ملخص
يتحدث أهالي ناحية الصقلاية عن أخبار تشير إلى وجود أبنائهم في معتقلات بمنطقة جرف الصخر، وآخرون يتحدثون عن مقتلهم ودفنهم في مقابر غير معروفة من قبل الميليشيات.
طرقت سعدية حمد خلف كل الأبواب بحثاً عن أبنائها التسعة المختفين قسرياً فلم تحصل على إجابة واضحة حول مصيرهم، وأنهكها البكاء والانتظار لكنها لم تفقد الصبر والأمل بالعثور عليهم.
أبناء سعدية التسعة ليسوا وحدهم المفقودين في قرية البوعكاش بناحية الصقلاوية الواقعة على بعد 10 كيلومترات شمال غربي مدينة الفلوجة شرق محافظة الأنبار العراقية، والغريب أن جميع أبناء القرية في عداد "المختفين قسرياً".
وتقول خلف لـ "اندبندنت عربية" إنه "مع بدء عمليات التحرير وشدة القصف رفعنا الرايات البيضاء وتركنا منزلنا متجهين إلى القوات الأمنية التي كانت متوقفة قرب مقبرة البوعكاش، ومع وصولنا تم فصل الرجال وطالبوا النساء بالاستمرار في السير، وعندما سألتهم عن أبنائي قالوا إن هناك تدقيقاً أمنياً سيخضع له الرجال، وهي إجراءات عادية وسيعودون إليكم بعد اكتمالها".
وتتساءل خلف، "هل من المعقول أن يستمر التدقيق الأمني لمدة ثماني سنوات من دون معرفة أماكن اعتقالهم أو مصيرهم؟".
ولم تدرك خلف أن مقبرة قرية البوعكاش ستكون مكان الفراق الطويل عن أبنائها التسعة، وهي الآن تعيل 14 حفيداً من دون أي مصدر للعيش، فأبناؤها كانوا يعملون في البناء وحالهم المادية جيدة قبل أن يتغير الحال باختفائهم وهدم بيتهم بسبب عمليات التحرير.
وفقدت خلف زوجها قبل سنوات طويلة، وتولت تربية أبنائها الأيتام وتواصل الآن المهمة نفسها مع أحفادها بعد غياب آبائهم ومصيرهم المجهول حتى الآن.
وتقع ناحية الصقلاوية على بعد 65 كيلومتراً عن العاصمة بغداد، وهي منطقة زراعية يعمل سكانها في الفلاحة وأعمال البناء، ومع بدايات عام 2014 سيطرت "داعش" على المنطقة، وفي السادس من يونيو (حزيران) 2016 أعلن تحرير الناحية بالكامل من التنظيم.
وأنهى تحرير الناحية معاناة الأهالي مع "داعش"، لكنه كان يضمر لهم مصاعب أخرى، إذ تزامن معه تغييب لرجال القرية من قبل القوات الأمنية والميليشيات، وبلغ عددهم 700 شخص بينهم أطفال في عمر 12 سنة.
قرية العباءات السوداء
تعرف البوعكاش مجازاً بـ "قرية العباءات السوداء"، في إشارة إلى وجود النساء فقط من دون الرجال. وتقول صبرية ناجي إبراهيم "فقدت زوجي وإخوتي الأربعة وأبناء عمي وعمي، فبعد خروجنا مع بدء عمليات التحرير من ’داعش‘ تم اعتقال الرجال، ولم نتمكن من معرفة مصيرهم وهل هم أموات أم أحياء في السجون أو المعتقلات".
الإقرار بالوفاة
ويعاني أهالي الصقلاوية الفقر وضيق اليد بسبب غياب المعيل، كما أن بعضهم موظفون في الدولة وانقطعت رواتبهم بسبب غيابهم، ولا بد من اللجوء إلى الإقرار بوفاة المتغيب عبر القضاء لكي يحصلوا على مستحقاتهم المالية، وهو ما تمتنع منه عائلاتهم لأن ذلك يعني بحسبهم تنازلهم عن الأمل بالعثور عليهم أو قد يعطي هذا الإجراء الضوء الأخضر لتصفيتهم من قبل الجهات التي غيبتهم في حال وجودهم في معتقلات سرية.
