ملخص
يرى هاني توفيق أن انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي بشكل واضح وصريح، لترك المجال للاستثمارات الخاصة سيدفع الدولار الأميركي إلى التراجع أمام الجنيه المصري إلى مستوى 25 جنيه مقابل الدولار الواحد
"الوضع الاقتصادي الحالي لمصر حرج"، كما يراه المتخصص في الشأن الاقتصادي المصري هاني توفيق الذي ترأس سابقاً الجمعية المصرية للاستثمار المباشر والقريب على نحو كبير من دوائر الأعمال في القاهرة، وعلى رغم إقراره بمضي الدولة نحو تبني سياسات إصلاحية من قبيل إفساح المجال بشكل أكبر للقطاع الخاص وتمكينه، إلا أنه لم يخف مخاوفه في شأن تحديات بارزة وملحة من بينها الدين الخارجي للبلاد الذي "يقع في نطاق غير آمن"، كما يقول في حديثه إلى "اندبندنت عربية".
صار القطاع الخاص في مصر "المفردة" الأكثر تكراراً في حديث هاني توفيق على النحو الذي أثار معه الاعتقاد بأن الحل يبدأ من تمكين هذا القطاع وتحفيزه وطمأنته وانسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي لمصلحته، كما يقول.
في شرح التحديات الكثيرة التي تواجه الاقتصاد المصري، يقسم هاني توفيق هذه الإشكاليات بين عوامل خارجية أسهمت في تشكيل المشهد الحالي جنباً إلى جنب مع "أخطاء محلية"، فيوضح أن "الخطورة لا تكمن في أن إيرادات القاهرة من العملة الصعبة لا تتناسب مع مصاريفها، بخاصة مع وجود موارد قوية للنقد الأجنبي مثل قناة السويس والسياحة وتحويلات العاملين في الخارج والاستثمارات الأجنبية المباشرة، وهي أمور تكفي لتوفير العملة اللازمة للاستيراد".
تراكم المديونية الخارجية
لكن المشكلة في رأيه "تراكم المديونية إلى مستوى 160 مليار دولار من بينها 100 مليار دولار واجبة السداد خلال الأعوام الأربعة المقبلة وهذا هو التحدي الأول للاقتصاد المصري"، كما يقول، علاوة على تحد آخر يتمثل في "انكماش دور القطاع الخاص المستمر في النشاط الاقتصادي بمصر من مستوى 70 في المئة قبل أعوام وصولاً إلى 20 في المئة في الوقت الراهن بسبب دخول الدولة بأجهزتها في منافسة القطاع الخاص، وهو أمر لم يؤثر فقط في القطاع الخاص وحده، إنما انعكس سلباً على جاذبية مصر كوجهة للاستثمارات العربية والأجنبية، علماً أن القطاع يوظف 80 في المئة من العمالة بالبلاد".
يعتقد توفيق بأن "الظروف العالمية مثل الحرب الروسية – الأوكرانية والتشديد النقدي الذي مارسته البنوك المركزية العالمية عوامل خارجية أسهمت في تعقد المشهد الحالي"، لكن سرعان ما يستدرك قائلاً إن "هذه العوامل أثرت في البداية، لكن هناك دولاً خرجت من تبعات هذه المشكلات، في حين لم تستطع مصر فعل ذلك لأن اقتصادها لم يكن مرناً بالقدر الكافي، ولم تعِد الحكومة النظر في السياسات النقدية والمالية والاستثمارية كي يتمكن الاقتصاد من ’الوقوف على قدميه‘ مرة ثانية، وما زلنا نعاني منافسة الدولة للقطاع الخاص وبيروقراطية ربما تكون مصحوبة أحياناً ببعض الفساد وارتفاع أسعار الأراضي الصناعية وارتفاع سعر الطاقة للمستثمرين وبطء إجراءات التقاضي، وكل هذه العوامل تعوق الاستثمار ولا تزال قائمة وإن كان يتعين التعامل مع هذه التحديات بمجرد الخروج من الجائحة".
