنح المصريين الحياة

كتاب جديد للباحثة الأميركية جيسيكا بارنز أهمية "رغيف العيش" وعلاقته بالأمن الأساسي

رجل مصري يبيع الخبز خارج المسجد الأزهر في القاهرة  (أ ف ب)

ملخص

يتناول كتاب الباحثة الأميركية جيسيكا بارنز قصة القمح والخبز في مصر على مدار القرن الـ20 وحتى اليوم

شأن غالبية المصريين، كنت على موعد في أول أيام عيد الفطر الماضي مع وجبة ونزهة معاً. فبعد شهر رمضان الذي يندر فيه تناول السمك بشتى أنواعه، اتفقت مع صديق أن تلتقي أسرتانا لتناول الغداء في الهواء الطلق بأحد أندية القاهرة الاجتماعية العريقة، على أن يكون الغداء بالطبع من سمك الرنجة المدخن، والفسيخ (وهو سمك تعرض لظروف يستحسن لمن لا يعرفها ويألفها ألا يعرفها).

قبيل الغداء مررت بالمخبز القريب من النادي، فإذا به يبلغني أن الخبز نفد، وإذا بصديقي قد واجه المشكلة نفسها في مخبز قريب منه، وعرفنا أن حي مصر الجديدة كله خال من الخبز لـ48 ساعة مقبلة.

أخذت ابني واتجهنا إلى حي شعبي قريب، ومن هناك حصلنا على خبز طازج كاف لأسرتين، لكن فيما كنا نتنقل في الأزقة والحواري بحثاً عن مخبز يعمل، إذا به يطلب مني أن أخرجه فوراً من أجواء "جعفر العمدة" هذه.

فهمت، وإن لم أشاهد المسلسل، أن الشاب الصغير غير متآلف مع الضجة والزحام وتدافع التكاتك، وأنه يشعر بغربة، فرأيت ضرورة لأن أنبهه إلى أننا لم نزل في مصر، وأن أشياء كثيرة تربط هذا الحي بأحياء أخرى يرتاح إليها.

وقبل أن يسألني متبرماً عن هذه الأشياء، رأيت ألا أحاضره عن الوطن واللغة والدين، فحسبه في هذا المدرسة والمسجد والدولة كلها، ونبهته بدلاً من ذلك كله إلى رابط وطني حقيقي لا يربط المتعاصرين فقط بعضهم ببعض، وإنما يربط جيلنا بآباء لنا ماتوا قبل آلاف السنين.

لفت نظره فقط إلى رائحة الخبز الشهية المغرية، وكلمته عن الفسيخ والرنجة على موائد الجميع اليوم في كل الأحياء، وعن رائحة البصل التي ستفوح عما قريب من أفواه كل المصريين، وعن الخبز الواحد الذي تستسيغه ألسننا كلنا.

وكان يمكن أن أحكي له طويلاً عن الخبز بالذات، فقد عشت سنين خارج مصر، ورأيت كيف لمخبز مصري بسيط أن يجمع شتى طبقات المصريين في هذا البلد على نحو تعجز عن مثله دبلوماسية أمهر السفراء.

الخبز والحياة

للباحثة الأميركية جيسيكا بارنز الأستاذ المساعد بجامعة كارولينا الجنوبية قصة مع الشرق الأوسط يوشك أن يشاطرها بطولتها الخبز، ففي زيارتها الأولى إلى الشرق الأوسط سنة 1999 لزيارة أختها في الأردن كان لمقبلات "من قطع الخبز الطازج أثر علي يضاهي أثر مدينة البترا العتيقة"، بحسب ما تكتب.

 

 

وعندما عملت بعد ذلك في مركز بحثي فلسطيني لستة أشهر "كان مقصدي المفضل في بيت لحم مقهى أثرثر فيه مع الأصدقاء حول أطباق كبيرة من الخبز المقطع إلى لقيمات مقلية مرشوش عليها الملح والزعتر" ثم لما انتقلت إلى لبنان للتدرب في مشروع زراعي بقيت في ذاكرتها "المناقيش"، ثم لما انتقلت إلى حلب بسوريا في سياق بحثها لنيل درجة الدكتوراه كان ذلك في موسم الكرز فـ"كان ذلك صيف مربى الكرز والخبز"، ثم اضطربت الأوضاع السياسية في سوريا فاستحال على بارنز أن تكمل بحث الدكتوراه، ونقلت بحثها إلى مصر، حيث "العيش" كلمة تعني "الخبز" و"الحياة".

تلك كانت بداية رحلة جيسيكا بارنز مع الخبز التي انتهت إلى كتابها حديث الصدور بعنوان "الأمن السلعي: الخبز والقمح في مصر" الصادر عن مطبعة جامعة ديوك في عام 2022.

