ملخص
يراهن الشعب السوداني على دور سعودي يصون كرامتهم ويحفظ استقلالهم وسيادتهم
كاد ينطوي الشهر الأول منذ اندلاع المواجهات المسلحة في الخرطوم، في ظل أجواء الرعب وتوسّع شرارة النيران التي بلغت شرق دارفور، حيث تحاول ميليشيات الدعم السريع تأكيد حضورها. وتنذر هذه الحرب التي تنتشر كالنار في الهشيم بالتحول إلى نزاع طويل ودام، فالسودان مخزن بارود قبلي وعشائري وعرقي متعدد وسريع الاشتعال، بخاصة في ظل الفراغ السياسي، وشلل عصب الدولة في الخرطوم.
وتتركز آمال السودانيين في الاتصالات الجارية في جدة بين الجيش السوداني والدعم السريع، وهم يتوقعون قرب الفرج، تحديداً بعد التوصل في جدة يوم أمس إلى اتفاق مبدئي حول قضايا حماية المدنيين، والممرات الإنسانية الآمنة.
وتزداد آمال السودانيين اتساعاً بقبول المتصارعين الجلوس في السعودية، لما لها من مكانة خاصة في قلوب السودانيين جميعاً على مختلف مشاربهم وأعراقهم، ولأن الرياض كانت وما زالت ترى في أوضاع السودان أبعاداً استراتيجية تمس أمنها القومي فقد حضرت بقوة في المشهد السوداني منذ أفول نظام البشير، داعمة خيارات السودانيين في الانتقال إلى الحكم المدني بعد عقود من حكم العسكر تحت عباءة الحركة الإسلامية.
ولهذا، لا يمكن لأي جهد دولي أن ينجح في حلحلة العقدة السودانية ما لم يكن بحضور عربي، وهنا فإن حضور الدبلوماسية السعودية محوري، لمعرفتها العميقة بطبيعة وظروف وخصوصيات المجتمعات السودانية، والاختلافات بين أهل النيل (البحر)، وأهل الشرق، وأهل الغرب، وملابسات الأحداث التي أدت إلى انفجار الأوضاع، أكثر بكثير من القراءات الفوقية للأوساط الغربية، المتطلعة لإسقاط تصوراتها على شعوب المنطقة أسوة بنظرية الشرق الأوسط الكبير، أو تلك المناورات من بعض دول المنطقة التي باتت تروّج للفوضى لتحقيق مكاسب أنانية.
وعلى رغم إصرار الجيش السوداني على أن وجوده في جدة متصل ببحث الهدنة الإنسانية وآليات استدامتها، وأنه يرفض إجراء مفاوضات سياسية مع ميليشيات مسلحة، آن أوان إخراجها من المعادلة السودانية وسرعة دمجها في المؤسسة العسكرية لإعادة تأهيلها، فإن الأهم في الأمر بقاء الاتصالات مفتوحة في جدة، لمعالجة الأمر برمته وإخراج السودان من نفق الحرب المظلم.
ولا يتصوّر المتابعون لمشاورات جدة أن تسعى الجهود السعودية - الأميركية المشتركة للتوصل إلى قبول الطرفين العودة إلى ما قبل 15 أبريل (نيسان) الماضي، وإلى حال التوازن المشحون بالتوتر بين الجيش والدعم السريع، وهو الذي تسبب في إجهاض مفاوضات استمرت 18 شهراً، وكانت الرياض من رعاتها الرئيسيين. فما شكل الحل الممكن الذي يأخذ بيد السودانيين إلى الأمام، ولا يعيدهم إلى المربع الأول؟
جبال التحديات
ومن هنا فإن المساعي الدبلوماسية السعودية التي تجري بعيداً من الضوضاء والإعلام، وتحوز قبولاً واسعاً من جميع الأطراف العسكرية والمدنية، تتوخى الحذر لإنضاج أفضل الظروف لإخراج السودان من محنته المستفحلة، وقطع الطريق على أمراء الحرب الذين يعبثون بالسودان ومقدراته. وهي مساع تقف دونها كثير من التحديات، ربما يكون أبرزها وجود جيشين، أحدهما رمز للسيادة الباقية للسودان، وآخر ميليشياتي يسعى للحفاظ على مكتسباته التي حققها زمن نظام البشير، واستمر في تحصينها عبر التفاهمات مع البرهان في أكتوبر (تشرين الأول) 2021.
ويرى المحللون للشأن السوداني أن الجيش لا يمكنه حسم معارك شوارع المدن لعدم جاهزيته لحروب العصابات، ولذلك لجأ إلى التفوق الجوي لضرب أرتال الدعم السريع وإمداداته اللوجيستية. ولا يحدث التفوق الجوي فرقاً في حروب المدن، نظراً إلى احتماء الدعم السريع بأحياء السكان المدنيين والمنشآت الحيوية.