وجود سعرين للدولار
من بين الأخطاء الاقتصادية التي ربما أسهمت في تشكيل الوضع الحالي، يشير توفيق بوضوح إلى "عدم استقرار السياسات النقدية"، فيقول إن "السياسة النقدية لا تكفي وحدها، بل كان يجب أن تقترن بإصلاح هيكلي كامل وانسحاب الدولة التدريجي من منافسة القطاع الخاص إلى تشجيع هذا القطاع، تحديداً المصري قبل العربي والأجنبي، إذ إن منافسة الدولة أمر غير معقول، وهناك أيضاً وجود سعرين للصرف، أحدهما رسمي وآخر غير رسمي، وهذه المشكلة تعني خسارة المستثمرين نحو 30 في المئة لحظة دخولهم إلى السوق المصرية لوجود فروق في العملة، والسعر الحقيقي برأيي للدولار في مصر 25 جنيهاً (0.81 دولار) أو 26 جنيهاً (0.84 دولار) ولا يزيد على ذلك، باستخدام أسلوب القوة الشرائية المكافئة PPP. ومع تراجع تحويلات المصريين في الخارج بشكل كبير ولجوء شركات سياحة كثيرة إلى الاحتفاظ بمدخراتها من النقد الأجنبي خارج البلاد، إضافة إلى الاحتفاظ بالدولار للتحوط أو المضاربة تفاقمت المشكلة".
يعرج المتخصص في الشأن الاقتصادي على سعر الدولار الأميركي أمام الجنيه المصري في حديثه، فيقول إن "السعر العادل للدولار أمام الجنيه هو 25 و26 جنيهاً، لكن المؤسسات الدولية ترى أن الرقم مرشح للارتفاع، وبالطبع هناك سعر نظري وهو ما قصدته بـ25 أو 26 جنيهاً للدولار، وهناك أيضاً سعر السوق الواقعي والسعر النظري هو PPP اختصاراً لمصطلح القوة الشرائية المتكافئة، عبر مقارنة ما يمكن للدولار شراؤه في الخارج وفي مصر والدولار وفق هذا السعر النظري يعادل 26 جنيهاً، لكن مع إضافة طلب التحوط والمخاطرة والسوق السوداء وسداد الديون المقرر سدادها الفترة المقبلة وانخفاض عرض الدولار سيصبح السعر 45 جنيهاً (1.46 دولار) و50 جنيهاً (1.62 دولار) أو أي رقم آخر من الممكن أن يصل إليه".
لا يعتقد توفيق بوجود مبالغات من جانب المؤسسات الدولية، بخاصة مؤسسات التصنيف الائتماني التي خفضت تصنيف القاهرة وقدرتها على سداد الديون السيادية، بل يشير إلى أن "هذه التقييمات مستندة إلى الأرقام ومؤسسات التصنيف الائتماني تقيم القدرة على سداد المديونية، وكلما كانت النظرة سلبية أو منخفضة كلما كان الاعتقاد لدى هذه المؤسسات بقدرة أقل على السداد، كما أن تقييم هذه المؤسسات يتسم بالصدقية على نحو كبير لاعتمادها على الأرقام التي لا مجال فيها للأهواء"، وفق تعبيره.
برنامج الطروحات الحكومية والخصخصة
يرى هاني توفيق الذي كان مشاركاً قبل أكثر من عقدين في برنامج مالي تبنته الحكومة المصرية لخصخصة الشركات العامة أن "برنامج طروحات الشركات المملوكة للدولة في البورصة المصرية حالياً مقياس لمدى جدية الدولة في الخروج من النشاط الاقتصادي، وإن كان هذا البرنامج لا يكفي لسداد مديونية مصر"، لكنه يعطي، كما يقول، "إشارة إلى جدية الدولة حيال الخروج من النشاط الاقتصادي".
