ملخص
كيف حال المبدعين العرب في المهجر؟ وما أبرز التحديات؟ وكيف يمكنهم التعامل مع إشكالية تحقيق التوازن بين ثقافتهم الأصلية وثقافة البلد الجديدة؟
على مدار السنوات تواجد الفنانون والمبدعون العرب في المهجر في كل أنحاء العالم، اختلفت الظروف والتحديات التي واجهوها باختلاف المرحلة الزمنية والظروف التي دفعتهم إلى الهجرة، فبينما تكون سياسية عند بعض فإنها تصبح اقتصادية لدى آخر، أو ربما تتعلق بالبحث عن مزيد من الحريات، أو عن فرصة وبيئة أفضل تحتضن إبداعه، لكن تبقى الأسباب متعددة والحلم واحد، ألا وهو الرغبة في الوصول إلى حال أفضل.
ولا تعد هجرة الفنانين والمبدعين العرب جديدة إلا أن السنوات الأخيرة شهدت زيادة في هذا الاتجاه تواكباً مع ما شهدته بعض الدول العربية من أحداث سياسية، آملين في حياة جديدة يكون لإبداعاتهم مكان، وسط ثقافة جديدة ليصبح بعض منهم جسراً للتواصل بين الشرق والغرب.
ولدى قطاع كبير من العرب عند الحديث عن المهاجرين لدول أجنبية، فإن الانطباع العام يكون متعلقاً بالفرص المتاحة والحياة السهلة والأموال الكثيرة، غير أنه على أرض الواقع، الأحوال لا تكون بهذه السهولة، فالمنافسة في هذه البلدان شديدة الصعوبة والتحديات كثيرة.
مبدعون عرب في المهجر تحدثوا إلى "اندبندنت عربية" عن تلك البيئة الجديدة التي هبطوا إليها، وعن أحلامهم، والصعوبات التي واجهتهم، وكيف تغلبوا عليها، وماذا يأملون وما ينتظرون، وكيف حققوا التوازن بين ثقافتهم الأصلية المستقاة من وطنهم الأم والثقافة الجديدة لبلد الإقامة ولمن فيهما كانت الغلبة؟
المهجر ليس الجنة
يقول الفنان التشكيلي والمخرج السينمائي اليمنى حميد عقبي، "الفنان العربي عندما يكون في المهجر تنتابه حالة من الحنين إلى وطنه الأم، تنعكس بدرجة كبيرة على أعماله، لكن المجتمع الجديد هو أيضاً مجتمع إنساني، فالثقافة هي غوص في عمق الإنسان، تبحث عن قيم مثل الأمل والسعادة والحلم، كل الثقافات فيها صبغه إنسانية يبحث عنها المبدع الذي يهتم بالقيم الإنسانية على إطلاقها".
ويضيف عقبي، الذي يعيش في فرنسا، "الفنان العربي المهاجر يجب أن يسعى لتقديم ثقافة بلده في المحافل الدولية المختلفة والتعريف بها، وإظهار كل جميل من حضارتنا العظيمة، وهذا بعكس ما يفعله البعض من إظهار لمساوئ مجتمعاتنا العربية، ولا يقتصر هذا على العرب، إنما يمتد إلى مهاجرين من جنسيات مختلفة".
وعن أسباب الهجرة، يوضح "بعضها قد تكون اقتصادية أو سياسية، فلا أحد يحب الاغتراب عن وطنه، وحتى إن وجدت بعض المميزات في البلد الجديد مثل مزيد من الحرية التي تساعد على الإبداع، فإن الظروف العامة حالياً أصبحت صعبة في كل البلاد، وربما كانت أفضل في فترات سابقة، المهجر ليس الجنة كما يعتقد البعض وليس انطلاقة للعالمية، على رغم أن بعض التجارب لعرب مهاجرين تحقق نجاحاً باهراً إلا أنه حالياً توجد كثير من المعوقات التي يعانيها الفنانون، ومنهم أصحاب البلد أنفسهم باعتبار أنه لا يوجد دعم كاف حالياً للفنون بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة على العالم كله".
