ملخص
صنف مراقبون وسائل الإعلام المتابعة للحرب في أوكرانيا إلى نوعين أولهما وسائل الإعلام الروسية والصحافة الأجنبية الممثلة للبلدان التي سمتها موسكو "صديقة" وتسير على الخط المرسوم لها قانوناً، وثانيهما صحافة وإعلام البلدان الغربية التي تصفها الأجهزة الرسمية بـ"غير الصديقة".
منذ إطلاق روسيا "عمليتها العسكرية الخاصة" ضد أوكرانيا، وهي التسمية الرسمية التي استخدمتها موسكو لما يتابعه العالم من معارك قتالية ومواجهات مسلحة ضد كييف المدعومة من جانب الولايات المتحدة وبقية بلدان الناتو والغرب، تقع الأجهزة الإعلامية الروسية والصحافيون الأجانب المعتمدون لديها بين فكي الرحى.
يقف الإعلاميون والصحافيون الموجودون على الأراضي الروسية في حيرة من أمرهم بين أهمية الانحياز إلى الحقيقة، أياً كانت درجاتها أو أطيافها وحتمية الامتثال إلى ما صدر من الأجهزة التشريعية والتنفيذية في موسكو من قوانين وتعليمات تنظم البث والنشر في كل وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب.
حيرة تتعلق أسبابها بالدرجة الأولى بأجهزة الرقابة الروسية التي لا تستثني أحداً في الداخل أو الخارج، بما في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي المحلية والعالمية، وعلى رأسها "فيسبوك"، علاوة على المواقع الإعلامية الغربية منها "بي بي سي" البريطانية و"دويتش فيلا" و"دي فيلت" و"سفوبودا" الألمانية، وجميعها حجبها جهاز الرقابة والمتابعة بموسكو (روس كوم نادزر) في الداخل الروسي.
الحظر طاول عدداً من الأجهزة الإعلامية الروسية التي كانت معروفة بتوجهاتها الليبرالية الغربية، ومنها إذاعة "صدى موسكو" وقناة "تلفزيون دوجد" (المطر) و"نوفايا غازيتا" (الصحيفة الجديدة) التي تحول بعضها إلى الصدور من الخارج القريب بأوكرانيا وبلدان البلطيق. وكان مجلس الدوما قد استهل استعداداته في هذا الشأن منذ فبراير (شباط) من العام الماضي، بإصدار سلسلة قوانين تنظم هذه القضية، وتفرض بعضها عقوبة السجن لمدة تصل إلى 15 عاماً، جزاء كل من يخالف هذه التعليمات.
خريطة الملتزمين
صنف مراقبون في الداخل والخارج وسائل الإعلام المتابعة للحرب الروسية - الأوكرانية إلى نوعين أولهما وسائل الإعلام الروسية والصحافة الأجنبية الممثلة للبلدان التي سمتها موسكو "صديقة" وتسير على الخط المرسوم لها قانوناً، وثانيهما صحافة وإعلام البلدان الغربية التي تصفها الأجهزة الرسمية بـ"غير الصديقة". وتحظر روسيا اعتماد ممثلي الصحف الغربية في كثير من المناسبات التي يشارك فيها الرئيس فلاديمير بوتين، مثلما صدر أخيراً عن الجهاز الصحافي للكرملين بحظر اعتمادهم في "المنتدى الاقتصادي المرتقب في سان بطرسبورغ".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ظلت أخبار العمليات العسكرية الروسية على الأراضي الأوكرانية، خلال الأشهر الأولى للحرب، في صدارة الموضوعات التي تنص القوانين والتعليمات على ضرورة قصر تناولها على ما يصدر فقط عن المصادر الرسمية بموسكو، والابتعاد عن "تفاصيل" المعارك على الجبهة وأخبار المشاركين فيها، وحظر نشر أية معلومات غير صادرة عن وزارة الدفاع والأجهزة الرسمية للدولة.
حتى أخبار تشكيلات مجموعة "فاغنر" العسكرية الخاصة الروسية ظلت ضمن المحظورات ردحاً طويلاً من الزمن منذ ظهورها في منتصف العقد الثاني من القرن الجاري، وحتى الأشهر القليلة الماضية التي شهدت نشر خلافات زعيمها ومؤسسها يفغيني بريغوجين وما قد يندرج تحت تسمية "ملاسنات كلامية" في حق كبار قيادات بوتين العسكرية.
