Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الجمهور" لكينغ فيدور: فيلم عن أوهام الحلم الأميركي

الهوليوودي الذي أسس في صمت تيارات الواقعية البؤسوية التي نسبت لاحقاً إلى أوروبا

مشهد من فيلم "الجمهور" (1928) (موقع الفيلم)

ملخص

الهوليوودي الذي أسس في صمت تيارات الواقعية البؤسوية التي نسبت لاحقاً إلى أوروبا

من طرف خفي كان يحلو لكثر من مؤرخي السينما ونقادها أن يضعوا مجمل التيارات السينمائية الواقعية التي قامت منذ سنوات الستين من القرن العشرين، بالتناقض التناحري مع السينما الأميركية، هوليوودية كانت أو غير هوليوودية، بل إنه في كل مرة يظهر فيها فيلم أميركي يحمل مواضيع اجتماعية حقيقية أو لغة سينمائية متقشفة، يوصف الفيلم وصاحبه بأنهما أوروبيا الهوى، بل الهوية حتى. غير أن في التاريخ الأكثر إنصافاً للسينما الأميركية لا بد لنا من أن نعثر دائماً على مبدعين، كما على أفلام تنفي هذا كله لتتساءل عم إذا لم تكن السينما المبكرة الأكثر تقدماً صنعت حتى في هوليوود. ولعل المثال الأسطع هنا هو الهوليوودي كينغ فيدور، وتحديداً عبر سلسلة من أفلامه، وفي مقدمتها "الجمهور" (1928). ويلفت هنا كيف أن النقد الفرنسي المنصف هذه المرة عرف في معرض تحليله للمناخ الاجتماعي الأميركي الذي يكمن خلف فيلم "الجمهور"، أن يخبرنا، كما فعل الناقد الراحل كلود بيلي، كيف "عرفت الولايات المتحدة خلال سنوات العشرين، نهوضاً اقتصادياً، سيأتي انهيار وول ستريت في عام 1929 ليضع حداً له. وقبل الانهيار، كان الزمن لا يزال زمن التفاؤل، وإن كانت معالم قسوة الحياة ظاهرة للعيان"، ومن هنا، "كانت هناك أفلام عدة أنتجت في هوليوود، وجعلت من نفسها صدى لذلك الازدهار المهدد، وما فيلم (الجمهور) لكينغ فيدور، سوى المثال الأسطع على ذلك".

الغوص في الواقع الاجتماعي

لقد كان "الجمهور" واحداً من أول وأهم الأفلام التي غاصت في الواقع الاجتماعي مباشرة، ووقفت تتساءل عن الحلم الأميركي الذي كان لا يزال مزدهراً، ولم يكن التوجه بالجديد في ذلك على مخرج الفيلم وكاتبه كينغ فيدور، الذي كان حقق خلال سنوات سابقة فيلماً ضد الحرب بعنوان "العرض الكبير" لقي نجاحاً هائلاً، واعتبرته شركة "مترو غولدوين ماير" المنتجة واحداً من أكبر أفلامها وأكثرها اجتذاباً للجماهير. وهكذا، مسلحاً بالنجاح الذي حققه، قرر فيدور أن يدلي بدلوه في الموضوع الاجتماعي، وأن يقول رأيه، بصرياً، هو الذي كان واحداً من أول الذين آمنوا بقوة الصورة، وأن تكون للسينما خصوصيتها البصرية ولغتها المفصولة عن لغة الأدب. في ذلك الحين، كانت السينما صامتة، ليفترض بالعنصر البصري أن يقول كل شيء. وأتيح لكينغ فيدور عبر هذا الفيلم أن يطبق نظرياته، وحتى حدود التجريب، فكان أن حقق "الجمهور" عبر وسائل لم تكن، في ذلك الحين، تقليدية على الإطلاق، بل كانت تعد من "سمات السينما الأوروبية الفقيرة": تصوير في الديكورات الطبيعية، كاميرا خفية، ممثلون لم يكونوا بعد محترفين، وموضوع مستقى من الحياة الحقيقية مع إصرار على تقليل البعد الدرامي حتى الحدود الدنيا. ونعرف طبعاً أن هذه الوسائل ستكون هي نفسها التي يلجأ إليها لاحقاً رواد المدارس الطبيعية والواقعية، في "الواقعية الجديدة" الإيطالية، كما في "السينما الحرة" البريطانية، و"الموجة الجديدة" الفرنسية، وصولاً إلى كامل التلمساني وكمال سليم وصلاح أبو سيف في مصر. ومن هنا يعد كينغ فيدور، من قبل المؤرخين المنصفين، أحد أبرز رواد الواقعية - الطبيعية في تاريخ السينما، وإن كان قد حقق في مسيرته المتعرجة أعمالاً تنفي عنه هذه الصفة، وأتت تقليدية تماماً.

إعادة اعتبار

ما يهمنا هنا، طبعاً، هو "الجمهور"، ذلك الفيلم الرائد والبسيط، وسيئ الحظ كذلك، إذ إنه كان، في زمنه، من آخر الأفلام الصامتة، مما جعله ينسى لفترة طويلة من الزمن، قبل أن يعاد اكتشافه منذ أواسط سنوات السبعين من القرن العشرين، ويعاد إليه اعتباره، ويبدأ حسبانه في لائحة الأفلام العشرين الأهم في تاريخ الفن السابع. وفي اختصار شديد يمكن أن نقول عن "الجمهور" إنه فيلم همه أن يقدم حياة مواطن أميركي بسيط، وحياة زوجته. أما كينغ فيدور فإنه يصف فيلمه على النحو التالي: "ترينا الصورة الأولى في الفيلم مجموعة من أناس يخرجون من، أو يدخلون إلى، بناية نيويوركية ضخمة، ثم تنتقل الكاميرا لترينا مجموعة كبيرة من النوافذ، لتظهر بعد ذلك ناطحة سحاب تستعرضها طولا وعرضا قبل أن تتوقف عند نافذة معينة، يمكننا أن نشاهد من خلالها مئات المكاتب والموظفين المنكبين على عملهم، ثم تجمد الكاميرا أمام واحد من هؤلاء: إنه بطلنا الذي يقوم هنا بعمل رتيب. والحال أن حركة الكاميرا هذه إنما تصور ما أردت التعبير عنه، فهذا (البطل) "إنما هو فرد من بين المجموع".