وبالمقابل لا يمكن لميليشيات الدعم السريع الانتصار على الجيش النظامي إلا بضربة حظ، وهو ما جرّبت القيام به منذ اليوم الأول لبدء المواجهات، لمحاولة الفوز برأس قائد الجيش، وهي تعتمد على مَدد متواصل يصلها عبر إقليم دارفور، ليس مدداً بشرياً فحسب، لكن عبر مسارات التهريب في المناطق المتاخمة لتشاد وليبيا، وهذا ما يرشح في حال فشل جهود جدة في ديمومة الصراع لأمد غير مسمى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
معلوم أن سبب الأزمة الأخيرة يتلخص في الفترة الزمنية المقترحة لدمج الدعم السريع في الجيش، ما بين سنتين اقترحها قائد الجيش، وعشر سنوات يصر عليها حميدتي. وفيما تدعم القوى المدنية والديمقراطية مقترح البرهان، يراهن حميدتي على الفترة الزمنية الطويلة لتعظيم إمبراطوريته، وهو يدرك أن الاتفاقات في المناطق التي مزّقتها الحروب في أفريقيا نادراً ما تصمد أمام اختبار الزمن، ولذا فهو يعتقد أن فترة العشر سنوات قد تسمح له بالمناورة إذا ثبت بأن عملية الانتقال إلى الحكم المدني صارت معادية لمصالحه.
وفي الحقيقة فإن الديمقراطية ليست في قاموس حميدتي، وهو يحاول عبر القوة توفير الضمانات التي تمكّنه من السيطرة عليها، وقد وجد في الماضي ضالته في السيطرة عليها عبر البرهان. لقد سمح البرهان لحميدتي بالتمدد على حساب الجيش في العاصمة، حتى وصل إلى مناطق ومنشآت حيوية مثل القيادة العامة للقوات المسلحة. إلا أن البرهان استفاق على وقع الكارثة، وعلم فداحة خطأه بحق الدولة والمؤسسة العسكرية السيادية.
ويرى المراقبون أن دمج الدعم السريع شرط لا غنى عنه لاستقرار السودان في المستقبل، وبناء دولة ديمقراطية مدنية، وهم يرون أن حميدتي لا يمكنه القبول بالديمقراطية بمفهومها المطروح، ما لم تكن تحت مظلته. وإن صحت الأخبار من أن الجيش تمكّن خلال العمليات المتواصلة خلال الشهر الماضي من تحجيم قوة الدعم السريع، فإنه يكون قد سرّع بانصياع الدعم السريع وقبوله للمخرج من المأزق السوداني، وهو ما يمكن أن يتمخض عن مشاورات جدة بخروج قوات الدعم السريع المنتشرة في الأحياء وبين السكان إلى معسكرات محددة، ربما بوجود مراقبين عسكريين سعوديين أو هجين عرب أفارقة.
حميدتي والحل!
ويجمع المراقبون للشأن السوداني أن شخصية حميدتي لا يمكنها أن تُسهم في صناعة مستقبل الحكم المدني في السودان، فهو أمير حرب استفاد من الفوضى التي خلقها نظام البشير للصعود إلى السلطة، وتمكن خلال فترة قياسية من بناء إمبراطورية اقتصادية ضخمة أصبحت بالغة الأهمية من تعدين الذهب في دارفور ومناطق أخرى من السودان، ومن الزراعة، وتجارة المواشي. ولا يمكن لحميدتي بأي حال من الأحوال تقبل فكرة الانتقال الديمقراطي، التي تعني بالضرورة مصادرة الثروات التي نهبها.
لقد خلف حميدتي خلال السنوات الماضية عداوات واسعة بين كل القبائل العربية والزنجية، وعمّق العداوات بين أهل وسط وشرق، وغرب السودان، وامتدت هذه العداوات إلى داخل قبيلة الرزقيات التي ينتمي إليها، ولم يعد يتوافر على حاضنة شعبية أو قبلية يستند إليها، غير الثروات التي استحوذ عليها في مناطق السودان المختلفة، التي يدفع منها بسخاء لمقاتليه. ومن هنا فإن تقديم الضمانات له، ومنحه عفواً عاماً هو أفضل المخارج الممكنة للأزمة السودانية، وربما يتم استقباله في إحدى الدول لإغلاق ملف الحرب السودانية.
ويتخوف السودانيون مما سمّوه بمشروع تقسيم السودان، وتعزيز التدخل الخارجي، تحت مسمى تسوية تبدأ بوقف إطلاق النار، تعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل بدء المواجهات. ومن هنا فإن الشعب السوداني يراهن على دور سعودي يصون كرامة السودانيين، ويحفظ استقلالهم وسيادتهم، وهم يدركون أن الحديث عن الانتقال إلى الحكم المدني شديد التعقيد ومفتوح على كامل الاحتمالات، نظراً إلى الفشل في بناء نموذج لدولة وطنية جامعة، فالسودان غاب عنه الحكم المدني طويلاً، حتى إن فترة قيادة حمدوك للحكومة التي امتدت لسبعة عشرة شهراً كانت محدودة من حيث العطاء، والإصلاحات التي قدمتها. ومن هنا فإن التحول إلى الدولة المدنية يجب أن يكون بضمانات الجيش الحامي، والرمز الباقي للسيادة السودانية. وهذا يعني بالضرورة إصلاح المؤسسة العسكرية وتغيير قياداتها.