عمد تنظيم "داعش" الإرهابي منذ اللحظه الأولى لسيطرته على المدن العراقية إلى تأسيس قاعدة جماهيرية تدعم وجوده وتؤيده، ووجه الكيان الإرهابي تركيزه في ذلك على الفئات غير المتعلمة محاولاً استغلال إدراكها المحدود، لا سيما وهو يستخدم الدين وسيلة لتنفيذ أجنداته الإجرامية ومخططاته العدوانية، ووقفت إلى جانبه فئات أخرى كانت ضمن المنظومة السياسية من بعض المتعاطفين معه، ولتحرير الإنسان في هذه المناطق لا بد من بناء منظومة قيم جديدة تقوم على زرع الشعور بالمواطنة أولاً قبل أي انتماء آخر.
التغيير بالعنف
المحلل السياسي من جامعة "النهرين" سلمان الأعرجي يقول "بعد سيطرة داعش على محافظات معينة من العراق عمل على كسب مزيد من المؤيدين والأنصار عبر آليات الترهيب والترغيب وغرس الحقد والكراهية وزرع الطائفية المقيتة في نفوس السكان بعد أن دامت سيطرته سنوات عدة. ومن أجل إعادة بناء المنظومة الفكرية لهؤلاء لا بد من نسف كل الأفكار الهدامة التي حاول هذا التنظيم زرعها في تفكيرهم، لا سيما البسطاء منهم".
ويضيف "ظاهرة التطرف من القضايا المتفشية في المجتمع وهي قضية معقدة ومتشابكة تتأثر وتؤثر في غيرها من القضايا وترتبط إلى حد كبير بالظروف التاريخية والسياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وعملية إشاعة السلام وبناء الإنسان في المناطق المحررة ليست من مهمات الحكومة فحسب، بل هي مهمة كل الفعاليات الاجتماعية والدينية والإعلامية والسياسية لتصحيح المسار الفكري ونشر قيم التسامح والاعتدال والتعايش السلمي".
يشخص مؤسس ورئيس "الجمعية النفسية العراقية" قاسم حسين صالح الحال قائلاً إن "إعادة المنظومة الفكرية لمن سيطرت عليهم أفكار داعش أصعب من مهمة إعادة إعمار ثلث مساحة العراق، فالأمر يتطلب وضع استراتيجية علمية تنفذ على مراحل ويسهم في إعدادها علماء النفس والاجتماع السياسي ويهيأ لها تربويون من وزارتي التربية والتعليم العالي ورجال دين فضلاً عن خبراء في مكافحة الإرهاب، ومنهم تشكل هيئة عليا ترتبط مباشرة بدولة رئيس الوزراء، ومن دونها فإن الجهود الشخصية والإعلامية لن تحقق شيئاً".
ويضيف "تتطلب هذه المهمة الوطنية والإنسانية معرفة الأسباب التي مهدت أو ساعدت داعش في السيطرة على تلك المناطق والأفكار التي زرعها في عقول الناس. وبتشخيصها يمكن استخدام استراتيجية علمية تقوم على مراحل تؤمن إعادة بناء المنظومة الفكرية".
سيكولوجيا الخليفة
يعتقد صالح بأن السبب الرئيس لسيطرة "داعش" في العراق هو البيئة التي شكلت حاضنة لمن يهدفون إلى إقامة "دولة الخلافة" من وجهة نظرهم نتيجة احتكار أحزاب السلطة مصادر الثروة ومؤسسات الدولة، وغياب العدالة الاجتماعية بظهور الثراء الفاحش والرفاهية الخرافية اللذين تتمتع بهما قلة من النخب العراقية مقابل فقر وحرمان الملايين في حال يتناقض وتعاليم الإسلام. وكل ذلك أفضى إلى حال من الاغتراب بين المواطن العراقي وسلطته.
ويتابع "ما لا يدركه كثيرون أن الاغتراب، فضلاً عن كونه مأزقاً للفرد والسلطة، فهو يشعر صاحبه بأن لا معنى لوجوده وأنه يعيش بلا هدف، لذا امتلك داعش الحجة الإسلامية الهادفة إلى إقامة دولة العدالة الاجتماعية، وسيبقى هذا السبب مشروعاً له ما دام النظام في العراق يقوم على المحاصصة والطائفية".
ويوضح صالح أن هناك سبباً آخر يتعدى العراق إلى العرب ويتلخص في أن الحاكم العربي تتحكم به "سيكولوجيا الخليفة"، فيرى نفسه امتداداً للحكام الذين سبقوه قبل 1400 عام ولأنه تفرد بالثروة لضمان ديمومة سلطته ولأنه طائفي، فإن بين المغتربين عن السلطة العربية من راح يبحث عن سلطة أخرى يجد فيها معنى وهدفاً لحياته فوجدها في "القاعدة" ثم "داعش" بعد أن روّج له التنظيمان أنه سيفوز إما بإمارة إسلامية على الأرض، أو بالجنة بعد موته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما رئيس منظمة "نايا" ياسر إسماعيل، فيقول إن "وسائل الإعلام تمتلك دوراً مهماً ومسؤولية أخلاقية ومهنية في إعادة بناء المنظومة الفكرية، إذ يجب أن تكون البرامج مدروسة ومحكومة بسياسات علمية لأن المجتمع المقصود خارج من حال صدمة، وهو بحاجة إلى برامج خاصة حول آليات وطرق المعالجة النفسية، فضلاً عن التركيز على أولويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبنى التحتية للمناطق المحررة، ووضع الحكومة أمام مسؤولية إعادة الحياة وتوفير المتطلبات الأساسية لهذه المناطق".
