ملخص
عرفت القارة الأوروبية موجة عالية من السحر في القرون الوسطى ولعبت المؤسسة الدينية دوراً كبيراً في المواجهة وظهرت في القرن العشرين حالة من الندم على القسوة التي مورست في حق السحرة
في كتابه المعنون "مقدمة قصيرة جداً/ السحر"، يحدثنا أستاذ التاريخ الاجتماعي بجامعة هيرتفوردشاير البريطانية، عن أوضاع السحر في أوروبا الغربية في مطلع القرن العشرين، وكيف أن التعامل الانتقائي مع مختلف التقاليد السحرية في أوروبا وقتها كان بمثابة تدريب فكري على تصفح العالم الحديث عن طريق الغوص في سحر الماضي.
بدا الأمر بمنزلة رد فعل واع ليس نابعاً من الحاجة إلى التحكم في الطبيعة، وإنما من الرغبة في إحداث تحول في حياة النفوس الداخلية، فقد كان السحرة الجدد يتعقبون رحلتهم الخاصة لبلوغ التنوير الروحي. ويمكن فهم هذه الحركة من منظور تاريخي اجتماعي ثقافي، لكن لا بد من مراعاة مدلولاتها النفسية للأفراد، وبالطبع ينطبق هذا أيضاً على حالات اللجوء إلى السحر في أي وقت من الماضي.
تقودنا كلمات ديفيز السابقة إلى التساؤل عن علاقة أوروبا بالسحر، وكيف وصل إليها، وعن العصور التي عرفت فيها القارة التي ستضيء بالتنوير للعالم عصوراً ظلامية، اختلط فيها الاتهام بالسحر، بالقسوة البالغة، حين جرى حرق البشر، من جراء أدنى شبهة لها علاقة بالسحر.
من هم أو هن أشهر ساحرات أوروبا، ولماذا يندم الأوروبيون المعاصرون اليوم عما فعله أسلافهم من الذين تعاطوا السحر؟
أوروبا والسحر قصة مثيرة وخطرة
منذ عصور التنوير الأوروبي، والسحر ينظر إليه عادة بوصفه أمارة على البدائية، على مرحلة مبكرة من التطور البشري غارقة في ظلام الجهل.
هل يعني ذلك أنه قبل عصور التنوير عاشت أوروبا في دياجير السحر والسحرة بأنواع وأشكال مختلفة؟
إن ذلك كذلك، بل ربما الأكثر غرابة، هو أنه لا يزال كثر في أوروبا المعاصرة، يلجأون إلى السحر، ويخشونه أيضاً، فالسحر يقدم تفسيرات وحلولاً لمن يعيشون في فقر مدقع ويفتقرون إلى البدائل الأخرى، هذا على رغم أنه في الغرب الصناعي، بما فيه من أنظمة الرعاية الاجتماعية التي تديرها الدولة، يستنكر الأصوليون الدينيون ما يشكله السحر من تهديد أخلاقي متواصل، لكن تحت ستار الوثنية الجديدة، باتت ممارسة السحر ديانة في حد ذاتها، ولا يزال السحر قضية عالمية بحق.
وجد السحر وأعمال الشعوذة في عديد من الثقافات في جميع أنحاء العالم، وفي أوروبا وجد حتى من قبل ظهور المسيحية، أو اعتبارها الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية في عهد الإمبراطور قسطنطين ووالدته الملكة هيلانه.
كان السحر يمارس في معابد الرومان، حيث تقدم القرابين للآلهة الرومانية، من ذبائح حيوانية، وأحياناً بشرية، مما جعل هناك مساحة واسعة للتعامل مع قوى الشر الأسود.
إضافة إلى ذلك، فقد انتقل كثير من ممارسات السحر من أفريقيا إلى أوروبا، عبر التلاحم الذي حدث بين جانبي البحر الأبيض المتوسط، إن سلماً وإن حرباً طوال القرون بين الثاني والرابع عشر.