تقبل الآخر
بينما تقول الفنانة المخرجة الجزائرية تونس آيت، "الثقافة الأساسية تبقى في ذاتنا مهما اختلفت البيئة، لكن ما يتغير هو أسلوب الطرح، نحن نصبح مجبرين على اختيار طريقة تجعل الآخر يفهمنا فهو أيضاً يحمل ثقافته التي تمثل لنا تجارب جديدة وانسجامات وتلاحماً للثقافات حتى ولو كانت بعيدة كل البعد من ثقافتنا".
وتوضح آيت أن همها الأساس "هو كيف أجعل تراثي الأمازيغي والعربي له حضور مع الثقافات الأخرى الموجودة على اختلافها (الفرنسية، والأفريقية، والباكستانية، والآسيوية وغيرها)، فالتعاونات الفنية لها قيمة كبيرة في حالتنا، وتجعل الأمر أقرب للجمهور سواء من العرب أو من الجنسيات الأخرى".
وتضيف المخرجة الجزائرية، التي تعيش في فرنسا الآن، "قدمت تجربة فنية رائعة أخيراً، تعاونت فيها مع خمس جنسيات على اعتبار أن ما يجمعنا هو الرغبة في الإبداع الإنساني، على رغم اختلاف الثقافات والعادات والجنسيات، وبالنسبة إلى إقامتي في فرنسا فالتعاونات العربية الأوروبية تعد الصيغة الأفضل، فهي الطريقة المثلى بالنسبة إلى التعريف بثقافتنا وواقعنا العربي".
وفي رأي آيت التحديات التي يواجهها الفنان العربي في المهجر هي "أن يكون ملماً بالتقنيات الحديثة وأساليب الطرح، إضافة إلى العمل على إيجاد تمويل ومنتجين للأعمال الإبداعية، نحن نأمل أن يكون هناك صندوق للإبداع الثقافي العربي، لأن هذا سيجعل الإبداع العربي موجوداً على الساحة بصورة أكبر".
السؤال المؤرق: ماذا أقدم في العالم الجديد؟
ومنذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين هاجر كثير من الكتاب والشعراء والمثقفين من الدول العربية إلى الخارج لأسباب متعددة، حتى إن بعضاً منهم أنشأ رابطة أو جماعة عرفت بشعراء المهجر ما زالت أعمالها تحظى بالدراسة حتى وقتنا الحالي باعتبارها أعمالاً جاءت من وحي الاغتراب الذي انعكس على كثير من المضامين التي حملتها، توالت الكيانات التي كونها هؤلاء الشعراء في ذاك الوقت لتظهر جماعات مثل ما أطلق عليه (الرابطة القلمية) عام 1920، وضمت الشعراء والمهاجرين إلى أميركا الشمالية، ومن بينهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي، و(العصبة الأندلسية)، التي ضمت شعراء مهاجرين إلى أميركا الجنوبية.
سرجون كرم، الكاتب الشاعر اللبناني أستاذ اللغة العربية وآدابها بجامعة بون في ألمانيا، إلى جانب أعماله الشعرية تبنى مشروعاً رائداً لترجمة الشعر العربي الحديث إلى اللغة الألمانية صدر عنه حتى الآن نحو 20 كتاباً مترجماً إلى الألمانية لتعريف المجتمع بجانب من الثقافة العربية، وليكون لها تواجد في المكتبة الألمانية.
وعن تجربته الممتدة في المهجر يقول كرم "كل احتكاك لثقافة بأخرى سيولد وجوهاً وأنماطاً ثقافية جديدة، ومع الوقت سيفرض ثقافة جديدة، وكل ثقافة في جمالياتها وأخلاقياتها هي عالمية، وتسعى أن تمتد إلى عوالم أخرى، فوضع المهاجر أشبه بعملية انتقال بالغرفة الصغيرة من الوطن الأم إلى موطن آخر، لكن صاحبها يبقى داخلها ولم يغادرها، لا بل يتضخم بحجم هذه الغرفة ليعتقد أن ثقافته الأساسية المكتسبة هي أصل المعرفة والفن والجمال، لكنه بالنسبة إلى العالم الخارجي يبقى غرفة مغلقة".
