ملخص
قمة العبثية هي خسارة وطن من أجل وطن في الغيب، فالمعنى البسيط لوضع غزة فوق لبنان وحاجات شعبه ومستقبله هو تحويل البلد إلى مساحة جغرافية بلا دولة ولا نظام ولا رأي للأكثرية الساحقة من اللبنانيين.
تكرار الكوارث معلم، بحسب مثل أميركي، لكن تكرار الضربات الأمنية والعسكرية والكوارث السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية في لبنان يبدو بلا دروس أو بدروس "انتصارية" وإنكارية للواقع.
حتى حين تكون الدروس واقعية، فإنها لا تعيش إلى أبعد من "حرارة الساعة" على حد التعبير الذي استخدمه الجنرال ديغول خلال استقباله وزير الخارجية الإسرائيلي أبا إيبان عشية حرب يونيو (حزيران)1967.
ويروي إيبان في مذكراته تحت عنوان "شاهد شخصي" أنه عندما شكا إلى الرئيس الفرنسي "قيام عبدالناصر بإلغاء التعهد بحرية الملاحة في خليج العقبة وشرم الشيخ" بعد حرب السويس، رد ديغول بالقول "التعهد كان في حرارة الساعة عام 1957 ونحن في عام 1967".
اليوم جاءنا درس جديد واضح وملموس من ردود الفعل الوطنية على ضربات موجعة لـ"حزب الله" وكوارث تلاحق المدنيين، مذبحة التكنولوجيا عبر تفجير إسرائيل لآلاف أجهزة "البيجر" و"التوكي ووكي" في أيدي حامليها من أعضاء الحزب والتسبب بفقدان الحياة أو العيون أو الأصابع.
اغتيال قائد "قوة الرضوان" وأركان قيادته بهجوم على مبنى "القائم" في الضاحية الجنوبية لبيروت وتصعيد القصف الجوي إلى أقصى حدود التوحش والجنون للقرى والمدن من الجنوب إلى البقاع، وقتل أكثر من 600 شخص وإصابة أكثر من 5 آلاف خلال ساعات من "سهام الشمال" وتهجير ما تجاوز ربع مليون مواطن. والرد عليها، إلى جانب صواريخ "حزب الله" كان التضامن الوطني والإنساني، بصرف النظر عن الخلافات السياسية، وفتح المناطق والمنازل والمدارس أمام النازحين من قرى الجنوب.
خلاصة الدرس هي حاجة "حزب الله" إلى الدولة ومؤسساتها والوزارات لا سيما وزارة الصحة، وهي بالطبع حاجة المقاومة الإسلامية ذات البنية المذهبية والأيديولوجية والبيئة الحاضنة لها إلى اللبنانيين من كل الطوائف وفي كل المناطق، بعد ممارسات أوحى من خلالها قادة المقاومة أنهم ليسوا في حاجة إلى إجماع، ولا إلى مظلة حماية شرعية بحجة حيازة "المشروعية" من "التكليف الشرعي"، والاكتفاء بمخاطبة من تسميهم "أشرف الناس".
وهذا ما انعكس على خطاب المقاومة تحت النار، لكن السؤال هو، هل يصمد التعلم من هذا الدرس بعد "حرارة الساعة"؟ وهل يؤدي إلى مراجعة عميقة للمواقف بالنسبة إلى دور لبنان الإقليمي؟ وهل يمكن أن نرى إجراءات عملية تبدأ بالانتقال من فرض الشغور الرئاسي منذ الـ31 من أكتوبر (تشرين الأول) 2022 إلى فتح المجلس النيابي لانتخاب رئيس للجمهورية وإعادة الانتظام العام إلى مؤسسات الدولة والتوقف عن تعليق الدستور عملياً؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الجواب الظاهر حتى الآن، بصرف النظر عما يحدث أو يمكن أن يحدث في الكواليس بالنسبة إلى وقف النار في غزة وجبهة الجنوب اللبناني، يأتي عبر ثنائية "المنبر والميدان". خطاب المنبر لا يزال على حاله في التركيز على البعد الإستراتيجي والجوهري في حرب الإسناد لحركة "حماس" واعتبار خسارتها تصفية لقضية فلسطين.
والواقع في الميدان هو المواجهة إلى النهاية، مهما تكن التضحيات والمصاعب، مواجهة العدو الصهيوني، ومواجهة ما يسمى "الغرب الجماعي"، من "ساحة" لبنان المأزوم، مع معرفة الجميع أن المهمة أكبر من لبنان و"محور المقاومة" بقيادة إيران المصرة على الامتناع عن المواجهة المباشرة والاكتفاء بقتال الوكلاء بالنيابة عنها، لكن غزة ليست أهم من لبنان ولا مستقبلها أهم من مستقبله.
قمة العبثية هي خسارة وطن من أجل وطن في الغيب، فالمعنى البسيط لوضع غزة فوق لبنان وحاجات شعبه ومستقبله هو تحويل البلد إلى مساحة جغرافية بلا دولة ولا نظام ولا رأي للأكثرية الساحقة من اللبنانيين. وتعاظم الدور الداخلي والإقليمي للمقاومة الإسلامية يقابله تآكل الدولة ومؤسساتها ودورها الشرعي. ولا مقاومة تكبر وتتوسع بعد التحرير إن لم تكن أكثر من مقاومة للاحتلال ثم للخطر الإسرائيلي. مقاومة للدفاع، مع طوق "وحدة الساحات"، عن النظام الإسلامي في إيران ومشروعه الإقليمي، بحيث يبدو لبنان مرشحاً لأن يكون مجرد مقطورة في قطار ولاية الفقيه.
مفهوم أن "حزب الله" أقوى من "حماس"، وأن مأزق إسرائيل أكبر من مأزق إيران ومأزق تركيا في لعبة النفوذ على الأرض العربية، لكن المعادلات التي قادت إليها الوقائع ناطقة: سقوط قوة الردع لدى كل الأطراف. عجز الأطراف الأقوياء والضعفاء عن حماية شعوبهم في عصر الصواريخ والمسيرات والتسليم بأن مهمة تحرير فلسطين مسألة أجيال وليست على جدول الأعمال في هذه المرحلة، فلا قوة تبدو مردوعة، لا وحشية إسرائيل تردع "حماس" و"حزب الله" ولا عمليات "حماس" وصواريخ "حزب الله" تردع إسرائيل. ولا قوة قادرة على حماية شعبها. إسرائيل عاجزة عن حماية مستوطنيها في الجليل وغلاف غزة، وإن كانت قادرة على تدمير غزة ولبنان. و"حزب الله" لا يستطيع حماية المواطنين في الجنوب والبقاع، وإن استطاع تهجير مئة ألف مستوطن من الجليل وأوصل صواريخه إلى تل أبيب.
وليس من السهل، في ظل التطورات الحالية تجاهل الدرس الجديد، لا على "الثنائي الشيعي"، ولا على بقية القوى. فلا قوة تعلو على قوة الشرعية ولا مقاومة تفيد البلد إذا كانت قوتها على حساب ضعف أو إضعاف الدولة وتهميشها، وقديماً قال المفكر الإستراتيجي الصيني سن تزو "يجب الموازنة بين كلفة الحرب وفوائدها السياسية".