على أنه ومنذ منتصف القرن الرابع عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر بدت لأوروبا قصة مثيرة وخطرة مع السحر والسحرة، كانت بمثابة مواجهة بين المجتمع العلمي ومجتمع الدجل والزيف من جهة، وهذه التيارات الأخيرة، وسلطة الكنيسة الكاثوليكية، لا سيما في وقت محاكم التفتيش، التي قضت على الآلاف من السحرة بأبشع الوسائل وأقساها.
السحر أقدم أشكال الدين عند الأوروبيين
عند تعميق البحث عن السحر في أوروبا، نجد أن هناك جذوراً تمتد إلى اليونان القديمة، والمعروف أن الحضارة الأوروبية هي امتداد للحضارة اليونانية القديمة بشكل أو بآخر، وإن تركت الحقبة الرومانية أثراً واضحاً فيها.
من هنا يمكننا فهم خطوط التماس بين السحر والدين عند الأوروبيين، وهو ما استفاض في شرحه الفيلسوف الألماني جورج هيغل، والذي على رغم أنه لم يكن مهتماً بقضية السحر في حد ذاتها، فإنه توقف في سلسلة من المحاضرات القيمة له والتي نشرت بعد موته عند قضية السحر، معتبراً إياها ضمن التسلسل الطبيعي للدين والإيمان في مسيرة الإنسان.
رأى هيغل أن البشر مروا بثلاث مراحل:
1 ـ الأديان التي كانت فيها الطبيعة مشبعة بالأرواح.
2 ـ الأديان التي قدمت فكرة التمجيد الفردي والفوق دنيوية.
3 ـ الدين المسيحي الذي اعتبره مزيجاً بارعاً من المرحلتين الأوليين.
من ثم وبحسب هيغل، كان السحر الأسود "أقدم أشكال الدين، وأكثرها بدائية وبسطة"، وقد رأى أنه لا يزال موجوداً على الأرض حتى الساعة.
مفكر أوروبي آخر قدم لنا فكرة عن وجود السحر في أوروبا منذ زمان قديم، إنه كارل ماركس، عالم السياسة الثوري، الذي لم يدرس السحر بصورة خاصة، لكن آراءه المعروفة عن الدين ذات صلة بهذا السياق.
لماركس عبارتان لا يمكن أن يغفل عنهما أي باحث عن السحر في أوروبا قديماً وحديثاً على حد سواء.
العبارة الأولى: "الإنسان هو الذي يصنع الدين، وليس الدين هو الذي يصنع الإنسان".
العبارة الثانية: "الدين أفيون الشعوب".
وعلى رغم أن ماركس الملحد كان على دراية كبيرة بفكر هيغل وناقداً له في الوقت نفسه فإنه كان متفقاً مع فكرة أن أقدم أشكال الدين ارتبطت بعبادة الطبيعة، أو ما سيطلق عليه لاحقاً "المذهب الإحيائي".
كان هذا هو المنبع الذي يضرب فيه السحر بجذوره، وعلى الجانب الآخر من التطور المجتمعي تقع الشيوعية، وهي الحد الذي يختفي عنده الدين، وقطعاً لن يكون للسحر مكان.
"آبراكادابرا"... زمن كتابة التعاويذ الأوروبية
تمثل قوة الكلمة أحد الحدود المتنازع عليها بين السحر والدين، إذ كان يعتقد أن الكلمات المكتوبة في شكل مربعات، والكلمات المتناظرة التي تقرأ طرداً وعكساً، وأشكال الجناس التصحيفي التي يكون قوامها كلمات مقدسة مثل "باتر نوستر" (أبانا الذي في السماوات) لها فعالية في عالم السحر.
كانت زيادة الكلمات أو إنقاصها مظهراً قديماً وشائعاً من الأحجية التي عثر عليها في عديد من الثقافات السحرية ولم تكن تعتمد على نصوص مقدسة.