ويوضح كرم، "الثقافة الجديدة ليست فقط أفكاراً وكتباً، بل هي الحياة الجديدة بناسها ومبانيها وتاريخها ونزهاتها وطبيعتها. وعملية تحقيق التوازن هو تحجيم للثقافة الأصلية وخنقها، وتبني الثقافة الجديدة بالكامل نابع من هوية مهتزة لا يمكن أن تقدم لعالم الجمال شيئاً، أما أن نقف بنوافذ وأبواب مفتوحة فسيحقق لنا بالتأكيد رائحة مختلفة ولوناً مختلفاً لجلودنا الأصلية تحت شمس أخرى".
ويضيف، "التحدي الأول الذي يجب على المبدع العربي أن يواجهه في المهجر هو أن يطرح على نفسه هذا السؤال، ما الجديد والمميز الذي يمكن أن أقدمه؟ وهل لدي بخلفيتي الثقافية شيء يمكن أن أقدمه إلى هذا العالم الجديد، كقادم من عالم مشتعل وممزق إلى آخر هادئ وعامل ومنظم يقرأ طالب المدرسة فيه على الأقل كتاباً في الأسبوع، وإن لم نبالغ كتابين في الشهر. هناك فئة ضئيلة من المبدعين التي تفرض نفسها بمجرد وصولها إلى العالم الجديد، والبقية يتقدم به العمر، وهو يحاول أن يؤقلم نفسه ويفتح أبواباً له ليجد أن أبناءه قد تجاوزوه فكرياً وثقافياً بحكم انغماسهم في المدرسة والجامعة وجيل الشباب الذي هو من يضع الثقافة العامة ويحددها".
الموسيقى لغة عالمية
من بين الفنون التي يمكنها اجتياز حواجز اللغة والثقافات المختلفة هي الموسيقى، بوصفها تخاطب إحساس الإنسان ووجدانه وتصل إلى مشاعره بشكل مباشر لا يحتاج إلى ترجمة أو تفسير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول الموسيقار المصري المقيم في فرنسا جان كلود أورفلي، "الفنان يقدم فنه إن كان متأثراً بثقافته الأساسية أو بالثقافة الجديدة، أو حتى متأثراً بدراسته وميوله الفنية التي قد تميل أكثر إلى جذوره أو لثقافة أخرى، فإن كان الفن أصيلاً ونابعاً من وجدانه فهو سوف يخاطب وجدان المتلقي بغض النظر عن حواجز اللغة والثقافات المختلفة طالما كان إبداعاً حقيقياً، فعندما غنت السيدة أم كلثوم في باريس استقبلت بحفاوة، وحققت نجاحاً ساحقاً على رغم حاجز اللغة، لأنها فنانة أصيلة، تحترم نفسها وفنها، ولأن الشعوب الغربية لديهم احترام وتقدير لكل الفنون، ويتفاعلون مع كل ما هو جيد وجميل، وأيضاً السيدة فيروز عندما تغني فإن صوتها العذب وأغانيها الجميلة تستقبل بشكل عظيم من قبل الثقافات والجماهير الغربية والأجنبية".
ويضيف أورفلي، "لا غلبة في الفن، لأنه لا يوجد فيه منافسة من الأساس، الفن يشبه أكثر مفهوم الحب والسعادة الذي فيهما المشاركة، واللذان يتكاثران إن تشاركنا بهما ويعمان على الجميع من دون حساب، الفن لا يوجد فيه فائز أو خاسر، مثل مسابقات الرياضة مثلاً، إنما أياً كان لون الفن فلو كان جميلاً فهو يعم بالسعادة على الجميع".
البحث عن القيم المشتركة
من بين المجالات التي يبدع فيها كثير من العرب المقيمين في دول أجنبية هي المجالات البحثية والأكاديمية، فتضم الجامعات الكبرى في العالم كثيراً من الباحثين العرب الذين يصبح بعض منهم من الكوادر المهمة في الجامعات والمراكز البحثية التي ينضمون إليها.