"لن أجوع"

عند انتقالها من سوريا إلى مصر، أقامت جيسيكا بارنز في قرية اسمها وردة بمحافظة الفيوم ابتداء من صيف 2007، ولم تكن بالقرية الصغيرة خيارات كثيرة لشراء الطعام عدا بائعتي فاكهة وخضراوات، وبضعة محال لبيع الشاي والسكر والرز والمكرونة "ومع ذلك، وبقليل من المؤن التي كنت أحضرها من القاهرة، كنت على ثقة من أنني يمكن أن أتدبر أموري، ففي وجود الخبز كنت أعرف أنني لن أجوع".

تكتب بارنز "شرعت أبحث عن مخبز في القرية فلم أجد، وفي بعض الأحيان كانت أكياس الخبر الأبيض (الشامي) الآتية من مخبز في قرية مجاورة تتاح لدى بائعتي الخضراوات، لكنها لم تبد قط شهية بقدر الخبز الطازج، وبين الحين والآخر كنت أمر بالمدينة القريبة فأشترى الخبز البلدي المدعوم من الحكومة لكنني زهدته لخشونته وسقم مذاقه، وكنت عند زيارة بيوت وردة، أتناول مع أهلها الطعام أحياناً فذقت خبزاً منزلياً لذيذاً، لكنه لم يكن للبيع. سألت عمن يمكن أن تخبزه لي، فإذا بالمرأة التي وجدتها تقول إنها لا تخبز أقل من 10 كيلوغرامات من الدقيق في المرة الواحدة. وعلى رغم أنني آكلة خبز نهمة، كان هذا القدر أكثر كثيراً مما أريد. وفي النهاية أمكنني أن أعيش بما أشتريه من طعام وما أتلقاه من خبز كلما خبزت إحدى النساء اللاتي كنت على معرفة وثيقة بهن فتعطيني رغيفين أو ثلاثة من الأرغفة الكبيرة المدورة، فأقسمها إلى أرباع وأجمدها في ثلاجتي إلى أن أحتاج إليها. وإذن، منذ بداية بحثي الميداني في مصر، كان الخبز شاغلاً لي".

في استعراضها للكتاب بعدد مايو (أيار) ويونيو (حزيران) 2023 من "فورين أفيرز" تكتب ليزا أندرسن أن مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، ومع ذلك فإن وارداتها من القمح لا تصل إلى نصف ما يستهلكه البلد سنوياً، فـ"المصريون يأكلون الخبز مع كل وجبة، والحكومة تدعم الخبز البلدي دعماً كبيراً، وبالنسبة لـ70 في المئة من حاملي البطاقات التموينية المصريين، تقل كلفة 10 أرغفة عن 10 سنتات، ومنذ وقوع تظاهرات الخبز التي قضت تقريباً على خطط عام 1977 لإصلاح الاقتصاد، حرصت الحكومات المصرية المتعاقبة حرصاً شديداً على ضمان برامج الدعم".

تكتب بارنز في تمهيد كتابها، أن الخبز شغلها منذ بداية عهدها بمصر، لكنها لم تفكر في أهميته إلا لماماً "كان تركيزي منصباً على الري، موضوع بحثي للدكتوراه، فبدا كل شيء عداه هامشياً. كنت فقط أرى الزحام أمام المخابز وألحظ الشكاوى من نقص الخبز المدعوم حكومياً، لكنني لم أبحث في تعقيدات برنامج دعم الخبز أو أفكر في تأثره من عدمه بأزمة الغذاء العالمية آنذاك.

تشير بارنز إلى أنها سجلت ملاحظات ميدانية حول ممارسات الزارعين الذين يزرعون القمح ويخزنونه في بيوتهم، "لكنني لم أتساءل إلى أين تذهب بقية القمح التي تباع للتجار، وكنت ألاحظ النساء إذ يتحلقن حول الأفران للخبز من دون أن أتوقف لأتساءل عن المدخلات التي يعتمد عليها ذلك الإنتاج".

الخبز هتاف الثورة

"وما كدت أحصل على الدكتوراه، وألتفت إلى أطروحة كتابي الأول، حتى قامت الثورة المصرية، فكان هتافها الأساسي المنتشر في التغطيات الإعلامية والأعمال البحثية والتعليقات السياسية هو "عيش، حرية، عدالة اجتماعية". والعنصر الأول في هذا الثلاثي، أي الخبز، يدعو جزئياً إلى حياة أفضل، لكنه أيضاً دعوة إلى الطعام الذي يشكل حجر الزاوية في وجبات المصريين، وهذا ما جعلني أستعيد ما عرفته عن الخبز في فترة عملي الميداني السابقة سنة 2007 و2008، كما جعلني أفكر في قصة الخبز وكيف تتضافر مع عمليات الزراعة والتجارة وطحن القمح الذي يصنع منه الخبز، وهذا الكتاب هو ثمرة جهدي لحكي هذه القصة".