أشهر الأمثلة على ذلك هو التعويذة القائمة على إنقاص كلمة "آبراكادابرا" Abracadabra التي عادة ما تخط في شكل مثلثي ينتهي بالحرف "ا" A.
آبراكادابرا
آبراكادابر
آبراكاداب
آبراكاد
آبراكا
آبراك
آبرا
آبر
آب
آ
كان الرومان يستخدمون هذه التعويذة في تميمة، وكان الناس يحملونها على قصاصات من الورق إبان فترة اجتياح الطاعون مدينة لندن عام 1665، ثم ظلت تستخدم في السحر الشعبي الأوروبي في القرن العشرين، قبل أن تخسر قوتها لتتحول إلى كلمة عادية تستخدم على سبيل الفكاهة والمزاح.
لكن أصل الكلمة لا يزال غامضاً، مع أن هناك اقتراحاً يذهب إلى أنها مشتقة من العبارة العبرية "هابراكا دابار" أي "اسم المبارك"، وقد صيغ على مر القرون عدد كبير من الطلاسم الأخرى التي يجري فيها إنقاص الحروف تدريجاً.
قديسات وملكات اعتبرن ساحرات أوروبيات
يلفت الانتباه في حديث السحر في أوروبا، وعلى العكس من السحر في الحضارات القديمة كالفرعونية والبابلية والفينيقية وغيرهما، حين كان الرجال لهم النصيب الكبير، وأحياناً الكلي من ممارسة السحر، أن أوروبا قد لعبت فيها النساء الساحرات دوراً وافراً بل ربما الأكبر والأهم من الرجال.
غالباً ما كان الممارسون للسحر من النساء وكان الجيران يدعوهن إلى علاج المرضى ومساعدة الأمهات أثناء الولادة، واستعادة الأشياء المفقودة، كما كانت تلام الساحرات على الأحداث السيئة مثل المرض والموت، والعواصف والزلازل، أو الجفاف والفيضانات، والعهدة على مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" في تقرير لها عن السحر الأوروبي.
ولعلنا نرصد في سياق الاهتمام بتاريخ السحر عند الأوروبيين، وبالتحديد بدءاً من القرن الخامس عشر الميلادي، رغبة بحثية عند عدد وافر من المؤسسات البحثية والعلمية والدينية أخيراً.
على سبيل المثال، فقد بدأت جامعة هارفرد العريقة في الولايات المتحدة الأميركية أخيراً، بالاشتراك مع مكتبات عامة عدة، منها مكتبة الكونغرس ومكتبة الفاتيكان، العمل على إصدار مجلد ضخم عن تاريخ السحر في أوروبا في العصور الوسطى وعصر النهضة، يشارك فيه نخبة من كبار أساتذة التاريخ والأدب الشعبي ويركز الإصدار على القرن الخامس عشر بنوع خاص.
هل لهذا التاريخ دلالة ما؟ غالب الظن أنه التوقيت الذي بدأت فيه أوروبا حراكاً فاصلاً بين العلم والدين، بين الحقيقة والخيال، بين الفلسفة والشعوذة، أي إنه كان بداية الصراع الذي جاء السحر والسحرة في مقدمه، كمقدمة لديالكتيك استمر واستقر في أوروبا لمدة أربعة قرون.
في هذا القرن شهدت القارة الأوروبية حدثين نسائيين، تقاطعا مع عالم السحر، أو هكذا ادعت السلطات المدنية الحاكمة في ذلك الوقت.
الحادثة الأولى جرت مع فتاة فرنسية ستتذكر اسمها الأجيال، وستعتبرها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية قديسة من قديساتها، إنها جان دارك (1412-1431).
ولدت لعائلة من الفلاحين في الوسط الشرقي من فرنسا، وقد ادعت جان دارك الإلهام الإلهي، وقادت الجيش الفرنسي إلى انتصارات عدة مهمة خلال حرب المئة عام، ممهدة بذلك الطريق لتتويج شارل السابع ملكاً على البلاد.