المؤرخ الفلسطيني محمد مرقطن، المتخصص في لغات وحضارات الشرق القديم بجامعة مونستر بألمانيا، يقول "في المجالات البحثية والأكاديمية أحياناً يفتقد العربي المهاجر فكرة التوازن، باعتبار أن المنتج العلمي لا بد أن يتم إنتاجه بلغة البلد التي يقيم فيها، لكن هل يمكن أن يسعى لوجود ترجمات عربية لهذا الناتج؟ إلا أنه من المفارقات أن ما ينشر باللغة الإنجليزية مثلاً قد يكون مقروءاً بدرجة أكبر عند الباحثين العرب أكثر من المنشور باللغة العربية".
ويضيف مرقطن، الحوار والتواصل بين الثقافات يحتاج إلى خطوات متعددة، من بينها أن ندرس أدوات الثقافة ونطور طريقتنا في التعامل مع الآخر مثلاً لبحث القيم الثقافية المشتركة ومحاولة فهم طبيعة المجتمع، فالعالم العربي على رغم اتجاهه إلى الفردية فإنه لا يزال يقوم بدرجة كبيرة على مفهوم العشائر والقبائل بعكس الواقع في الخارج، فعلينا أن ندرك خصوصية المجتمعات وقيمها كنقطة للانطلاق منا للتواصل معها".
ويلفت المؤرخ الفلسطيني إلى أن مصطلح الشرق والغرب المستخدم بكثرة هو أقرب إلى "الأسطورة منه للحقيقة، لأنه انطلق من اليونان عندما هاجمهم الفرس باعتبار أن الشرق وقتها عدو يهاجم اليونان، فأصول المصطلح وتطوراته بحاجة إلى إعادة نظر، وفي الوقت ذاته علينا أن نميز ما بين الاستشراق والدراسات الشرقية فمع نهاية السبعينيات أصبح هناك اعتراض من كثير من المراكز البحثية الكبيرة على مصطلح الاستشراق باعتباره مرتبطاً بالاستعمار".
لا دعم للمبدع العربي
المنافسة في كل التخصصات تكون صعبة بين أهل البلد الأصليين أنفسهم فما بالنا بالمهاجر العربي الذي يتلمس خطواته في مجتمع جديد. الشاعر والكاتب بدر السويطي تبنى تجربة لإنشاء دار للنشر مقرها بلغاريا كمحاولة لنشر إبداعات الكتاب العرب المقيمين في المهجر وعن تجربته يقول "التحديات التي يواجهها العرب في المهجر كثيرة ومتعددة، ويمكن القول إن أهمها عدم وجود الدعم فيضطر المبدع إلى تقديم مشروعه الإبداعي بمجهود فردي، وبإمكانات محدودة، بخاصة عندما يكون في الخارج فهو يناضل من أجل إثبات ذاته في مجتمع جديد بمعايير مختلفة".
وعن دور المثقفين العرب في تقديم ثقافتهم للخارج يضيف السويطي "هذه ظاهرة إيجابية وبما أن المبدع والفنان ليس نسخة مقلدة أو مكررة من الآخر فيتوجب عليه تقديم ثقافته وهويته دون الوقوع في فخاخ عقدة النقص والدونية تجاه الآخر، أما في ما يتعلق بالقبول أو عدمه فهذا لا يمثل عائقاً من تقديم الثقافات حول العالم، لأن من لا يقدم ثقافته وهويته ولغته الأم لا يحترمه العالم، وبإمكان الفنان والمبدع أن يحقق التوازن في إبداعه الفني بالارتكاز على ثقافته الأساسية ولغته الأم ليكون قادراً على تحقيق التوازن والاندماج في الثقافة الجديدة والمختلفة، ونظراً لهويته التي جاء بها إلى المكان الآخر، فهو هنا يحقق ذاته ويوصل رسالتها الإبداعية والفنية بواسطة قدرته على التأقلم وقبول الثقافة الجديدة".