وعن الصورة السلبية التي علقت في أذهان المصريين حيال برنامج الخصخصة في تسعينيات القرن الماضي، يوضح أن "برنامج الخصخصة في تسعينيات القرن الماضي كان مفروضاً على البلاد من جانب المؤسسات الدولية، بخاصة صندوق النقد والبنك الدوليين مقابل شطب نصف مديونيتها، وحظي البرنامج القديم بسمعة سيئة لهذا السبب، بينما الخصخصة حالياً يمكن أن تكون عبر الإدارة أو حق الامتياز، أو الإيجار أو المشاركة في الأرباح، وهي طرق متنوعة في الخصخصة".
لكن مواجهة توفيق بما يجب أن تكون عليه نماذج الدول سواء باعتبارها مالكاً ومنظماً ومشرفاً فقط أو مشاركاً ومنافساً، أفضت إلى تأكيده أن "الدولة مدير فاشل"، إلا في ما يتعلق بـ"الصناعات الإستراتيجية مثل صناعة الأسلحة والبنية التحتية، أما وجودها في النشاط الاقتصادي، فيجعلها خصماً وحكماً عند اختصامها في مجال الاستثمار، وهو ما يتعين معه انسحاب الدولة من المنافسة مع القطاع الخاص بشكل منظم وتدريجي"، معتبراً أن الوقت الحالي هو الأنسب لذلك.
متى سيتراجع التضخم؟
بدا المتخصص في الشأن الاقتصادي مستبشراً بتراجع التضخم في مصر على نحو كبير، ففي حديثه يقول إن "التضخم سيتراجع بمجرد انخفاض الدولار أمام الجنيه، بخاصة أن مصر تستورد 60 في المئة من حاجاتها، وطالما ظل الدولار مرتفعاً ظل التضخم مرتفعاً أيضاً، كما أن الأسعار تراجعت في البلاد ومعدل التضخم هبط للمرة الأولى في أبريل (نيسان) الماضي مسجلاً أول تباطؤ منذ 10 أشهر، كذلك فإن النظام العالمي استوعب ما يحدث في أوكرانيا وجائحة كورونا، مما يكفل تراجع الأسعار عالمياً ويؤدي تالياً إلى تراجع مماثل في مصر خلال الفترة المقبلة".
مواجهة هذا التضخم بتشديد نقدي من جانب البنك المركزي المصري لم يرق للخبير الاقتصادي الذي اعتبر رفع أسعار الفائدة في البلاد "سلاحاً غير فاعل" في التصدي للتضخم، فلا معنى، كما يقول "لرفع سعر الفائدة لمواجهة تضخم مستورد كما هي الحال في مصر، ويتم اللجوء إلى هذا المسار إذا كان الطلب مرتفعاً، بالتالي يستوجب تقليصه عبر تشجيع الأفراد على الادخار في البنوك مقابل الفائدة المرتفعة، لكن رفع سعر الفائدة لمواجهة تضخم خارجي يؤدي إلى مزيد من التضخم لا العكس، ورفع سعر الفائدة هو العدو الأول للاستثمار والاقتراض والتشغيل والبورصة"، معرباً عن اعتقاده بأن البنك المركزي المصري سيثبت سعر الفائدة في ما يتبقى من العام الحالي إن لم يخفضها.
يعود هاني توفيق لخطر الديون الخارجية لمصر التي لا تقع برأيه في نطاق آمن، فيشير إلى أن "الديون الخارجية تقاس دوماً بقدرة البلاد على التصدير، فإذا كان التصدير في مصر كما هو حالياً عند مستوى 30 مليار دولار تقريباً والديون 160 مليار دولار وتمثل أربعة أمثال الصادرات، فهذا مؤشر خطر للغاية"، لكن الأهم من وجهة نظره، "قدرة البلاد على سداد الدين وليس قيمته".