وبدا مثيراً للدهشة أن تخرج أجهزة روسية، ومعها برامج إعلامية معروفة بارتباطها بالتوجهات والتوجيهات الرسمية، عن سابق هذه التعليمات، لتتسابق في حملة كاملة من النقد الذاتي الذي تركز في بداياته حول "تعثر" العملية العسكرية ببعض المناطق، وانسحابها الطوعي من الدائرة المحيطة بالعاصمة كييف، و"مقاطعة خاركوف" التي كانت القوات المسلحة بادرت بالاستيلاء عليها سعياً وراء تأمين الأراضي القريبة من حدود البلدين، علاوة على مواقع أخرى في كل من مقاطعتي خيرسون وزابوروجيه.
كان المتابع للبرامج الإعلامية والقنوات التلفزيونية الروسية قد توقف بكثير من الاهتمام بعد نهاية ما يمكن تسميتها المرحلة الأولى من "العملية العسكرية" التي شهدت تراجع قوات موسكو عن بعض ما استولت عليه من "أراضٍ أوكرانية جديدة" في مستهل عمليتها، وذلك ما عكف معظم المراقبين على دراسته، للوقوف على أسباب القرار المفاجئ.
حينها انتهى التقديرات إلى "خلافات" محتدمة حول قرار التراجع، وهو ما جرى تقديمه إلى المواطن الروسي بوصفه "بادرة حسن نية" من جانب موسكو عقب الإعلان عن نتائج محادثات مع كييف احتضنتها تركيا برعاية مباشرة من رئيسها رجب طيب أردوغان بين مارس (آذار) وأبريل (نيسان) من العام الماضي.
انتقادات نادرة
مع انطلاق المرحلة الروسية الثانية لحربها ضد أوكرانيا، تحدث الأكاديمي الروسي المعروف في مدرسة الاقتصاد العليا دميتري ترينين الذي عمل مترجماً عسكرياً سابقاً في العراق، خلال برنامج حق المعرفة على شاشة القناة الثالثة في موسكو، يوم السبت الماضي، عن أنها شهدت الانتقال من الهجوم الخاطف وما تلاه من انسحابات إلى مرحلة ما قد يسمى "تكسير العظام"، على غرار ما شهدته المعارك الطويلة التي انتهت باستيلاء القوات الروسية عل ميناء ماريوبول على ضفاف بحر آزوف، وأخيراً على "باخموت" أو "أرتيموفسك" بحسب التسمية الروسية.
وبالانتقال إلى المرحلة الثالثة المتمثلة في نشر الأسلحة النووية على أراضي بيلاروس، واشتعال حرب "المسيرات" بين الجانبين، قبيل الدفع بمقاتلات "أف- 16" التي تستعد البلدان الغربية لإرسالها إلى أوكرانيا في الفترة المقبلة، وما صاحبها من تركيز كييف على استهداف الأراضي الروسية المتاخمة للحدود، منحت روسيا هامش "حرية إعلامية" إلى بعض قنواتها الرسمية وشبه الرسمية لاعتماد أسلوب "النقد المباشر" لقصور نسبي تشهده مناطق العمليات.
ومن اللافت في هذا الصدد أن الدائرة الإعلامية تبدو آخذة في الاتساع، بعد انضمام معلقين جدد إلى "المجموعة الضيقة" التي لطالما احتكرت المشاركة في البرامج الحوارية المعروفة بعلاقاتها الوثيقة مع الجهاز الصحافي للكرملين، مما أسهم في إضفاء مزيد من "السخونة"، على ما يمكن تسميته "النقد الذاتي" الذي يتحول في أحيان كثيرة، وفي بعض جوانبه إلى ما هو أشبه بـ"البكاء على اللبن المسكوب".
هنا نتوقف عند ما أثاره برنامج "حق المعرفة" على شاشة القناة الثالثة في موسكو من تحليل علمي لسير العمليات في أوكرانيا. ففي هذا البرنامج أشار ترينين إلى أن المرحلة الأولى من العملية العسكرية الروسية كانت تستهدف تأليب الداخل الأوكراني، واستمالة قوات كييف إلى خطة تستهدف إطاحة الرئيس فولوديمير زيلينسكي وتنصيب آخر موالٍ إلى موسكو، بعيداً من أية مواجهات عسكرية أو معارك قتالية، وهو ما انتهى بحصار العاصمة الأوكرانية بعد الاستيلاء على مساحات واسعة قريبة من الحدود الروسية في غضون الأيام الأولى من الحرب.