تقول سعدية حمد خلف، "كيف يمكن لي أن ألجأ إلى القضاء لكي يقرر وفاة أبنائي حتى أحصل على حقوقهم المالية، وأنا التي شاهدت اعتقالهم وهم أحياء من قبل القوات الأمنية، ولن أقدر على الإقرار بوفاتهم لحين معرفة مصيرهم".
ويقول القانوني علي أمين إن المفقود أو المغيب في حال وجود مؤشر أمني عليه من قبل جهاز الاستخبارات والأمن الوطني، لا يحق لذويه إصدار قسام شرعي أو حجة وصاية مما يعني فقدان كامل لحقوقهم، إذ الرأي القانوني بهذا الجانب ينص على أن "الشخص إذا كان مفقوداً أو مغيباً لا بد من منح عائلته الحقوق التي تضمن رواتبه التقاعدية أو يمنح لهم الحق بالتصرف بأمواله وممتلكاته، فلا يمكن أن يمتد الموقف الأمني لذوي المغيّب"، لكن أمين أوضح أن هناك محافظات مثل صلاح الدين والأنبار بدأت بخطوات جريئة لمنح الحقوق لذوي المغيبين حتى مع وجود سجل أمني له، وهو يراها خطوة مهمة لإنصافهم.
التزامات دولية
وفي الرابع من أبريل (نيسان) 2023 أصدرت لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري تقريرها الخاص بالتقرير بعد زيارة اللجنة للبلاد لمدة أسبوعين، أجرت خلالها لقاءات مع ذوي المغيبين وممثلين عن منظمات المجتمع المدني وقانونيين، وأكدت في تقريرها عدم إمكان السلطات العراقية الاستمرار في إنكار حالات الاختفاء القسري التي حدثت على أيدي جهات عدة تابعة لها أو تعمل بمعرفتها".
تقرير اللجنة الأممية أكد أن الحكومة العراقية لا يمكن أن تنكر حجم المشكلة، وطالبتها بالتزام البحث عن المختفين وعدم التذرع بنقص المعلومات من الأقارب أو المشتكين لتبرير عدم الشروع في أنشطة البحث والتحقيق، كما نص تقرير اللجنة على ضرورة اعتماد إستراتيجية شاملة للحصول على الجبر والتعويض وإعادة التأهيل لجميع ضحايا الاختفاء، وطالبت بتنظيم حملة وطنية لجمع الحمض النووي وتسجيله، وفي حالات الوفيات إخراج الرفاة من القبور للتعرف عليها وإعادتها لعائلات الضحايا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويوضح المدير التنفيذي لـ "مركز جنيف الدولي للعدالة" ناجي حرج أنه "على رغم ما لدينا من مآخذ على تقرير اللجنة الأممية، من ناحية ضعف التشخيص وقلة الأماكن التي زارتها، إلا أننا نعتبره نقلة مهمة في مستويات البحث بجرائم الاختفاء القسري ونأمل بمواصلة المتابعة الجادة لحمل السلطات العراقية على الإيفاء بالتزاماتها الدولية والدستورية والاستجابة لنداءات العائلات لمعرفة مصير أبنائها".
ويشير حرج إلى أن مركز جنيف الدولي للعدالة طالب أكثر من مرة بأن تكف السلطات العراقية عن المماطلة، وتخطو الخطوات المناسبة لتحديد مصير المختفين قسرياً وتلتفت إلى معاناة الأمهات والزوجات والأبناء الذين يبحثون عن أية معلومة تفيدهم للاستدلال على مصير أحبائهم المخفيين قسرياً.
المضايقات والتهديد
ويتعرض ذوو المختفين قسرياً للتهديد والمضايقات حتى يكفوا عن المطالبة بالكشف عن مصير أبنائهم، وفي هذا السياق يوضح حرج أن "عدداً من العائلات تتعرض للمضايقات والتهديدات والترهيب من قبل بعض الأجهزة، لذلك فإن اللجنة الأممية التي حققت في قضايا الاختفاء القسري أوجبت على السلطات العراقية أن تتخذ تدابير تشريعية وقضائية لضمان معاملة أي فرد عانى ضرراً كنتيجة مباشرة للاختفاء، باعتباره ضحية وأن يستفيد من الحقوق الواردة في الاتفاق".
