ملخص
تطارد عمليات إطلاق النار الجماعي الضمير العام في الولايات المتحدة منذ زمن طويل
خلال الأسبوع الماضي وحده شهدت ثلاث ولايات أميركية ثلاث حوادث قتل جماعي رفعت إجمالي عددها لهذا العام إلى 184، وخلال العامين الماضيين قتل نحو 1800 وأصيب 19 ألف شخص جراء 1340 حادثة قتل جماعي، وفي أعقاب كل مرة تتساءل وسائل الإعلام والجمهور عن دافع القاتل بسبب الطبيعة الغريبة للهجمات، والصدمة المفاجئة، وحاجة الناس إلى الفهم بينما يتصورون أن القتل غير منطقي ولا معنى له، وفي مجتمع يمتلك نحو 400 مليون قطعة سلاح ويمكن شراء الأسلحة بسهولة من متجر محلي من دون فحص خلفية في بعض الولايات، حاولت دراسات نفسية واجتماعية الإجابة عن دوافع القتلة، فماذا وجدت؟
عدم اليقين
تطارد عمليات إطلاق النار الجماعي الضمير العام في الولايات المتحدة منذ زمن طويل، إذ يغمر كل تنبيه من الأخبار العاجلة البلاد بالحزن والخوف والغضب من أعمال العنف التي لا حصر لها، التي تحدث في المدارس ودور العبادة والمتنزهات ومحلات السوبر ماركت وغيرها من الأماكن التي يمارس فيها الناس حياتهم اليومية، ومع ذلك تبدو المشكلة مزمنة ومستعصية على الحل لأسباب عدة، أهمها انتشار السلاح بمختلف أنواعه بما في ذلك الأسلحة الهجومية في أرجاء البلاد جميعاً وسهولة اقتنائها، فضلاً عن تراخي السياسيين في فرض حظر على الأسلحة والجدل حول حماية الدستور الأميركي لاقتناء السلاح.
وفي حين تهتم السلطات ووسائل الإعلام بدرجة أكبر بحوادث إطلاق النار التي تشنها جماعات العنف المنظم والتنظيمات الإرهابية الدولية والمحلية نظراً إلى الدوافع المعروفة وراء هذه الهجمات من مزاعم سياسية أو اجتماعية أو أيديولوجية، إلا أن عدم اليقين في شأن دوافع المهاجمين الذين يطلقون النار بهدف القتل الجماعي، وليس لديهم أي هدف سياسي أو مجتمعي واضح، بدأ يستحوذ على اهتمام أوسع في السنوات الأخيرة بسبب تكراره وارتفاع عدد ضحاياه، والخوف الذي تزرعه في النفوس.
وعلى رغم تركيز بعض الدراسات على الجناة الذين لديهم دافع محدد مثل الحركات السياسية أو الاجتماعية أو الأيديولوجية، التي تعود إلى تاريخ طويل بدأ في أواخر القرن الـ19 حينما دعا المناهضون للسلطة، الأفراد إلى استهداف الحكومة والسلطات والبورجوازيين كوسيلة لجذب الانتباه إلى قضيتهم وتسببوا في اغتيال رؤساء الدول أو الحكومات في فرنسا وإسبانيا والنمسا وإيطاليا والولايات المتحدة على أيدي مهاجمين "أناركيين" خلال سبع سنوات فقط بين عامي 1894 و1901، إلا أن الدراسات الحديثة أولت قدراً واسعاً من الاهتمام للأشخاص الذين لا يتوافر لديهم هدف سياسي أو اجتماعي، ومع ذلك يشنون هجمات دامية في عمليات قتل جماعي بحسب راندي بوروم أستاذ دراسات الاستخبارات بجامعة "جنوب فلوريدا".
