ملخص
وسط غليان الانقلاب والتهديد بتصفيته، غادر مانويل تيكسيرا بلاده عام 1931 بمساعدة من بعض مقربيه على متن الباخرة الهولندية "زوس" متجهاً نحو الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط.
لا تزال الغرفة رقم (13) بفندق نجمة في مدينة بجاية شرق الجزائر لحد الآن غير متاحة للتأجير لأي زائر جديد، منذ أن شغلها وافد مجهول عام 1931 استأجرها مدة 10 أعوام كاملة، وعاش فيها غريباً من دون أن يتعرف أحد على هويته الحقيقية.
والزائر لمدينة بجاية الساحلية شرقي الجزائر يقوده تصميم شوارعها وأحيائها السكنية التي تعود للحقبة الكولونيالية الفرنسية، مباشرة إلى قلب ساحة أول نوفمبر المعروفة محلياً باسم "بلاص غيدون"، والمطلة على ميناء المدينة.
وينتهي نظر المتفحص لمباني ومقاهي الساحة الصغيرة وفضاءاتها إلى مبنى فندق "النجمة" المتواضع، والفندق قد لا يكون متواضعاً لمن أراد المبيت فيه إذ ليست كل الغرف متاحة للزبائن، فإن حدث وطلب الزائر المبيت في الغرفة رقم (13) فسيعتذر منه مسؤولو الاستقبال، لأن الغرفة محجوزة على مدار العام للرئيس البرتغالي مانويل تيكسيرا غوميز، وقد يبدو الأمر غريباً لكنها الحقيقة، فهناك غرفة رئاسية في فندق من نجمتين.
وإلى وقت قريب لم يكن يعلم معظم الجزائريين هوية المقيم الجديد الذي فر من وضع سياسي بائس في بلده البرتغال خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، إلى أن كشف الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون عن اسم الرئيس البرتغالي السابق الذي اختار الجزائر منفى اختيارياً للتواري عن أنظار معارضيه ومن ثم تداول قصته.
ويتعلق الأمر بالرئيس السابق للبرتغال مانويل تيكسيرا غوميز الذي ولد في الـ 27 من مايو (أيار) 1862 بالبرتغال وحكم البلاد بين عامي 1923 و1925، لكنه سرعان ما استقال من منصبه بعد اكتشافه محاولات انقلاب وخيانة من طرف رئيس وزرائه، فقرر تسليم السلطة والابتعاد من السياسة، لكن أنصاره ظلوا مرتبطين به ويطالبونه في كل مرة بالعودة، بينما يتلقى تهديدات بالتصفية الجسدية من معارضيه.
حياته
درس مانويل تيكسيرا غوميز في بداية حياته الطب لكنه لم يواصل تكوينه، إذ كان مولعاً بالكتابة والسياسة، ومن الحالمين بإقامة نظام جمهوري في بلد يحكمه نظام ملكي منذ قرون، كما كان من بين الذين عملوا بالقلم على توعية الشعب بضرورة الثورة، فكتب في جريدة "الكفاح" المناهضة لنظام الحكم.
وفي الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) 1910 ثار الشعب البرتغالي وتمكن من إطاحة النظام الملكي، وقامت "الجمهورية الأولى" وكان من ثمار الثورة على غوميز تعيينه سفيراً لبلاده في بريطانيا بين عامي 1911 و1918، وبعدها شغل مناصب عدة منها ممثلاً للبرتغال في عصبة الأمم، ونائب رئيس الجمعية العامة لعصبة الأمم في سبتمبر (أيلول) 1922.
وفي أكتوبر 1923 انتخب غوميز رئيساً للبرتغال وترأس أيضاً "الحزب الديمقراطي البرتغالي"، لكن فترة حكمه كانت قصيرة جداً، إذ استقال بعد عامين ]ديسمبر) كانون الأول) 1925[ بعد أن اكتشف محاولات للانقلاب عليه واعتقاله وربما اغتياله، فقرر تسليم السلطة لكن من دون أن يلفت الانتباه إلى ما يعتزم القيام به، حتى رحل من البلاد لينجو بجلده.
ووسط غليان الانقلاب والتهديد بتصفيته، غادر مانويل تيكسيرا بلاده عام 1931 بمساعدة من بعض مقربيه على متن الباخرة الهولندية "زوس" متجهاً نحو الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، من دون أن تكون بحوزته وثائق تثبت هويته، تاركاً وراءه زوجته وابنتيه.