كما أوجبت اللجنة على العراق أن يمنع بموجب القانون جميع أعمال التخويف والانتقام ضد جميع الضحايا والمدافعين عن حقوق الإنسان والمحامين، ومنظمات المجتمع المدني وغيرهم من الأفراد الذين يشاركون بنشاط في عملية البحث والتحقيق، وأن تضمن الدولة عدم مشاركة الأشخاص المشتبه في مشاركتهم في الاختفاء القسري خلال أية مرحلة من مراحل البحث أو عمليات التحقيق أو الأنشطة ذات الصلة.
القانون العراقي
ويرى بعضهم أن القانون العراقي يعاني فجوة دستورية بسبب غياب نص يتعلق بحالات الاختفاء أو التغييب القسري، إذ يتعامل مع حالات المفقودين من دون تصنيف "مختفٍ" أو "مغيب قسرياً"، بينما يرى أحد أساتذة القانون الدستوري أن هناك كثيراً من النصوص التي وردت في دستور العراق عام 2005، ويمكن تطبيقها مباشرة لمعالجة قضايا المغيبين قسرياً وإنصافهم وإعطائهم بعض حقوقهم وحقوق ذويهم، مشيراً إلى المادة (14) التي تنص على أن العراقيين متساوون أمام القانون، وكذلك المادة (15) التي تنص على أن لكل فرد الحق في الحياة والأمن والحرية، ولا يجوز الحرمان من هذه الحقوق أو تقييدها إلا وفقاً للقانون، كما منعت الفقرة (12/ ب) احتجاز أو توقيف أي شخص في غير الأماكن المخصصة لذلك وفقاً لقوانين السجون المشمولة بالرعاية الصحية والاجتماعية الخاضعة لسلطات الدولة.
وعليه، بحسب أستاذ القانون الدستوري، فإن هذه النصوص قابلة للتطبيق المباشر من قبل القضاء ولم يشترط المشرع الدستوري تنظيمها بقانون من أجل تطبيقها، قائلاً "نعتقد أن المشرع الدستوري كان قاصداً ذلك لأن هذه النصوص تتصل بالحقوق والحريات الأساس التي لها قابلية التطبيق المباشر من دون الحاجة إلى إصدار قانون لكي ينظم ممارستها أو كفالة التمتع بها، وهذا يعني أن للقضاء في العراق أن يطبق هذه النصوص مباشرة لما لها من سمو وعلو".
مشروع الاتفاق الوطني
وانضم العراق إلى اتفاق الأمم المتحدة لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، وبموجب التصديق عليها رقم (17) لسنة 2010، وبعد نشرها في جريدة الوقائع العراقية بتاريخ الـ 12 من يناير (كانون الثاني) 2010 أصبحت نصوص هذا الاتفاق جزءاً من القانون الداخلي العراقي وملزمة للسلطات.
لكن العراق على ما يبدو يراوح من أجل وضع قانون وطني لحماية الأشخاص من حالات الاختفاء القسري، وفي هذا الصدد يوضح العضو السابق للمفوضية العليا المستقلة لحقوق الإنسان أنس العزاوي أن الحكومة العراقية أقرت في عام 2013 مسودة أولية لمشروع قانون وطني يحمي الجميع من حالات الاختفاء القسري، لكن مشروع الاتفاق لم يستكمل جميع الإجراءات التشريعية، وفي نهاية شهر أغسطس (آب) 2019 أقرت الحكومة مسودة مشروع قانون لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، لكنها لم ترسل إلى مجلس النواب ولم تر النور لحد الآن.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 طالبت الحكومة العراقية بعدم عرض مسودة المشروع للقراءة الثانية في مجلس النواب، وذلك لوجود مسودة مشروع قانون جديدة راعت المعايير والمتطلبات الدولية ولحد الآن لم ترسل هذه المسودة.
ملاحظات حول مشروع القانون
ويرى العزاوي أن مسودة مشروع الاتفاق الوطني لمنع حالات الاختفاء القسري التي من المقرر أن ترى النور بعد إقرارها من قبل مجلس النواب، تحمل في طياتها كثيراً من الثغرات ولم تتضمن تعريفاً واضحاً لجريمة الاختفاء القسري.
ويختم، "لم تتضمن المسودة اعترافاً من قبل الحكومة العراقية بهذه الجريمة أو إعلان الاستعداد لتقديم المسؤولين عنها إلى القضاء، وعدم وضوح الآليات الوطنية لاستقبال الشكاوى والبلاغات لحالات الاختفاء القسري، وعدم وجود سجل وطني أو جهة وطنية تخصصية لاستقبال الشكاوى وادعاءات الاختفاء القسري".