قبض عليها بعد ذلك وأرسلت إلى الإنجليز مقابل المال، وحوكمت بتهمة "العصيان والزندقة"، ثم أعدمت حرقاً بتهمة الهرطقة عندما كانت تبلغ 19 سنة، وبهذا تعتبر المرأة الوحيدة التي حكم عليها بالهرطقة ومع ذلك اعتبرتها الكنيسة الكاثوليكية قديسة.
الحادثة الثانية جرت بها الوقائع في الجزر البريطانية، وتعلقت بـ"آن بولين" زوجة هنري الثامن، الذي انفصل عن الكنيسة الكاثوليكية من أجلها عام 1533، والتي دينت عام 1536 بتهمة السحر من جراء وجود أحد عشر أصبعاً في يديها، مما سهل من مهمة إدانتها بالخيانة والزنى، وقد كانت سبباً في أن هنري الثامن ملك إنجلترا سن قانون السحر في عام 1542، وهو أول قانون في بلاده يحظر السحر الأسود.
والثابت أنه يمكن اعتبار جان دارك وآن بولين حالتين متفردتين بشكل أو بآخر، وفيهما اختلطت الظروف السياسية والدينية مع التقول عليهما بممارسة السحر.
غير أن أوروبا قد شهدت طائفة من الساحرات المطاردات، واللاتي لقين مصيراً بشعاً للغاية في نهايات حياتهن.
عن أشهر الساحرات الأوروبيات تاريخياً
حكماً ليس هنا مقام الحصر أو السرد الشافي الوافي، فتاريخ أربعة قرون لا يمكن بحال من الأحوال اختصاره في بضعة سطور.
غير أنه يمكن الإشارة إلى بعض من أهم الساحرات اللاتي مررن في تاريخ القارة الأوروبية، وقد كانت في مقدمتهن:
ـ كاترين مونيفيسون: لا يعرف بالتحديد مولدها، لكنها غالباً من مواليد العقد الأول أو الثاني من القرن السابع عشر.
تعتبر كاترين من أشهر ساحرات أوروبا، كانت متزوجة من صائغ فرنسي الجنسية ميسور الحال، غير أنه تعرض للإفلاس مما دفعها إلى أن تقوم بجلب المال عن طريق السحر وساعدها في ذلك أنها كانت تتعلم في طفولتها فن التنجيم، وساعدها معرفة بعلم وظائف الأعضاء، ولهذا كانت تدعي أنها تستطلع الغيب وتعرف قراءة المستقبل.
عبر مقدرتها على صناعة وصفات كيماوية وسموم وحبوب لأغراض شتى، اكتسبت كاترين شهرة كبيرة بين الأمراء والنبلاء والكونتيسات، غير أن اتهاماً بمحاولة تسميم ملك فرنسا قادها إلى الإعدام حرقاً.
ـ مول داير: تبدو داير معاصرة بنوع ما لكاترين مونيفيسون، فهي من أشهر ساحرات القرن السابع عشر، وترجع إلى أصول إيرلندية.
ارتبط حضورها في مدينتها بعلامات غريبة، وانتشار أمراض بعينها، من بينها وباء الإنفلونزا... هل كانت داير من اللاتي لهن معرفة بعلم الفيروسات ونشرها بين الأوروبيين في هذا الوقت المبكر؟
قد يكون ذلك صحيحاً، وربما تكون مصادفة قدرية أو موضوعية أن تضرب البلدة موجة من الإنفلونزا عند دخولها.
كان ذلك سبباً كافياً لدفع سكان البلدة إلى حرق منزلها، مما اضطرها إلى الفرار إلى الغابة، مما أدى إلى وفاتها متجمدة من البرد. على أن الغريب هو أن شبح هذه الساحرة لا يزال بحسب روايات أهل البلدة يجوب شوارعها ويطاردهم، الأمر الذي تحول إلى قصة سينمائية لاحقاً.