فردان ككل الناس

وهذا الفرد هو جون الذي سيخبرنا الفيلم أنه ولد لعائلة فقيرة في ديترويت، ثم تيتم وهو في الثانية عشرة، ليقرر أن يشق طريقه بقوة وسط هذا العالم العدائي. وهكذا، ينتقل لاحقاً إلى نيويورك، حيث يعثر على عمل كمستخدم بسيط في مكتب. وتمر عليه السنون، حتى يلتقي ذات يوم في كوني آيلند بالحسناء - العادية مثله - ماري، ويقع الاثنان في الغرام ويتزوجان، ليمضيا شهر العسل - مثل معظم الأميركيين المنتمين إلى طبقتهما - عند شلالات نياغارا. بعد ذلك يرزق الزوجان، السعيدان أول الأمر، بطفلين، في وقت كان فيه وضعهما الاجتماعي والمادي قد بدأ يتدهور. فجون، إذ يبدأ سأمه من حياته الرتيبة المنتظمة، يصاحب رفقة سوء، ويلي ذلك سلسلة من الكوارث الاجتماعية والشخصية، إذ إنه يفقد عمله في شكل مباغت، ثم تموت ابنته الصغيرة في حادثة سير. وتسوء العلاقة أكثر فأكثر مع زوجته. ومن هنا حين يفقد كل أمل نراه يتأبط طفله الصغير الذي تبقى له ويحاول الانتحار، لكنه يفشل في انتحاره، كما كان فشل في كل ما أقدم عليه من قبل. ويقرر، إثر هذا الفشل الجديد، أن يعود إلى البيت. وفي طريقه إلى هناك تحدث "المعجزة الصغيرة": يجد عملاً. إنه عمل تافه طبعاً، لكنه عمل والسلام: صار "رجلاً سندويتشا"، أي من أولئك الذين يحملون لوحات دعائية يتجولون بها وهم يقرعون الأجراس. إنه، في المقاييس الاجتماعية، أحقر عمل يمكن أن يمارسه رجل، ولكن لا بأس طالما أنه يسمح لجون أن يربح بعض الدولارات ويكتسب حب زوجته من جديد. ويتحقق له هذا لنراهما في النهاية يذهبان لحضور حفلة، ويضحكان للمرة الأولى، بينما تبتعد الكاميرا لتجعل منهما "فردين عاديين وسط الجموع".

أين اختفى الحلم؟

رسالة هذا الفيلم واضحة، ولكن هل كان حقاً يحمل تلك الشحنة من التفاؤل التي ألصقت به؟ من ناحية مبدئية أجل، ولكن الصورة تبدو مغايرة إن نحن تمعنا فيها. فالعمل الذي يجده جون يبدو تافهاً - كما أشرنا - وموقتاً أيضاً. ومن هنا فإن السعادة التي يستعيدها موقتة أيضاً. وما حدث له سيحدث من جديد، وللجمهور كله، فأين هو الحلم الأميركي المنشود، في ذلك كله؟ الحال أن بعض الذين تنبهوا إلى ذلك الالتباس، بين التفاؤل الظاهر والتشاؤم الحقيقي في الفيلم وآخذوا كينغ فيدور عليه، ستأتي الأحداث والانهيارات الاقتصادية التالية لتجعلهم يعيدون النظر في موقفهم واكتشاف كم كان المخرج محقاً في وضعه شخصياته على الحبل المشدود.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مكافح في عالم السينما

حين حقق كينغ فيدور (1894-1982) "الجمهور" كان في الرابعة والثلاثين من عمره، وكان حقق شهرة ومكانة في عالم الفن السابع الذي انتمى إليه باكراً، ومنذ كان شاباً في مسقط رأسه بلدة غالفستون بولاية تكساس. فهو بدأ كعامل عرض وقاطع تذاكر في دور السينما قبل أن يتحول إلى مصور يهتم بالأخبار السينمائية المصورة. وفي عام 1915 نراه يتوجه إلى هوليوود، حيث يحاول فرض نفسه ككاتب سيناريو، لكن كل السيناريوات التي يعرضها، أول الأمر، على الشركات ترفض، حتى أتيحت له بداية، بالصدفة، في عام 1919، حيث حقق فيلمه الأول "منعطف الطريق" ولم يتوقف بعد ذلك، إذ ظل داخل المهنة، مخرجاً وكاتباً ومنتجاً حتى عام 1959 حين دفعه فشل فيلمه "ملكة سبأ" إلى الاعتزال، وهو خلال مسيرته الطويلة حقق عشرات الأفلام، بعضها ناجح لا أكثر، وبعضها سيئ السمعة، لكن البعض الآخر يعد علامة في الفن السابع مثل "الجمهور" و"العرض الكبير" و"هللويا" (1929، وكان أول فيلم يقوم بأدواره ممثلون من أصول أفريقية كانوا لا يزالون يسمون زنوجاً) و"البطل" و"القلعة" و"خبزنا كفاف يومنا" (1934)، وبخاصة "صراع تحت الشمس"، دون أن ننسى النسخة الأميركية من رائعة تولستوي "الحرب والسلام" (1956).

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة