ملخص
الصراع في تركيا عميق بين التوجه العلماني الديمقراطي الليبرالي ونظيره القومي الديني المحافظ. والتحديات الإستراتيجية والجيوسياسية والاقتصادية أمام أنقرة أكبر من قدرة فريق واحد على مواجهتها بنجاح
المعارضة التركية ليست ضعيفة، وإن خسر مرشحها الرئاسي كمال كليتشدار أوغلو. وحزب "العدالة والتنمية" الحاكم فقد 15 نقطة من قوته، وإن فاز مرشحه الرئيس رجب طيب أردوغان. فالانقسام كبير وحاد، 25 مليون صوت لرئيس حزب "الشعب الجمهوري" الذي أسسه مؤسس الجمهورية كمال أتاتورك قبل 100 عام، مقابل 27 مليون صوت لأردوغان الحاكم منذ 20 عاماً رئيساً للوزراء ثم رئيساً للجمهورية.
الصراع أيضاً عميق بين التوجه العلماني الديمقراطي الليبرالي والتوجه القومي الديني المحافظ. والتحديات الإستراتيجية والجيوسياسية والاقتصادية والأمنية أمام تركيا أكبر من قدرة فريق واحد على مواجهتها بنجاح.
كان من السهل على أردوغان، مثل أي حاكم سلطوي، الدمج بين شخصه والأمة، والادعاء بأن خصومه "حلفاء لأعداء الأمة"، لكن من الصعب عليه في ولايته الرئاسية الثالثة والأخيرة أن يستمر في قمع 17 مليون كردي وفي تهميش قضية العلويين الأتراك الذين يشكلون 20 في المئة من السكان، فضلاً عن مواجهة انهيار الليرة أمام الدولار ومعالجة الأزمة الاقتصادية وتلبية الوعود الخرافية التي قدمها للناخبين خلال حملته الانتخابية.
في الشتاء قيل إن زلزال 1999 جاء بأردوغان إلى السلطة عبر انتقاده تقصير المسؤولين، وإن الزلزال الأخير سيخرجه من السلطة بسبب سوء إدارته لمرحلة ما بعد الكارثة، لكن إعادة انتخابه أكدت أن قاعدته الشعبية في الأرياف تفضل "الزعيم القوي" على الرئيس الديمقراطي المرتبط بقادة "طاولة السنة".
وكان أردوغان ولا يزال يتصرف كأنه "سلطان" منتخب، فقصر الألف غرفة الذي بناه في أنقرة هو بديل قصر "دولما باتشيه" الذي كانت تدار منه السلطنة العثمانية في إسطنبول، بل إن السلطان أو "الباب العالي" كان لديه رئيس وزراء يسمى "الصدر الأعظم"، أما أردوغان، فألغى منصب رئيس الوزراء ليلعب هو دور "الباب العالي" و"الصدر الأعظم" في ظل نظام رئاسي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وليس "قرن تركيا" الذي يتحدث عنه سوى القرن المقبل الذي يلغي مفاعيل القرن الماضي في حياة تركيا. فهو يريد القيام بمهمة مستحيلة، أن يلوي قوس التاريخ، ويرى إعادة انتخابه تفويضاً لإكمال "الانقلاب المزدوج" الذي قام به على "الكمالية" العلمانية الليبرالية ودور الجيش، وكذا الانقلاب على النظام البرلماني الديمقراطي والعودة لألب أرسلان وعثمان بن أرطغرل. أي إنها عثمانية جديدة في ثياب "أردوغانية" تعتمد على النزعة القومية الدينية وعمادها الإخوان المسلمون، ولعبة "أكروبات" بين العضوية في "ناتو" والعلاقة الجيدة مع روسيا، ثم بين "صفر مشكلات" و"مئة في المئة خلافات" مع المنطقة كما أوروبا وأميركا.
والواقع أن الانتخابات الرئاسية التركية لم تكن انتخابات محلية فقط، بل تداخلت فيها عناصر وعوامل خارجية. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين لعب دوره في دعم أردوغان، أقله من خلال استثمارات روسيا في مجال الطاقة، والرئيس الأميركي جو بايدن لم يكتم رغبته في رؤية أردوغان خارج السلطة وإيران ودول عربية ساندته بالسياسة والودائع المالية لدعم الليرة و95 في المئة من وسائل الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع كانت مع أردوغان وأكثرية الدول الأوروبية راهنت على سقوطه.
ولا أحد يتصور أنه يمكن أن ينسى هذه المواقف. فهو في "الخريف السياسي" بصرف النظر عن القوة. وأمامه خمسة أعوام للحكم من دون قلق حيال انتخابات أخرى. ففي السجون التركية أكبر عدد من الصحافيين في سجون العالم، وتركيا بحسب مركز "الحرية" في المرتبة 151 بين الدول التي تحترم حقوق الإنسان. والمعادلة صعبة، رئيس قوي على أرض اقتصاد مأزوم وانقسام سياسي واجتماعي وثقافي عميق، لكن أردوغان الخيالي هو في الوقت نفسه أردوغان الواقعي الذي يقول "تركيا الواقعة في قلب أفريقيا وآسيا وأوروبا لا تملك الرفاهية لإدارة ظهرها إلى الشرق أو الغرب، وسنواصل صوغ علاقاتنا مع جميع الدول بما يتماشى مع مصالح بلادنا وتطلعات شعبنا". لكن رسم المعادلات على الورق شيء، والمسار العملي على الأرض شيء آخر.