ـ إيزابيل غودي: من أعمال القرن السابع عشر الميلادي، والمولودة في اسكتلندا، وقد ورد ذكرها في أكثر من سيرة لمؤرخ أوروبي، لا سيما مؤرخي الكنيسة الكاثوليكية.
نشأت غودي مسيحية، غير أنها لاحقاً تحولت إلى عبادة الأوثان، ومن ثم الشيطان، وغيرت اسمها إلى جانيت.
تشكى عليها معاصروها من حديثها وقدراتها على الطيران والارتفاع عن سطح الأرض، وقد كانت شريكة لعدد من سحرة أوروبا، لا سيما في منطقة الجزر البريطانية.
كانت الطامة الكبرى في حياتها ادعاءها مقابلة الشيطان والتعاطي معه.
بلغ الرعب منها أنه بعد أن تم شنقها أحرقت جثتها، وذلك كي لا يكون لها أثر على الأرض بالمرة، ورمادها غالباً تم إلقاؤه في البحر حتى لا يلوث الأرض.
تطول قائمة ساحرات أوروبا، ناهيك بساحريها، لكن يبقى هناك الحديث المثير عن مطاردة الساحرات في أوروبا القرون الوسطى، وهل الأمر منطلقه ديني بالمطلق، أم اجتماعي وإنسانوي؟ ثم لماذا كان الصدام بين الدين والساحرات أمراً لا بد من حدوثه في ذلك الوقت؟
مطاردة الساحرات... تاريخ مليء بالمآسي
هل كان للإرث اليهودي والمسيحي في أوروبا القرون الوسطى دور دافع في طريق مطاردة الساحرات والمصير غير الإنساني حرقاً وغرقاً، خرقاً وشنقاً، الذي تعرضت لها المئات وربما الآلاف منهن؟
غالب الظن أن هناك علاقة سببية بالفعل بين الأمرين، وهو ما يتضح لنا بجلاء من خلال الرجوع إلى أقوال أنبياء العهد القديم في بني إسرائيل.
نقرأ على سبيل المثال في سفر "تثنية الاشتراع" لموسى النبي قوله "لا تتعلم أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم. لا يوجد فيك من يجيز ابنه أو ابنته في النار، ولا من يعرف عرافة ولا عانف ولا متفائل ولا ساحر، ولا من يرقي رقية، ولا من يسأل جاناً أو تابعه، ولا من يستشير الموتى، لأن كل ذلك مكروه عند الرب".
أما في سفر "الخروج" لموسى النبي أيضاً فنجد الحكم القانوني واضحاً ونهائياً بالمرة: "لا تدع ساحرة تعيش".
وبالانتقال إلى الإرث المسيحي نجد تحريماً مشابهاً، لكنه يخلو من لغة الموت والقتل.
على سبيل المثال يوجه القديس بولس في رسالته إلى أهل غلاطية (إحدى مدن آسيا القديمة) المؤمنين بالقول "كل من يتعاطى السحر فإنه لا يدخل إلى ملكوت الله".
أما في رؤيا يوحنا اللاهوتي، وهو آخر أسفار العهد الجديد (الإنجيل) فقد جاءت الرؤية قاسية جداً مرة أخرى، إذ تغلق أبواب الرجاء أمام السحرة، فيقول "وأما الخاطفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة، فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت، الذي هو الموت الثاني".
بدأت مطاردة الساحرات كنسياً في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) من عام 1484، وذلك حين أصدر البابا إينوشنسيوس الثامن رسالة بابوية تحرم السحر، كما عهد إلى مفتشين دينيين بمهمة محاربته، وهما ياكوب شبرنغه وهاينريخ كرامر اللذان وضعا كتاباً عنوانه "مطرقة الساحرات".
اعتبر هذا الكتاب منذ ذلك التاريخ سواء عند الكاثوليك أو عند التوجه المسيحي الذي سينشأ لاحقاً المعروف باسم البروتستانت "المرجع الأعلى والأساسي"، في مواجهة ومجابهة قضايا السحر والسحرة.