ويلفت المتخصص في الشأن الاقتصادي إلى ملف دعم الدولة لمحدودي الدخل، فيتحدث عن "جهود كبيرة مبذولة في هذا الصدد"، لكن برأيه يظل الأولى "التشغيل وتوفير فرص العمل، بالتالي رفع مستوى المعيشة وليس إعانة الأفراد عن طريق الدعم لأن الدعم سيظل موقتاً، لكن على المدى البعيد يظل التشغيل أفضل".
تحدي الزيادة السكانية
الزيادة السكانية في البلاد تشكل عبئاً كبيراً على كاهل الدولة، كما يقول، مما يستدعي النزول بمعدلات النمو السكاني في ظل امتلاك القاهرة معدلاً هو الأكبر عالمياً، ويمكن بحسب رأيه "اللجوء إلى الترهيب والترغيب كوسائل لمواجهة هذا التحدي، ومن بين وسائل الترهيب منع الدعم عن الأسرة في حال ميلاد الطفل الثاني وليس الثالث، وفي المقابل ينبغي تقديم دعم مشروط للأم كما هي الحال في دول أميركا اللاتينية وأعتقد بأن مصر تمضي في الفترة الأخيرة في هذا المسار".
لا يعر توفيق اهتماماً كبيراً لمصطلح النمو الاقتصادي الذي يشار إليه باعتباره مقياساً لنمو اقتصادات الدول، فيقول إن "النمو الاقتصادي في حد ذاته يعتبر مؤشراً ناقصاً في غياب مصدر هذا النمو (موارد ذاتية أو اقتراض) وهل أنفق في أصول منتجة أو غير منتجة، وعليه ينبغي أن يكون النمو من موارد تشغيلية لسداد الديون المتراكمة طوال الأعوام الـ10 الماضية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعرج هاني توفيق في حديثه على القطاع المصرفي في مصر الذي شهد في الآونة الأخيرة خفض تصنيف أكبر خمسة بنوك مصرية حكومية، خصوصاً من جانب وكالات التصنيف الائتماني، فيقول إن "تصنيف البنوك في مصر يتبع تصنيف الدولة، وعليه فإن خفض تصنيف عدد من البنوك في البلاد لا يمكن فصله عن سياق أعم وأشمل في خفض تصنيف الدولة، كما أن شهادات الفائدة المرتفعة تشكل عبئاً على هذه البنوك وهي تعيد استثمار إيرادات هذه الشهادات عبر توظيفها في أذون الخزانة المصرية وليس من الصواب دعم الجنيه المصري عبر رفع سعر الفائدة".
الدولار يتراجع لـ25 جنيهاً
القرار الذي ربما يتوق هاني توفيق إلى سماعه، كما يقول، إعلان انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي بشكل واضح وصريح مع ترك المجال للاستثمارات الخاصة وهذه الخطوة برأيه تكفل "خفض سعر الدولار أمام الجنيه المصري إلى مستوى 25 جنيهاً وانتعاش البورصة المصرية وتدفق الاستثمارات العربية والأجنبية على البلاد بشكل غير مسبوق، في ظل امتلاكها سوقاً استهلاكية تضم 100 مليون فرد".
ويلفت توفيق إلى بعض الاطمئنان في ما يتعلق بإجراءات الحكومة المصرية، بخاصة ما يرتبط بإصلاحاتها للقضاء على البيروقراطية، فيقول إنها "أكثر جدية اليوم في القضاء على البيروقراطية باعتبارها المعوق الأول للاستثمار وأعتقد بأن القطاع الخاص سيصبح أقوى مع تخارج الدولة".
يختتم توفيق حديثه برسالتين إلى القطاع الخاص ورجل الشارع، فيقول للأول "استعد فالفرص مقبلة والمجال سيتسع"، بينما يدعو الثاني إلى الاستغناء عن الضرورات والبحث عن زيادة الدخل الشهري مع تأجيل المدفوعات في الوقت الراهن".