ملخص
أسباب بؤس الشعوب عديدة و4 دول عربية تدخل قائمة البائسين... فهل بلدك من بينها؟
مفردات الحزن والقلق واليأس والنكد والأسى كثيرة، لكن يبقى مصطلح البؤس هو الأكثر ثقلاً وقدرة على الإيحاء بفداحة الموقف، فما من كلمة غير البؤس أكثر قدرة على التعبير عن أقصى درجات المحنة وفقدان الأمل في الخروج منها.
وحين خرجت رواية "البؤساء" الشهيرة للفرنسي فيكتور هوغو إلى النور عام 1862 لم يكن قد تفتق ذهن أحدهم عن وضع مقياس أو مؤشر لقياس درجة بؤس الشعوب، لكن البؤس كان طاغياً في فرنسا ودول أخرى حول العالم آنذاك.
في فرنسا تضامنت توليفة من العادات والقوانين وامتزجت قواعد السياسة بظروف المجتمع وأحواله امتزاجاً جعل من البؤس أسلوب حياة وجعل من الحياة في فرنسا وقتها "جحيماً بشرياً" على حد وصف هوغو في مقدمة رائعته "البؤساء".
سمات البؤس الرائجة
رحل هوغو وتغيرت فرنسا ولم تعد الحياة فيها جحيماً بشرياً، لكن بقي البؤس في دول عدة حول العالم وبقيت المآزق الثلاثة الرئيسة التي تحدث عنها هوغو في القرن الـ 19 سمات رائجة حتى يومنا هذا. المأزق الأول هو تدهور حال "البروليتاريا" أو باللغة الحديثة العمال الكادحين الذين لا يملكون سوى دخول ضئيلة من عملهم والثاني هو الوضعية الدونية للمرأة بسبب الفقر والمأزق الثالث هو حال الأطفال المظلمة بسبب الفقر والجوع وانغماس الأهل في لا مبالاة ناجمة عن تردي الأوضاع.
أوضاع دول عدة في العالم اليوم "بائسة" وهو بؤس ربما يختلف قليلاً أو كثيراً عن الصور التي رسمها هوغو للبؤس، لكن يظل معظم بؤسنا مرتبطاً بالمآزق الثلاثة التي أرست دعائمها "البؤساء".
بؤساء الألفية الثالثة يحظون بمقياس خاص بهم يشخص بؤسهم ويزنه ويضع له تعريفات ويرسم له ملامح تناسب العصر. "مؤشر البؤس" مقياس حديث يقيس درجة الضائقة الاقتصادية التي يشعر بها الناس العاديون، وعلى رغم وجود مؤشرات عدة للبؤس وضعها علماء اقتصاد واجتماع وسياسة، فإن معظمها يدور في فلك البطالة، سواء كانت واقعاً أو خطراً يلوح في الأفق وارتفاع كلفة المعيشة ونسبة التضخم.
هذه المؤشرات تعتبر البطالة والتضخم دليلاً على بؤس الناس في حال ارتفاعهما وشاهداً على سعادتهم ورفاههم في حال تقلصهما. حال البؤس في كل دولة تعرف بإضافة معدل البطالة إلى معدل التضخم، وكلما زاد الرقم زاد البؤس وزاد معه كل ما يتعلق بأمراض واعتلالات المجتمعات البائسة.
في المجتمعات البائسة، حين يقابل الناس بعضهم بعضاً يبادرون إلى التحية "عامل إيه؟" أو "كيف حالك؟" وأول ما يتبادر إلى الذهن هو "عامل إيه مادياً؟" أو "كيف حالك اقتصادياً؟" وعلى رغم أن المال لا يذكر، لكنه يجول في ذهن السائل والمسؤول.
أصل البؤس
السؤال عن أصل "مؤشر البؤس" يحمل إجابات تاريخية عدة تحمل في طياتها معاني غير مباشرة تؤكد أن حال كثير من الناس تسير من سيئ إلى أسوأ، وليس أدل على ذلك من أن أول ظهور لقياس علمي لحجم الصعوبات التي تعتري حياة الناس كان يسمى "مؤشر عدم الراحة Discomfort Index".
وكان يقصد به عدم الشعور بالراحة الاقتصادية، وهو ما يؤثر في رفاه الإنسان وشعوره بالراحة بشكل عام. لكن دارت الأيام وتغيرت الأحوال وشعر علماء الاقتصاد بأن "الشعور بعدم الراحة" يبخس الكوارث والضوائق الاقتصادية التي يعيشها سكان الكوكب حقها وأثرها، فأصبح "مؤشر البؤس".