ظاهرة متكررة
يحدد القانون الفيدرالي في الولايات المتحدة، الصادر عام 2013، الحد الأدنى للقتل الجماعي بثلاثة أو أكثر من الضحايا، في حين حدد مكتب التحقيقات الفيدرالي منذ زمن بعيد القتل الجماعي بأربعة أشخاص على الأقل، ووفقاً لتحليل أجراه علماء من كلية هارفرد للصحة العامة وجامعة نورث إيسترن استناداً لبيانات أكثر من ثلاثة عقود، فقد دخلت أميركا منذ 10 سنوات على الأقل فترة جديدة أصبح فيها إطلاق النار الجماعي في الأماكن العامة حيث يكون فيها مطلق النار والضحايا غير مرتبطين وغير معروفين لبعضهم البعض ظاهرة متكررة ومثيرة للقلق على الحياة في أميركا المعاصرة وتجعل الجميع يشعرون بعدم الأمان نظراً إلى سقوط آلاف الضحايا من الأبرياء بين قتيل وجريح.
وفي أعقاب كل حادثة إطلاق نار تتدافع الأسئلة من وسائل الإعلام وعموم الناس عن دوافع القاتل وراء الهجوم الدموي، وتصف التقارير الإعلامية عادة دوافع مرتكبي هذه المذابح بناء على تفاصيل فردية محددة حول القضية، أو اعتماداً على بياناتهم أو منشوراتهم التي تركوها على وسائل التواصل الاجتماعي، وتسرد هذه المعلومات والبيانات بشكل عام الإهانات أو الرفض أو الإقصاء الذي تعرض له الجاني من قبل زملاء العمل أو الشركاء الرومانسيين المحتملين أو زملاء المدرسة التي قد يكون الجاني قد عاناها، وقد يستشهدون بأي تهديدات قد يطلقها مطلق النار لمن يتخيلهم أعداء متصورين مثل اليهود أو المسلمين أو السود أو اللاتينو أو الآسيويين أو أعضاء مجتمع "الميم".
وعلى رغم أن هذه الوسيلة قد تكون مفيدة حول طريقة تفكير مرتكب الجريمة، فإن أستاذ علم النفس بجامعة ماريلاند آري كروغلانسكي يرى أن هذه الدوافع تكون محددة بشيء ما، وأن قصة حياة كل مطلق للنار تعد فريدة من نوعها، ومع ذلك، فإن العدد المتزايد لعمليات إطلاق النار الجماعية يشير إلى اتجاه عام يتجاوز التفاصيل الشخصية.
فهم الدافع
الدافع هو البعد الذي يميز المدى الذي يكون فيه الهجوم مدفوعاً بشكل أساسي بشكوى معينة قد تكون سياسية أو اجتماعية أو أيديولوجية، وقد تكون شخصية مثل الرغبة في الانتقام، لكن محاولة تحديد سبب تصرف الفرد بطريقة معينة هي بالطبع ذاتية للغاية، وتصبح أكثر صعوبة إذا لم ينج المهاجم من الحادثة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد يكون تفسير الدليل بناء على الدوافع المفترضة أمراً صعباً، إذ قد تكون الأسباب التي يقدمها الجناة لهجماتهم هي الأسباب الحقيقية، وقد لا تكون كذلك عندما لا يروون القصة كاملة، ولهذا فإن الطريقة الآمنة هي النظر في الدوافع المتعددة وليس التركيز على تفسير رئيس واحد، لأن سبب الهجوم قد لا يكون بسيطاً كما يبدو في البداية حيث تتداخل الأسباب التي تؤثر في حياة الفرد وتؤدي إلى زعزعة استقرار طرقه المعتادة في التعامل مع التوتر.
البحث عن الأهمية
ومع ذلك، قد يكون من المدهش أن الدافع العام وراء إطلاق النار الجماعي يعود إلى حاجة إنسانية أساسية، وهي بحث الجميع عن الأهمية والشعور بأن حياتهم مهمة، إذ تنشط هذه الحاجة عندما يشعر شخص ما بفقدان الأهمية، والشعور بالإهانة أو الإقصاء، وأيضاً عندما تكون هناك فرصة لتحقيق هذه الأهمية بأن يكون موضع إعجاب أو بطلاً أو شهيداً في عيون الآخرين، وهو ما توصلت إليه دراسة ترأسها عالم النفس الاجتماعي بونتوس ليندر من جامعة "واين ستيت" على عدد من أصحاب الأسلحة الأميركيين، وتبين أن شعورهم بفقدان الأهمية مع تمكينهم من امتلاك سلاح يحفزهم أكثر على إطلاق النار والقتل، كما وجدت مراجعة عام 2020 لحوادث إطلاق النار الجماعي بين عامي 2010 و2019 أن 78 في المئة ممن أطلقوا النار بشكل جماعي في تلك الفترة كانوا مدفوعين بالبحث عن الشهرة أو السعي وراء الاهتمام.