بدأت جيسيكا بارنز بحثها الميداني الجديد لتأليف كتاب الخبز سنة 2015، فبدد البحث الميداني تصوراتها عن أنها ستكتب عن نقص الخبز وطوابيره الطويلة وتظاهراته "إذ لم أجد طوابير، بل وجدت برنامج الدعم الحكومي يجري إصلاحه، كما يجري استعمال بطاقات تموين إلكترونية، واكتشفت طرقاً لم أكن أدري في شأنها للتعامل مع الخبز في الشوارع والبيوت، واكتشفت أهمية تخزين الغلال الذي لم أوله من قبل اهتماماً يذكر".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتضيف "درست السجلات الأرشيفية لتعقب تدفقات الحبوب عبر الحدود التي جعلت القمح المصري على ما هو عليه اليوم، ودخلت العالم الغامض لتجارة الحبوب فوقعت على ما لم يكن لي به عهد من لغة وطريقة في التفكير بالقمح، ومع الارتفاع الشديد في كلفة الحياة بعد تخفيض مصر لقيمة عملتها ورفعها الدعم عن الوقود (التزاماً بشروط قرض صندوق النقد الدولي سنة 2016) لاحظت أن أهمية الخبز الرخيص تزداد بروزاً، وعندما وقعت جائحة فيروس كورونا في عام 2020، قرأت عن دعوات الرئيس السيسي إلى تخزين القمح في ظل مخاوف من انقطاع تدفقاته في التجارة العالمية، وبت أقدر كيف أن العجز عن الحصول على الرغيف اللائق يمثل خطراً وجودياً لأغلب المصريين".

"الأمن السلعي"

تسعى جيسيكا بارنز من خلال مفهوم "الأمن السلعي" إلى استكشاف طرائق الناس المختلفة في مجابهة هذا الخطر وتأمين الخبز. ويشير مفهوم "الأمن السلعي" إلى "جملة الممارسات الرامية إلى ضمان استمرار توافر سلعة أساسية على المستوى الوطني والأسري والفردي، بهدف معالجة المخاوف من غيابها وتلبية الرغبات في جودتها". وتتراوح هذه الممارسات -في حالة الخبز- بين توليد العلماء أنواعاً من القمح أكثر قدرة على مقاومة الآفات إلى طريقة المزارعين في نثر البذور إلى قيام الجهات الحكومية بشراء كميات ضخمة من الحبوب إلى إنتاج المخابز للخبز المدعوم بل وإلى طريقة حفظ الخبز في البيوت وتسخينه قبل الوجبات".

يتتبع الكتاب القمح منذ كونه بذرة، مروراً بزرعه وحصاده وتصديره، وتحولاته واستهلاكه في أنواع الخبز المختلفة. "وفي كل من هذه المراحل أتتبع السبل التي يعمل من خلالها مختلف الفاعلين لضمان استمرار توافر القمح الجيد والخبز الجيد".

يتناول الفصل الأول قصة القمح والخبز في مصر على مدار القرن الـ20 وحتى اليوم، فيتتبع تطور سلالات القمح لإنتاج محاصيل عالية المقاومة للآفات كثيفة الإنتاج وكيفية ارتباط هذا بالخوف من خطر الأوبئة أو نفاد الطعام في البلد، ويتتبع الفصل انتقال البذور من المراكز البحثية إلى الحقول وكل ما يتعلق بالزرع من تسميد وري وطرق في الزراعة إلى أن تتحول البذور إلى غلال. ولا يغفل هذا الفصل نقاط توتر في هذه الرحلة الطويلة بين مصالح المزارعين كما يرونها واعتبارات الحكومة، كما يتناول هذا الفصل الدسم تاريخ دعم الخبز في مصر وكيف دأبت الحكومات المتعاقبة على تحديد السعر والحجم والاستهلاك للخبز المدعوم لضمان توافر لا ينقطع.

"ذهب الأرض"

في "ذهب الأرض"، وهو الفصل الثاني، تتبع الكاتبة الرحلة من الزرع إلى الحصاد، مركزة على صغار المزارعين الذين يزرعون القمح لاستعمالهم المنزلي في المقام الأكبر، ودارسة سياسة تسعير القمح باعتبارها وسيلة تحفيز تستعملها الحكومة لمزيد من الزراعة.