الأب المؤسس لـ"مؤشر البؤس" هو الاقتصادي الأميركي آرثر ملفين أوكين الذي ابتكره باسمه الأصلي "مؤشر عدم الراحة" في أوائل السبعينيات وقت كان أحد خبراء "معهد بروكينغز". أوكين كان كذلك عضواً في مجلس الاستشاريين الاقتصاديين للرئيس ليندون جونسون وأستاذاً في جامعة يال، ولعل توقيت ابتكار أوكين للمؤشر في أوائل السبعينيات يعني كثيراً، فهي الحقبة التي عانى فيها العالم كثيراً معدلات مرتفعة لكل من البطالة والتضخم.
تشابك البطالة مع التضخم نجم عنه ما يسمى "الركود التضخمي" أو Stagflation، وهو ما تكرر حدوثه في فترات مختلفة بعد ذلك. وبحسب مقالة منشورة في "معهد بروكينغز" تحت عنوان "أبو مؤشر البؤس" (2008) فإن ما فجر هذا الركود التضخمي في السبعينيات كان "صدمة النفط الأولى" أو أزمة النفط الأولى 1973، فقرار الحظر النفطي الذي أعلنته الدول العربية المنتجة للنفط كتحرك انتقامي من الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من الدول التي تدعم إسرائيل في الحرب في ذلك العام، وضمن آثار القرار كان انهيار سوق الأوراق المالية وما نجم عنه من أزمات اقتصادية طاحنة في العالم.
صدفة غير سعيدة
ولعلها صدفة، لكن غير سعيدة، تلك التي وضعت العرب في بؤرة ضوء "مؤشر البؤس" باعتبار القرار العربي الجريء والرادع بالحد من الصادرات النفطية للغرب هو المحرك الرئيس للأزمة الاقتصادية الطاحنة في العالم آنذاك، ثم وضعهم مجدداً في بؤرة الضوء نفسه قبل أيام مع إعلان أربع دول عربية ضمن المراتب الـ10 الأولى لأكثر الدول بؤساً في العالم عام 2022، بحسب "مؤشر البؤس" الذي وضعه بصيغته الحالية أستاذ الاقتصاد التطبيقي في جامعة "جونز هوبكنز" الأميركية سيتف هانكي.
الدول العربية الأربع هي سوريا ولبنان والسودان واليمن، بحيث جاءت سوريا في المرتبة الثالثة بمجموع نقاط البطالة والتضخم 225.4 نقطة، ولبنان في المرتبة الرابعة بمجموع نقاط 190.3 نقطة، والسودان في المرتبة الخامسة بمجموع نقاط 176.1 نقطة، واليمن في المرتبة السابعة بمجموع 116.2 نقطة.
وجاءت زيميابوي في المكانة الأولى بمجموع نقاط 414.7 نقطة. وتذيلت سويسرا القائمة وجاءت في المرتبة الأخيرة بمجموع 8.518 نقطة مما يجعلها أقل دول العالم بؤساً. ولم لا، وهي إحدى أغنى دول العالم ويتمتع سكانها بأحد أعلى متوسطات الأعمار وكذلك الرواتب، ربما في تلميح اقتصادي- اجتماعي- نفسي بارتباط طول العمر بالقدرة المادية. وفي المرتبة قبل الأخيرة جاءت الكويت بفارق بسيط، إذ أحرزت 8.6 نقطة فقط، مما يجعلها ثاني أقل دول العالم بؤساً.
الأكثر بؤساً
أكثر دول العالم بؤساً، بحسب معايير القياس ومؤشرات التقييم، في المنطقة العربية هي الدول المضروبة بالصراع، إضافة إلى لبنان المبتلى بأزمات اقتصادية وسياسية طاحنة متلاحقة، مع ملاحظة أن السودان عرف طريقه إلى هذه المكانة المتقدمة في لائحة البؤس قبل اندلاع الصراع الدموي الدائر فيه.
لكن واقع الحال في كثير من دول المنطقة يشير إلى أن البؤس مكون من مكونات الحياة اليومية، حتى إن كانت سبل المواجهة الشعبية والمقاومة الروحية تموّه أوجه البؤس المتعددة.
أوجه البؤس، بحسب نتائج المؤشر الصادرة قبل أيام، تصنف الدول بناء على أربعة معايير، نسبتا البطالة والتضخم ومعدل الإقراض ونمو الناتج المحلي والعمليات الحسابية سهلة وبسيطة. معدل البطالة في الدولة في نهاية العام يضرب في اثنين ويضاف إليه معدلا التضخم والإقراض وتطرح منه نسبة التغيير السنوي في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد. لكن الفرد في الدول "البائسة" وكذلك تلك المصنفة "نصف بائسة" وأحياناً "غير البائسة" كثيراً ما يجد نفسه مصنفاً بؤسه بطرق ومقاييس مختلفة.