وتفترض نظرية البحث عن الأهمية أن الحاجة إلى الأهمية أساسية وشاملة، وأن الحاجة إلى القيمة الاجتماعية تتم تلبيتها من خلال الشعور بالقيم التي يشاركها المرء مع الآخرين المهمين، في حين تعتمد وسائل إشباعها على السياق الاجتماعي والثقافي الذي يتم تضمين قيم الفرد فيه، كما تعد الأهمية حالة مثالية تتكون من تجربتين نفسيتين متكاملتين، الأولى هي الشعور بالتقدير والثانية إضافة القيمة حيث يمكن للبشر الشعور بالتقدير وإضافة قيمة إلى الذات والآخرين والعمل والمجتمع.
توازن مختل
لكن لسوء الحظ، لا تدعم الفلسفة النيوليبرالية السائدة في المجتمع الأميركي القيم المطلوبة لضمان تجربة الأهمية، ففي حين أن المجتمع السليم والعادل يتطلب التوازن بين قيم الرفاهية الشخصية والجماعية، فإن الفلسفة السائدة في أجزاء كثيرة من أميركا والعالم تفضل الشخصية على حساب القيم الجماعية، وأدت السياسات الاقتصادية والاجتماعية النيوليبرالية إلى تضاؤل الإحساس بالأهمية بالنسبة لملايين الناس، إذ يتحول بعض الناس تحت الضغوط الثقافية لتحقيق مكانة أعلى، إلى شخصيات كئيبة أو يصبحون عدوانيين، في حين أن بعض الفئات المهمشة تدعم بدورها السياسات المعادية للأجانب والقومية والشعبوية في محاولة لاستعادة الشعور بالأهمية.
ولكن إذا كانت الحاجة إلى الأهمية أساسية وشائعة لهذه الدرجة، فكيف يكون إطلاق النار الجماعي ظاهرة معزولة يرتكبها حفنة من الأفراد اليائسين وليس الجميع؟
يجيب العلماء المتخصصون على هذا السؤال بالإشارة إلى عاملين أساسيين، الأول يتعلق بتوافر رغبة شديدة لدى الجناة في دفع ثمن باهظ جراء إطلاق النار الجماعي، والثاني هو توافر درجة من المرض العقلي الذي يحفزه عدم التمكين وعدم الأهمية، وفي الحالة الأولى يتطلب الأمر ارتفاعات شديدة من الرغبة في دفع هذا الثمن الباهظ للسمعة السيئة المحتملة، كون أن إطلاق النار هو عمل متطرف يتطلب التضحية بالنفس، وليس فقط التخلي عن القبول في المجتمع السائد، ولكن أيضاً ينتج عنه احتمال كبير للموت في تبادل لإطلاق النار مع الشرطة أو قوات إنفاذ القانون.
وفي الحالة الثانية، تظهر الأبحاث أن نحو 25 إلى 31 في المئة من مطلقي النار بشكل جماعي، تظهر عليهم علامات المرض العقلي، والتي يحفزها شعور عميق بعدم التمكين وعدم الأهمية، وحتى النسبة الباقية ممن لا يعانون أمراضاً عقلية معروفة، من المحتمل أن يكونوا قد عانوا من قضايا بالغة لفقدان الأهمية، كما يتضح من تصريحاتهم الكثيرة حول الإذلال والرفض والإقصاء، فهم يعتقدون أنهم أو مجموعتهم عانوا على أيدي بعض الجناة الحقيقيين أو المتخيلين.
ومع ذلك، حتى الأشخاص الذين يريدون حقاً الشعور بالأهمية قد لا يطلقون بالضرورة النار بشكل جماعي بحسب كروغلانسكي.