ويتناول الفصل الثالث استيراد القمح وتخزينه باعتباره من ممارسات الأمن السلعي، ويدرس الفصل مختلف العناصر التي تحدد قدرة الحكومة على شراء القمح العالمي الجيد، ويتوقف طويلاً عند واقعة أثير فيها أخيراً جدل كبير في مصر حول استيراد قمح مصاب بفطر ضار.

اشتركت الباحثة مريم طاهر مع جيسيكا بارنز في كتابة الفصل الرابع الذي يتناول الخبز البلدي المدعوم الذي يعد أساساً للأمن الفردي والأسري، بل والقومي كله في واقع الأمر، ويدرس هذا الفصل طوابير الخبز التي تنم عن نقص المعروض منه، وتقطع الكاتبتان بانتهاء هذه الظاهرة إثر إصلاحات بدأت في عام 2014 وأدت إلى توافره كما أدت إلى خلق تنافس بين المخابز على الجودة، لكن الفصل يلفت النظر أيضاً إلى أن جودة الخبز تتعرض لاختبارات قاسية في ما بين بيعه واستهلاكه، وهذا ما يرصده الكتاب في صفحات مثيرة للغاية مخصصة لطريقة تعامل المصريين مع الخبز في الشارع والبيوت.

"الخبز المنزلي"

أما عنوان الفصل الخامس فهو "الخبز المنزلي" وواضح من العنوان ما الذي قد يكون موضوعاً لهذا الفصل، لكن ما قد يكون غير واضح لقارئ غير مصري هو أن هذا العنوان يصلح أيضاً لدراسة تطور المجتمع المصري، وبخاصة في الريف، على مدار العقود الماضية منذ ثورة يوليو (تموز) 1952، فانحسار ممارسة إعداد الخبز منزلياً كان مؤشراً واضحاً على اختراق الحداثة للقرية المصرية ممثلة في المخابز، وكان أيضاً مؤشراً إلى التخلي عن ممارسات ظلت جزءاً حياً من الثقافة المصرية منذ فجر التاريخ المصري، وكان أيضاً مؤشراً إلى ازدياد الاعتماد على الحكومة المركزية حتى في صلب الأمن الغذائي، وهذا من ناحية ثقل كبير على الحكومة، ومن ناحية أخرى هو بمثابة قوة أكيدة للحكومة.

 

 

مفهوم أن يكون هذا كتاباً واجب القراءة في مصر، لكن بارنز تراه ضرورياً لـ"جمهور أوسع من الجمهور المهتم بمصر فقط، أو حتى المهتم بوضع الخبز والقمح"، فهي ترى أنه قادر على مخاطبة المهتمين "بالغذاء عموماً، وبالتنظير العميق للسلع الغذائية الأساسية، وللعلاقة بين الغذاء والأمن"، ويتوجه إلى "الباحثين في الأمن، إذ يبين كيف يتسع الأمن إلى ما وراء المجالات العسكرية ليشمل التجربة المعيشة والغذاء على وجه التحديد، ويتوجه الكتاب إلى علماء الأنثروبولوجيا والجغرافيا المهتمين بالتفاعلات بين البيئة والمجتمع، ويقدم إطار عمل لفهم الأمن باعتباره جزءاً من طريقة تخيل الموارد وإدارتها على المستويين الوطني والأسري".

وقد يكون هذا كله صحيحاً أو لا يكون، لكنه بالنسبة إلي على الأقل، وربما لكثير من المصريين، أشبه بكتاب عن عزيز، فما لن يعرفه كثيرون أن علاقة المصريين بالخبز علاقة عاطفية أيضاً فضلاً عنها غذائية، ربما لم يعد أحدنا ينحني، كما فعلت أجيال سابقة، إن رأى لقمة في الطريق فيرفعها ويقبلها ويضعها بجوار الجدار لكي لا تدهسها الأقدام، لكن من المؤكد أن ثمة حناناً ما، ربما يكون متبادلاً بين المصريين والخبز.

وأعود في عجالة إلى تجربة ابني في عيد الفطر، لأقول فقط إن أربعة مصريين تتراوح أعمارهم بين الـ12 والـ16، لم يتناولوا في نزهة عيد الفطر تلك لا الفسيخ ولا حتى الرنجة، ذلك أن أربعة آباء أنا منهم لم يستطيعوا أن ينقلوا إليهم هذا التراث، ورضوا عن طيب آخر أن يتركوهم يطلبون عبر تطبيقات هواتفهم وجبات من ماكدونالدز.

عنوان: Staple Security: Bread and Wheat in Egypt 

تأليف: Jessica Barnes 

الناشر: Duke University Press

المزيد من كتب