قصر العمر بؤس
علماء الاقتصاد وخبراء الصحة وأساتذة القياس والإحصاءات يربطون مثلاً بين العوامل الاقتصادية التي تؤثر في صحة البشر وبين متوسط الأعمار. ولسبب ما، يفترضون علاقة طردية بين طول العمر والسعادة. فمثلاً يعتقد بعضهم بأن اليابان حيث متوسط الأعمار 85 سنة هي أسعد دول الأرض، في حين أن ليسوتو حيث أدنى متوسط عمر وهو 50 سنة هي أتعس الدول.
المؤكد أن الاعتبارات التي يضعها "مؤشر العمر العالمي" مثل نوعية الحياة بناء على الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، إضافة إلى مدى شعور الفرد بالأمان وخدمات التعليم والنقل العام وغيرها جميعها يسهم في توفير عوامل السعادة، وغيابها يدفع الفرد في طريق البؤس. وعلى رغم ذلك يظل شعور الأفراد بالبؤس في دول الأرض يختلف ويتراوح ويتأرجح صعوداً وهبوطاً بحسب عوامل إضافية بعضها يصعب قياسه أو اعتباره مؤشراً علمياً يمكن الاعتماد عليه.
جدال الرضا
عربياً يعتري المواطن العربي، ربما باستثناء دول الخليج ذات الدخول المرتفعة ونسب البطالة المنخفضة نسبياً مقارنة بغيرها من الدول العربية، شعور بأنه يعيش في إحدى أكثر مناطق العالم بؤساً، إن لم يكن أكثرها، وسؤال "كيف الحال؟" التقليدي الذي ينتج منه "الحمد لله" بشكل عفوي فطري ثقافي تاريخي باتت تتخلله عبارات تشي بقدر غير قليل من الشعور بالبؤس. "الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه" أو "الحمد لله" تليها "ولكن" مع الإبقاء على القوس مفتوحاً.
القوس المفتوح لا ينفي أو يعني أن المواطن العربي "البائس" ناقم أو غاضب أو حاقد بالضرورة، فعبارات الحمد المصحوبة بقوائم "لكن" تأتي دائماً وأبداً مذيلة بتأكيدات الرضا والقناعة والقبول والتسليم. لكن جدال "الرضا ليس سعادة" و"القبول ليس غبطة" يبقى قيد النقاش.
النقاش في دوائر المثقفين والمهتمين بشؤون المنطقة العربية ومواطنيها وأحوالهم التي يصفها بعضهم بأن كثيراً منها لا يرضي عدواً أو حبيباً يتطرق كثيراً إلى "مؤشر البؤس" هذا العام الذي لم يكتف بوضع أربع دول عربية في الصدارة، بل وضع ليبيا في المرتبة الـ30 والأردن 31 والجزائر 41 وتونس 43 والعراق 50 ومصر 52 والمغرب 68 وهلم جرا في قائمته التي تحوي 157 دولة.
تسييس البؤس
بعضهم يرى أن المواطن العربي أكثر بؤساً مما يعتقد المؤشر والبعض الآخر يصر على تسييس البؤس، إذ يرى أن الطريق الوحيد لإزالة البؤس عن دولة عربية ما هو تغيير نظام الحكم والاستعانة بجماعة بعينها أو اللجوء إلى حزب دون غيره، وفريق ثالث رأى في "مؤشر البؤس" هذا العام مرآة لما وصلت إليه الحال، لكن مع الاحتفاظ بتحفظات على المؤشر وملحوظات على البؤس.
الكاتب والمحلل السياسي جميل مطر اعترف أن "حال الأمة لا تعجبه" وكتب تحت عنوان "حال الأمة" قبل أيام أن الأمة (العربية) تدهورت حالها "حتى إنهم كتبوا في وصف قدرها ومكانتها ما يملأ جزءاً معتبراً من تقرير مؤشر البؤس العالمي".