اختصار الطريق للنجومية
والسبب في ذلك أن معظم الأشخاص الذين تتوافر لديهم دوافع عالية للشعور بالأهمية، يرضون غرورهم بشكل مختلف تماماً، ويركزون تطرفهم على مختلف المجالات المعتمدة اجتماعياً من إدارة أعمال، ورياضة، وفنون، وعلوم أو سياسة، لكن هذا لا يعني أن البعض يختار الطريق البغيض للسمعة من خلال تنفيذ مذبحة لأبرياء، وهؤلاء يتبعون طريقاً لهذا الجنون يتمثل في رغبتهم في نيل الاهتمام العام الفوري بالصدمة الذي يجذبه إطلاق النار، ففي حين أن النجاح في مهنة محترمة يستغرق وقتاً طويلاً وأشبه بتسلق تلة شديدة الانحدار وطريق محفوف بالعقبات والشكوك، فإنهم يحصلون على الاهتمام بشكل غير عادل وبقدرة غير عادية، وبإصرار واضح، لاختصار الطريق نحو النجومية.
وفي بلد يوجد به 400 مليون سلاح ويفتقر إلى عمليات التحقق من الخلفية في عديد من الولايات، يتمتع الناس بحرية شراء أسلحة هجومية من متجر محلي، بالتالي فإن التخطيط لإطلاق النار الجماعي وتنفيذه، هو طريق إلى الشهرة المفتوحة لأي شخص، وينتشر معها فكرة أن مطلق النار الجماعي يصبح مشهوراً.
الاحتفال بالقتل
لكن اللغز الأخير هو: إذا كانت الأهمية والاحترام هما ما يسعى إليه مطلقو النار الجماعي، فكيف يفعلون أشياء يحتقرها معظم الناس؟
ووفقاً لعلماء النفس، فإن المجال العام الممزق الذي تهيمن عليه وسائل التواصل الاجتماعي، يسهل العثور على شبكات من المؤيدين والمعجبين لأي شيء تقريباً، بما في ذلك أكثر الأعمال البغيضة وغير المعقولة من القسوة والعنف والكراهية، وهناك أدلة كثيرة على أن الذين يطلقون النار الجماعي يتم الاحتفال بهم من بعض الجماهير ويمكنهم أن يكونوا قدوة للأبطال المحتملين الآخرين الذين يسعون إلى التفوق عليهم في عدد الضحايا، ما يشير إلى حاجة مطلق النار المحتمل إلى أن يصبح مهماً أو سيئ السمعة أمام شبكة موجودة لدعم مثل هذا السلوك، مما يدفع الشخص إلى تنفيذ عملية إطلاق نار جماعي.
لكن هذا الإطار يثير أسئلة حول كيفية وقف انتشار هذا الوباء المروع الذي يصور العنف كمسار سهل للأهمية.
التغطية الإعلامية مهمة
التغطية الإعلامية وحدها لا تسبب إطلاق النار الجماعي، لكن تشير الأبحاث إلى أن التغطية الإعلامية عادة ما تركز بشكل أكبر على المهاجمين أكثر من الضحايا، وأن هذه الصور الإعلامية يمكن أن تغذي "تأثير العدوى" الموقت لعمليات إطلاق النار الجماعية، ووجد الباحثون في جامعة "ويسترن نيو مكسيكو" أن وتيرة عمليات إطلاق النار زادت بشكل يتناسب مع تغطية وسائل الإعلام الجماهيري ووسائل التواصل الاجتماعي.
وبالنظر إلى أن مطلقي النار الجماعي يسعون غالباً إلى الشهرة والإحساس بالأهمية، وقد يرغبون في محاكاة مطلق النار الجماعي السابق، فقد لا يكون تأثير العدوى مفاجئاً بشكل رهيب، إذا تمكنت وسائل الإعلام من الإبلاغ عن هذه الأحداث بشكل مختلف، لا سيما عن طريق تجنب تفاصيل الأسلحة المحددة المستخدمة وأساليب الهجوم، وعدم عرض حسابات المهاجم على وسائل التواصل الاجتماعي، وعدم الكشف عن اسم المهاجم على الفور، وعدم إجراء مقابلات مع الضحايا والناجين عندما يكونون أكثر عرضة للخطر.