بين معركة الشرف العسكري والنصر المعنوي يقف مجمع اليرموك للصناعات الدفاعية في العاصمة الخرطوم منتظراً مصيره، بعد أن ظل لسنوات طويلة أهم روافد تطور الجيش السوداني في مجالات التقنية والإمداد والتزويد بالأسلحة والذخائر ونقل وتوطين التكنولوجيا الحديثة والاستفادة منها في مجال الدفاع.
يعود تأسيس مجمع اليرموك إلى عام 1993، بهدف قيام صناعات حربية متطورة لمقابلة الحاجات الدفاعية، وهو واحد من المنشآت العاملة تحت مظلة التصنيع الحربي التابعة للقوات المسلحة السودانية. ومنذ أول من أمس الخميس يشهد محيط مجمع الصناعات العسكرية جنوب العاصمة الخرطوم اشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع.
كانت قوات الدعم السريع أعلنت في بيان لها الأربعاء الماضي تحقيق "نصر جديد بالسيطرة الكاملة على مجمع اليرموك ومستودعات الذخيرة"، ونشرت عبر حسابها على "تويتر" شريطاً قالت إنه "من داخل المجمع"، يظهر فيه عناصرها وهم يحتفلون داخل مخزن تتكدس فيه البنادق الرشاشة ومدافع الهاون وكميات هائلة من الذخيرة.
مدير الإعلام العسكري الأسبق في السودان اللواء محمد عجيب يرى أن "هناك أكثر من سبب للاهتمام بمجمع اليرموك من قبل قوات الدعم السريع وأيضاً القوات المسلحة، ومنذ اندلاع المعارك حدث تعتيم للخطط من قبل الطرفين ولم تظهر النوايا بصورة واضحة، وما يمكن الوقوف عليه من حقائق أن مجمع الصناعات الدفاعية يعد موقعاً استراتيجياً عسكرياً وتقع بجواره مستودعات المحروقات الرئيسة في العاصمة وحتى بالنسبة إلى أقاليم السودان المختلفة، بالتالي فإن السيطرة على المجمع من قبل الدعم السريع تقود إلى خنق البلاد في ما يتعلق بالمواد البترولية، وقرب هذا الموقع يوجد سلاح الذخيرة الذي يعد من أكبر المصانع التي تزود الجيش".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عجيب قال إن "تسريبات من مصادر عسكرية تحدثت عن أن الهجوم على مجمع اليرموك ليس مقصوداً في حد ذاته، وإنما لفت النظر بعيداً من عمل آخر تقوم به قوات الدعم السريع وهو احتلال موقع سلاح الذخيرة باعتباره موقعاً استراتيجياً مهماً، لكن فطنة القوات المسلحة في أهميته دفعت الجيش إلى سرعة التمركز وحماية الموقع".
وتابع "أياً كانت الأسباب التي تقف وراء الهجوم على مجمع اليرموك في الوقت الحالي فإن الأسلحة الموجودة فيه ليست مما تستخدمه القوات المسلحة وكذلك الذخائر في هذه المعارك، ولذلك أسباب احتلال الموقع للحصول على السلاح ربما تنتفي بدرجة كبيرة، ولكن للمجمع رمزية نظراً إلى أنه يمثل إحدى منظومات الصناعات الدفاعية".
وأوضح أن "قوات الدعم السريع في حاجة إلى نصر معنوي أكثر من تفوق تكتيكي على الأرض، ولذلك إن وجدت فرصة لاحتلال أي موقع عسكري تبادر إليها، لاستخدام ذلك في الحرب النفسية وبث الفيديوهات وإدارة المعركة الإعلامية ورفع الروح المعنوية لجنودها".
عودة إلى الخلف
يحظى مجمع اليرموك للصناعات الدفاعية بشهرة واسعة ليس بين السودانيين فقط بل العرب جميعاً، ففي أكتوبر (تشرين الأول) عام 2012 تعرض إلى قصف جوي اتهمت الخرطوم إسرائيل بالوقوف خلفه. وقال وزير الإعلام السوداني وقتذاك أحمد بلال عثمان إن "بلاده تمتلك الأدلة على الهجوم لأن مجموعة من الفنيين أكدوا خلال فحص مخلفات الأسلحة التي استخدمت في القصف عن وجود أدلة دامغة بأنها أسلحة إسرائيلية"، لافتاً الانتباه إلى أن التقنية العالية التي استخدمت في الهجوم لا تملكها أي دولة في المنطقة غير إسرائيل، خصوصاً تعطيل الرادارات في مطار الخرطوم قبل القصف الجوي.