غير أن التدخل الغربي، وتدفق إمداداته العسكرية على كييف وعدم انحياز القوات الأوكرانية إلى الخطة الروسية، أسهم إلى حد كبير في تعثر تنفيذ ما كانت تصبو موسكو إليه، وذلك ما يحتدم حوله الآن جدل شديد الحدة على شاشات التلفزيون الروسي بكل قنواته، لكن من الملاحظ أيضاً أن الجدل عاد ليتواصل مفعماً بكثير من الأسف والأسي على ما سبق وأقدمت عليه القيادات السابقة من تفريط في حقوق الوطن، سواء السوفياتية التي أسهمت في انهيار الاتحاد السابق أو الروسية متمثلة في زعيمها بوريس يلتسين ورفاقه من الليبراليين وممثلي الأوليغارشية ممن لاذوا بالفرار من البلاد، سواء مطلع القرن الجاري مع أولى سنوات تولي فلاديمير بوتين مقاليد الحكم في الكرملين أو فور الإعلان عن "العملية العسكرية" ضد أوكرانيا كما فعل أناتولي تشوبايس "نجم" تسعينيات القرن الماضي الذي لطالما عرفه الداخل والخارج بتوجهاته الموغلة في العداء للنظام السابق وأيديولوجيته الشيوعية.
وهناك من الشواهد ما يقول إن ما يحتدم من جدل ونقاش في روسيا لا يقتصر فقط على مجرد "نبش الماضي" والإغراق في الحديث عن سلبياته، بل ويتجاوزهما إلى انتقاد ما شهدته موسكو من "عثرات"، في أعقاب "تراجعها" عن سابق ما توصلت إليه من مكاسب خلال الأسابيع الأولى من العملية العسكرية.
انتقاد تتوقف عند تفاصيله البرامج الإعلامية والحوارية الروسية التي عادت لتتحول إلى رصد التحولات الأخيرة، مرتبطة بما يتحقق من نجاح وإنجازات أيضاً على صعيد حشد القوى البشرية اللازمة استعداداً للتحول نحو إحباط ما تسميه بمخططات الولايات المتحدة و"الناتو" التي تستهدف تقسيم روسيا وإطاحة النظام القائم. ولمزيد من الأسانيد والقرائن تتوقف هذه البرامج عند ما تحققه موسكو من إنجازات معنوية واقتصادية وعسكرية على طريق مواجهة العقوبات والصمود في وجه القيود التي تفرضها الدوائر الغربية ضد روسيا ومؤسساتها.
الاستدعاء النووي
ومن منطلق إشاعة مشاعر الحماس وغرس اليقين في نفوس الروس إيماناً بما تملكه بلادهم من قدرات ومقدرات، تبدو أكثر من كافية لدحر الأعداء مهما بلغ عددهم وتزايدت قدراتهم، تشهد الساحة الإعلامية في موسكو سباقاً تتضارب توجهاته تجاه الدعوة إلى استخدام ما تملكه البلاد من أسلحة نووية، تزامناً مع إعلان بوتين خلال الأيام القليلة الماضية نشر بعضها في أراضي بيلاروس. غير أن الدعوة إلى استخدام الأسلحة النووية الروسية لم تجد بعد الإجماع الذي كان متوقعاً، وهو ما تابعنا بعض مشاهده خلال الأيام القليلة الماضية، من جدل غير مباشر وتضارب بين توجهات عدد من أهم البرامج الحوارية الرسمية، ومنها "60 دقيقة" ومقدمته الإعلامية أولغا سكاببيفا مع زوجها يفغيني بوبوف على شاشة قناة (روسيا -1)، وبرنامج أمسية مع سولوفيوف على شاشة القناة الإخبارية الروسية الرسمية (روسيا -24) لمقدمه فلاديمير سولوفيوف وضيوفه، ومنهم كثيرون من الأجانب الوافدين خصيصاً من الخارج، ولا سيما من إسرائيل من المحسوبين على جهاز الموساد بحكم تاريخهم القديم منذ انشقاقهم على الاتحاد السوفياتي السابق وهجرتهم للانضمام إلى خصومه مع نهاية ستينيات القرن الماضي.
وبينما انبرى عدد من ضيوف برنامج "60 دقيقة" الروسي إلى التحذير من مغبة استخدام الأسلحة النووية، وخطورة عدم الاقتصار على الأسلحة التكتيكية والتحول إلى الاستراتيجية، راح الجنرال ياكوف كيدمي (أو كازاكوف لقبه السوفياتي السابق) المحسوب على الموساد يدعو مع آخرين من ضيوف برنامج أمسية مع سولوفيوف، إلى ضرورة استخدام موسكو لما قررت نشره من أسلحة تكتيكية نووية في أراضي بيلاروس، متمسكاً بأن هذه الأسلحة صنعت خصيصاً لاستخدامها من أجل الذود عن مصالح الوطن، وحماية أمنه واستقراره، دون أية إشارة إلى انخراط إسرائيل (وفق ما تذكره مصادر) في الصراع بين موسكو وكييف بأسلحة وخبراء متطوعين، وتلك قصة أخرى قد تحتاج إلى حديث خاص بعد رفع "الحظر غير المعلن" من قبل روسيا على كثير من أنشطتنا الإعلامية.