وفي سياقات البؤس، عادة يتبادل الجميع، حكام ومحكومون، الاتهامات بالتسبب في ظروف وأحوال تعانيها الغالبية أدت إلى "العيشة الهباب" كما يجتمع على وصفها شعبياً في بعض الدول العربية، ولو على سبيل السخرية. الحاكم عادة ما يرى الشعب سبباً في ما هو فيه من بؤس وشقاء لأنه كسول أو جاهل أو عنيد أو ببساطة لأن الحاكم حظه عثر في نوعية الشعب أو كل ما سبق. والمحكوم يرى أن الحاكم ظالم أو فاسد أو منفصل عن الواقع، أو يحمل أولويات مختلفة عن أولويات المحكومين أو لا يفقه من أمر الحكم العادل والناجع شيئاً أو كل ما سبق.
الكاتب جميل مطر يتحيز للمحكومين في هذا التبادل ويوضح "أرفض القول إن شعباً كان فاشلاً طول الوقت. شعوبنا في الشرق الأوسط لم تكن فاشلة طول الوقت، ولا كانت تعيسة ومتشائمة على الدوام. سعت إلى النجاح والرخاء والاستقرار، لكنها نادراً ما وجدت الفرصة مناسبة".
لوم البؤس العربي
المؤكد أنه لا يمكن إلقاء لوم البؤس العربي على كيان بعينه أو منظومة من دون غيرها أو حتى على حاكم أخطأ أو محكومين استسلموا للبؤس أو اعتادوه، والمؤكد كذلك أن البائسين العرب لديهم من الأدوات والأساليب ما يساعدهم على التعايش مع البؤس سواء بقبوله على اعتباره قضاء وقدراً، أو بلاء وربما ابتلاءً، بل بينهم من بات يعتقد بأن البؤس أسلوب حياة معتاد، ويدعم ذلك الاتجاه ويقويه أن معتنقيه لم يروا أو يعايشوا غيره. أما حلول الخروج من دائرة البؤس، فهي خارج اختصاص "مؤشر البؤس".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صاحب "مؤشر البؤس" هذا العام ستيف هانكي يقول إن زيمبابوي حصلت على جائزة هذا العام باعتبارها الدولة الأكثر بؤساً في العالم، وهو يرى أن هذه المرتبة سببها عهد روبرت موغابي الذي بدأ عام 1980، ثم خلفه إيمرسون منانغاغوا بقبضته الحديدية التي أطبقها على المجال السياسي كله في زيمبابوي، حيث يعمل الحزب الحاكم وكأنه مافيا سياسية، هي من بين العوامل التي أدت إلى قدر هائل من البؤس. فكان هناك تضخم مفرط ومعدلات إقراض رهيبة وبطالة وغيرها جميعها نجم عن سياسة سيئة، ومن ثم اقتصاد أسوأ وبؤس كبير.
وعن فنزويلا التي جاءت في المرتبة الثانية في صدارة الدول البائسة، قال هانكي إنها تعرضت في ظل حكم شافيز ومادورو لمشكلات تشبه ما جرى في زيمبابوي إلى حد كبير، ويضاف إليها انهيار إنتاج النفط في شركة النفط المملوكة للدولة بنسبة 76 في المئة، "ولا عجب أن ما يزيد على 7 ملايين فنزيولي فروا من أوطانهم منذ عام 2015. إنهم بائسون".
البائسون في سويا
وعن البائسين في سوريا التي احتلت المكانة الثالثة بين أكثر دول العالم بؤساً، يقول إنه ليس من المستغرب أن تأتي سوريا ضمن الدول المتصدرة لقائمة الأكثر بؤساً، إذ إنها دولة غارقة في حرب أهلية لما يزيد على 12 عاماً ومن الطبيعي أن تفتقر إلى السعادة. وحقيقة أن فنزويلا وزيمبابوي تمكنتا من تسجيل أهداف أسوأ من سوريا من دون حروب أهلية تقول كثيراً عن سوء الإدارة الاقتصادية.
ويتطرق هانكي كذلك إلى ذيل قائمة البؤس وهو الذيل الذي لم يخل من دول عربية نجت إلى حد كبير من قبضة البؤس، وذيل القائمة يحوي قطر في المرتبة الـ 140 والإمارات 143 وعمان 147 والكويت في المرتبة الـ 156، أي تتبقى لها مرتبة واحدة لتكون أقل دول العالم بؤساً، بحسب المؤشر.
وعن الكويت يقول هانكي، "حتى مع الشجار الدائم بين السياسيين، إلا أن الكويت أدت أداءً قوياً في جميع المجالات عام 2022. وكما يظهر من معدلاتها وأرقامها، تمكنت من تقليل الـ"سيئات" إلى حد أدنى. كما جاء الجيد "جيد جداً".
يشار إلى أن إسرائيل تحتل المرتبة الـ 145 في قائمة البؤس، أي أنها الدولة الـ 12 الأقل بؤساً في العالم.