حينها أشارت معلومات نقلاً عن مصادر غربية إلى أن إسرائيل عثرت على وثائق بحوزة القيادي في حركة "حماس" محمود المبحوح وهو منسق عسكري في الحركة اغتاله الموساد عام 2010. وأوضحت أن الوثائق التي كانت في حقيبة المبحوح هي بمثابة اتفاق وقع بين إيران والسودان في عام 2018، يخول إلى طهران بناء مصنع أسلحة على الأراضي السودانية، وأن تقنيين وصلوا إلى المصنع في العاصمة الخرطوم لتصنيع صواريخ "شهاب" وأخرى مختلفة، كما أن المصنع جزء من شبكة تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة عبر سيناء.
تفاصيل الضربة الإسرائيلية - نشرتها تقارير إعلامية وقتها - تعود إلى 23 أكتوبر 2012، عندما هاجمت ثماني طائرات من طراز "أف 15" تحمل قنابل تزن أربعة أطنان مجمع اليرموك جنوب الخرطوم، وقبل ساعات قليلة من القصف الجوي حلقت مروحيتان على ارتفاع منخفض فوق البحر الأحمر، ثم شكلت القوات الخاصة الإسرائيلية فريق إنقاذ بالقرب من السواحل السودانية في حال اضطر أحد الطيارين إلى الهبوط في الظلام، وظلوا منتظرين حتى وصول الطائرات المقاتلة.
وبعد 90 دقيقة انضمت الطائرة المزودة للوقود للسرب الإسرائيلي قبل الدخول إلى العاصمة الخرطوم حتى تتلاشى خطر فقدان خزانات الوقود بشكل كامل. ووفقاً للمعلومات فإنه في هذه المرحلة تعطلت الرادارات الخاصة بالدفاع الجوي السوداني ورادارات مطار الخرطوم، وبعد الهجوم وجه الطيارون الإسرائيليون رسالة إلى القيادة في تل أبيب مفادها "أن العملية تمت على ما يرام والرجال في طريقهم إلى البيت".
تحولات جديدة
لا يختلف المتابعون لأزمات الشرق الأوسط على أن قضية الأمن تشكل الهاجس الأول والملف الاستراتيجي الأهم بالنسبة إلى إسرائيل. وفي غضون ذلك شهدت العلاقة بين الخرطوم وتل أبيب تحولات كبيرة في زمن قياسي، وأصبحت هناك ملفات مشتركة بين البلدين في ما يتصل بالتعاون الأمني والاستخباراتي.
كانت أولى الخطوات لقاء رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مدينة عنتيبي الأوغندية، واتفق الطرفان على بدء حوار من أجل "تطبيع العلاقات"، ولاحقاً في الشهر نفسه سمح للطائرات الإسرائيلية بالتحليق في أجواء السودان.
خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي زار وفد إسرائيلي منظومة الصناعات الدفاعية التابعة للقوات المسلحة السودانية. وقال عضو مجلس السيادة وقتذاك محمد الفكي سليمان إن "زيارة الوفد ذات طبيعة عسكرية بحتة".
ولاستكمال وتتويج خطوات سابقة بدأت بلقاءات سرية ثم أخرى أمنية قادها وزير الاستخبارات الإسرائيلي إيلي كوهين (آنذاك)، في يناير (كانون الثاني) 2021، إذ باتت الزيارة الأولى من نوعها، وعقد كوهين لقاءين منفصلين مع رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، ووزير الدفاع السوداني الفريق ياسين إبراهيم، واصفاً زيارته إلى الخرطوم بأنها "تاريخية" وجزء من اتفاقات أبراهام للسلام.
وما إن حل فبراير (شباط) الماضي حتى انتقلت المحادثات السودانية - الإسرائيلية من السرية إلى العلن، وعلى غير العادة مقارنة بالزيارات الإسرائيلية السابقة التي كانت يصبغها التكتم الرسمي الشديد زار العاصمة الخرطوم وفد رفيع يضم عسكريين وأمنيين وسياسيين برئاسة إيلي كوهين (وزير الخارجية في حكومة نتنياهو حالياً) ضمن زيارة خاطفة ليوم واحد، أجرى خلالها محادثات مع عدد من المسؤولين السودانيين، في مقدمتهم البرهان.
لقاء البرهان - كوهين تطرق آنذاك إلى "سبل إرساء علاقات مثمرة مع إسرائيل وتعزيز آفاق التعاون المشترك بين الخرطوم وتل أبيب في مجالات الزراعة والطاقة والصحة والمياه والتعليم لا سيما في المجالات الأمنية والعسكرية".