ويضيف "استقبلت المنظمة عدداً كبير من نساء المناطق المحررة وطرحن تجاربهن لإجراء بعض البحوث والدراسات، إذ قالت ’ن. خ‘ إن الدراسة الجامعية أوقفت وأغلقت الكليات عدا كلية الطب لفائدة يرجونها منها، وكان الأطباء يمارسون عملهم من دون رواتب، أما طلبة المدارس، فتغيرت مناهجهم الدراسية وفرضت عليهم مواد مثل الفقه والعقيدة التي أضيفت وكفروا فيها بقية الديانات، كما حذفت مواد كانت تتعارض مع فكرهم".
ويتابع إسماعيل "أما عن تجربة (د. ص) فتشير إلى أن داعش أجبرهم على ترك المنطقة المحررة والمغادرة برفقته كي يبقوا تحت سيطرته، لكنهم هربوا فجراً في غفلة من الدواعش. وقالت ’ه.غ‘ إنهم نجوا بأعجوبة حين طلب منهم الجيش الخروج من بيوتهم في حمايته، وشعرت بأن المسافة التي استغرقتها خلال الركض من بيت لآخر كأنها سنة بسبب شدة الخوف".
الدولة محل الأم
عن آليات إعادة بناء المنظومة الفكرية للعوائل المتضررة من "داعش"، علق أستاذ كلية العلوم السياسية في جامعة "الموصل" عدنان خلف حميد البدراني قائلاً "المطلوب عمل مشاريع إعادة الاستقرار تحت إشراف الحكومة العراقية مثل مشاريع تشغيل الشباب العاطلين من العمل وتعويض المتضررين من العمليات العسكرية وأن تعطى الأولوية لمبادرات الاستقرار والعمل مع المنظمات لتوعية المواطنين وبناء الثقة التي فقدت نتيجة سيطرة داعش بين المواطن ورجال الأمن بواسطة لجان مشتركة من وجهاء المناطق وكبار مسؤولي الأجهزة الأمنية".
واقترح البدراني تشكيل لجان شبابية من أبناء المناطق تهتم بالتوعية وشرح وتفسير ما يمكن معالجته وإيصاله إلى المسؤولين، مضيفاً "أما عن رجال الدين والوجهاء، فعليهم التعاون على توحيد الخطاب الديني والاجتماعي الذي يكشف عن الفكر الذي انتهجه تنظيم داعش ويظهر خطورته على المنظومة الاجتماعية، وما آلت إليه هذه المناطق نتيجة سيطرة هذه العصابات عليها".
وعن دور الحكومة المباشر، يؤكد البدراني "عليها أن تحل القضايا العالقة نتيجة ما حدث مثل إصدار مستمسكات أصولية لأطفال العوائل المتورطة مع داعش من العراقيين وعدم معاملتهم كما لو أنهم مجرمون، لأن الأطفال والنساء لا ذنب لهم في ما اقترفه ذووهم، ودمج أبناء الدواعش في المجتمع وقبولهم في المدارس والمؤسسات ليعلموا في ما بعد أن الدولة تحل محل الأم بالنسبة إلى أي مواطن".
"أما النساء العراقيات اللاتي أجبرن على الزواج من الدواعش الذين يحملون جنسيات أجنبية وولدن أطفالاً لم يمنحوا الجنسية حتى الآن، فيجب تشريع قوانين لغرض تسفير أطفالهن بالاتفاق مع بلدان آبائهم".
إعادة الاستقرار
أنشئ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق ورصدت له موازنة تبلغ 1.8 مليار دولار لدعم مشروع" إعادة الاستقرار" للمناطق المحررة من سيطرة "داعش". وكان العمل في 31 موقعاً عبر المحافظات الخمس المحررة (الأنبار وكركوك ونينوى وصلاح الدين وديالى) في سعي إلى تحقيق الاستقرار بالمناطق المتضررة من الحرب ضد التنظيم وتسهيل عودة النازحين العراقيين وإرساء الأسس لإعادة الإعمار والتعافي وحماية المجتمعات من تجدد العنف والتطرف.
ويركز برنامج "إعادة الاستقرار" على إعادة تأهيل البنى التحتية العامة وتقديم الخدمات الأساسية للمجتمعات التي تعيش في المناطق المتضررة من النزاع. ويشمل ذلك إعادة تأهيل المدارس والمستشفيات وشبكات المياه والكهرباء وتوفير فرص عمل قصيرة الأجل من خلال مخططات الأشغال العامة وإعادة تأهيل المنازل المتضررة. كما يوفر البرنامج 1.48 مليار دولار أميركي من 29 شريكاً دولياً، بما في ذلك حكومة العراق.