وكانت الوجهة شواطئ مدينة بجاية الجزائرية حيث قصد فندقاً صغيراً قريباً من الميناء واستأجر غرفة للإقامة به من دون أن يعلم عمال الفندق أو سكان بجاية أن النازل الجديد بالفندق هو رئيس برتغالي هارب من الموت الذي يحاصره في مدينة بورتيماو.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتداول سكان بجاية روايات نقلاً عن ملاحظات دونها مانويل تيكسيرا بنفسه تفيد بأنه لم يكن ينوي الإقامة في المدينة لمدة طويلة، إذ حجز لدى وصوله إلى الفندق ليلتين ثم أسبوعاً ثم شهرين، لكن القدر كان يخفي قصة أخرى، فقد وقع زعيم الحزب الديمقراطي البرتغالي في حب المدينة وربطته علاقات طيبة بسكانها الذين كانوا يظنونه كاتباً فرنسياً، فهو كان يقضي جل وقته في الكتابة والقراءة داخل غرفته.
وتمكن مانويل تيكسيرا غوميز من إخفاء هويته الحقيقية 10 أعوام في الغرفة رقم (13) بفندق النجمة، ولم يكن يغادر بجاية إلا نادراً من أجل رحلات داخل الجزائر ومن بينها رحلته الشهيرة نحو الصحراء.
يومياته في الجزائر
واقتصرت يوميات الرئيس على الخروج صباحاً للقيام بجولة يومية في أزقة المدينة ليعود إلى غرفته من أجل مواصلة كتابة أعماله، فهو معروف في البرتغال بلقب الرئيس الأديب، إذ كانت جدران تلك الغرفة شاهدة على كتابة ثلاثة روايات أبرزها "ماريا أديلاييد" (1938) وهي من روائعه الأدبية، دوّن فيها قصة حب جمعته براقصة في مدينة عنابة شرق الجزائر تدعى "ماريا أديلاييد"، ثم غادرت ولم يلتقيا بعدها أبداً.
واستمر الوضع على حاله حتى زاره صحافي برتغالي في منفاه الاختياري، وأخبر عمال الفندق أن الرجل صاحب اللحية البيضاء رئيس برتغالي سابق، ليكتشف الرأي العام في البرتغال بعد نشر الحوار مصير رئيسه السابق، لكن الحوار نشر في وقت متأخر إذ كان غوميز منهكاً صحياً ولم يطل به الأمر حتى وافته المنية.
وفي عام 1941 توفي الرئيس الأديب" في الجزائر داخل تلك الغرفة، ودفن في بجاية ثم نقلت الدولة البرتغالية رفاته إلى مسقط رأسه بمدينة بورتيماو عام 1950 بطلب من عائلته.
ولا تزال الغرفة رقم (13) محافظة على شكلها الذي تركها عليه غوميز يوم وفاته، إذ تم تحويلها إلى متحف صغير يحوي غرفة بسيطة مكونة من سرير حديدي قديم ومرآة معلقة على الجدار أمامها مغسلة لليدين، والشيء الجميل في تلك الغرفة أنها تمنح منظراً جميلاً على الساحة والميناء، ولم يعد مسموحا بتأجير الغرفة لأحد، فتحولت إلى مزار لأدباء ومثقفين من الجزائر والبرتغال.
وفي عام 2006 قامت السلطات البرتغالية بالتعاون مع الجزائر ونصب تمثال نصفي له في ساحة قريبة من الفندق، بحضور وفد رسمي وأفراد من عائلته، وأطلقت جائزة وطنية في الأدب والتاريخ تحمل اسمه.
وتواصل احتفاء الجزائر والبرتغال بالرئيس الراحل، فأنتج البلدان فيلماً مشتركاً يروي حياة غوميز بعنوان "زوس"، وهو اسم الباخرة الهولندية التي حملته إلى الجزائر من دون رجعة، وأوكلت مهمة إخراج الفيلم إلى المخرج البرتغالي باولو فيليب مونتيرو.
وعرض الفيلم للمرة الأولى في البرتغال عام 2016 بحضور الرئيس البرتغالي الحالي مارسيلو ربيلو دي سوزا، ثم عرض في "أوبرا الجزائر" عام 2017 بحضور ممثلين من سلطات البلدين، من بينهم السفير البرتغالي وأسماء أخرى من السلك الدبلوماسي.
ويحاكي الفيلم وقائع حقيقة لقصة حب جمعت روح مانويل غوميز بزوايا ساحة أول نوفمبر، فطيفه لا يزال يحلق بين كتبه التي لا تزال على طاولة الغرفة رقم (13).