يبدو الكتاب وكأنه مزيج من الواقع ومن الخيال الشعبي التاريخي الأوروبي، وهو ما كان مقبولاً ومعقولاً لدى العقلية الأوروبية، في عصور ما قبل التنوير والنهضة الأوروبية، لا سيما أنه يتضمن روايات خيالية عن السحرة مستوحاة من التراث الشعبي، وفي الوقت عينه أعطى أسساً لاهوتية وقانونية لإدانة السحر وإرشادات للتعرف إلى السحرة والتخلص منهم، ومن قسوة هذا المؤلف يوصف بأنه "أكثر كتب العالم حقداً... وأشدها أذى".
جاءت محاكم التفتيش لاحقاً لتصب مزيداً من الزيت على النار، ولتطلق يد جماعات رهبانية بعينها في كل بقاع وأصقاع أوروبا، لا سيما في ظل انتشار الإشاعات التي تربط بين السحرة والنوازل التي تحط على دول القارة.
تفرد مجلة "دامالس" الألمانية ملفاً كاملاً عن الاتهامات التي كانت توجه للسحرة والساحرات، فعلى سبيل المثال يتم اتهامهم واتهامهن بأنهم وأنهن السبب في الصقيع الذي يحل بالطقس، وبضربات الديدان والحشرات والقواقع التي تفسد الزروع، ولهذا فإذا ضرب البرد المحصول أو لم تدر البقرة حليباً، أو وجد رجل عقيم أو امرأة عاقر، فالسحرة هم الملومون لا محالة.
هل كان البروتستانت لاحقاً، على رغم صراعهم الدموي مع الكاثوليك، أخف وطأة في تعاطيهم وأحكامهم على السحرة والساحرات؟
من الواضح أنهم كانوا أكثر عنفاً من الكاثوليك في بداية الأمر، غير أنه لاحقاً، ومع انقشاع الأصوليات الأوروبية، طفت على السطح أصوات دينية تحاجج بأن ما جرى كان فيه تجاوز كبير، وراح ضحيته أبرياء كثر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أوروبا النادمة تراجع أخطاءها وخطاياها
هل أدرك الأوروبيون أخيراً أخطاءهم التي تقترب من الخطايا، تجاه ما فعلوه في كثير من النفوس البريئة؟
في عام 2021 ألقى متحف أقيم في منزل صائد ساحرات سابق في بلدة "ريبه" الدنماركية الضوء على كيف أدى الخوف من السحرة إلى عمليات اضطهاد مبالغ فيها في البلاد وبقية أنحاء القارة في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
تظهر السجلات أنه في عموم أوروبا قدم نحو 100 ألف شخص للمحاكمة بتهمة السحر والشعوذة، حرق منهم قرابة 50 ألف شخص، كما توضح مؤرخة المتحف الدنماركي "لويز هاوبرغ ليندغارد".
مرة أخرى في 2022 وفي ألمانيا وعبر متحف التاريخ الألماني في برلين يقام معرض تحت شعار "الساحرات والسحرة"، ويهدف إلى التعمق في الأفكار التي واكبت اضطهاد الساحرات وتعذيبهن ومحاولة استشفاف موضوعية ملاحقتهن من دون إجحاف أو أحكام سابقة، للوقوف تماماً وبمنتهى الموضوعية على حقيقة المسألة التي لا تزال حية في ذاكرة الزمن وتتوارث من جيل إلى جيل؟
هل هو تأنيب الضمير الذي يزعج الأوروبيين اليوم؟
ربما كان موقف رجل الدين اليسوعي فريدريك شبي (1591-1635) هو أفضل ما ننهي به هذا الحديث، فقد كان يقف ضد فكرة ملاحقة الجميع بتهم السحر في القارة الأوروبية، وكان يفسر الصراع الدائر وقتها بأنه محاولة مذهبية متعصبة للاحتفاظ بالحكم من الضياع.