ملخص
يتناول فيلم "الحذاء الأحمر" المساومات التي يعقدها الفنانون مع الشيطان، ويقول عنه سكورسيزي إن الأمر يتعلق بغموض الفن والجانب المظلم الذي يمكن أن يطغى عليه
ما الذي قد يجعل مخرجاً أميركياً إيطالياً شرساً مشهوراً بأفلام العصابات مثل "شوارع قذرة" Mean Streets و"أصدقاء طيبون" Goodfellas يغرم بفيلم درامي بريطاني منمق عن الباليه صدر قبل 75 عاماً؟ غالباً ما يطرح هذا السؤال حول شغف مارتن سكورسيزي بفيلم "الحذاء الأحمر" The Red Shoes، الصادر عام 1948 بتقنية ألوان التيكنوكولر، للمخرجين مايكل باول وإيميرك بريسبرغر عن راقصة باليه شابة لامعة تقودها الظروف في النهاية إلى الانتحار.
قال سكورسيزي في مقابلة أجراها عام 2009 عندما عرضت نسخة مرممة ومحسنة من "الحذاء الأحمر" في مهرجان كان السينمائي: "إنه فيلم أنجذب إليه بشكل مستمر وهوسي".
شاهد سكورسيزي "الحذاء الأحمر" للمرة الأولى عندما كان في التاسعة أو العاشرة من عمره واستمر في مشاهدته مراراً وتكراراً. في شقته الكائنة في نيويورك، يحتفظ بملصقات وتذكارات من الفيلم. عندما يعود للمنزل في وقت متأخر من جلسة تصوير ليلية ولا يستطيع النوم، غالباً ما يشاهد الفيلم. من المتوقع أن يكون هناك ظهور بارز للعمل في فيلمه الوثائقي الطويل عن السينما البريطانية، إذا أكمله يوماً ما.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ستصدر نسخة جديدة من "الحذاء الأحمر" في دور السينما في المملكة المتحدة الشهر المقبل بعنوان "الحذاء الأحمر: خطوة تالية" The Red Shoes: Next Step، وهو فيلم رقص من أستراليا حول راقصة شابة رائعة (تؤديها جولييت دوهرتي) تخرج مسيرتها الفنية عن مسارها بسبب فاجعة مفاجئة، لكن شغفها بالباليه يظل على حاله.
تولى مهمة إخراج الفيلم كل من جوان صموئيل، التي لعبت دور زوجة ماد ماكس (أداه ميل غيبسون) في فيلم "ماد ماكس" Mad Max الأصلي الصادر عام 1979، وابنها جيسي أهيرن. يتناول الفيلم قصة مراهقة وهو موجه لليافعين - "[إلى] جميع الأطفال بين سن التاسعة والـ14"، كما أخبرتني صموئيل مضيفة "إنه يدور حول الحزن الذي قد تجلبه المساعي الفنية، والدم والعرق والدموع التي يتسبب بها كونك فناناً حقيقياً، فأنت ترى فعلاً أن هناك ثمناً يجب دفعه. أنت تفعل ذلك لأنك تحبه. إذا لم تحبه، فلن تتحمله. يشبه الأمر لعنة أحياناً".
من غير المرجح أن يشغف سكورسيزي بهذا الفيلم الموسيقي الأسترالي الجديد. على كل حال، فحقيقة أنه صنع أساساً تؤكد الفاعلية المستمرة للقصة الخيالية التي كتبها هانس كريستيان أندرسن وبزغت منها جميع النسخ من "الحذاء الأحمر". تركز قصة أندرسن المزعجة بشكل غريب على فتاة صغيرة لا تستطيع التوقف عن الرقص عندما تكون مرتدية حذاء أحمر. يمكنكم الإحساس بالتوتر نفسه في الفيلم الصادر عام 1948.
في مطلع فيلم باول وبرسبرغر، يلتقي بوريس ليرمونتوف (يؤديه أنتون بروك)، صانع مواهب الباليه الشبيه بـ راعي راقصي الباليه الروسي سيرغي دياغيليف، بالراقصة الشابة فيكي بيج (تؤديها مويرا شيرر) في حفل استقبال ويسألها: "لماذا تريدين الرقص؟"
في البداية، كان يقلل من شأنها، معتقداً أنها غير محترفة من الطبقة العليا تعتبر الباليه مجرد هواية. على كل حال، عندما تجيب على سؤاله بسؤال "لماذا تريد أن تعيش؟"، أدرك أنها تشاركه طبيعته المهووسة. هي أيضاً مستعدة للموت من أجل فنها.
يرتبط "الحذاء الأحمر" إلى حد كبير بالمساومات التي يعقدها الفنانون مع الشيطان على نمط ما يحدث في مسرحية فاوست لـ غوته بقدر ما يتعلق بالباليه. إنه يكشف عن عصابهم وأنانيتهم وقسوتهم.
تقول المؤرخة السينمائية باميلا هاتشينسون التي سيصدر كتابها الجديد عن الفيلم في الخريف المقبل "يدور هذا الفيلم حول كيف يصنع الفن وحوشاً منا. هناك أفلام عن الباليه قبل ’الحذاء الأحمر‘ وأفلام باليه بعده، لكنه غير هذا النوع السينمائي الفرعي تماماً، وهذا المسار المظلم في تلك الأعمال يبدأ حقاً من هذا الفيلم. من الصعب تخيل فيلم باليه حلو ومضحك بعد ’الحذاء الأحمر‘".
كثيراً ما قيل لـ سكورسيزي إنه شخصياً مثل ليرمونتوف، رئيس شركة الباليه الذي لا يرحم الذي سيضحي بأي شيء أو بأي شخص في السعي إلى تحقيق التميز الفني. إنه تعليق حمال أوجه لكن سكورسيزي يقبله بسهولة.
اعترف سكورسيزي بأن "هناك شيئاً ما يتعلق بشخصية ليرمونتوف والعالم الذي يتحكم فيه، هو على ما أعتقد النبع الذي أعود إليه للتزود. يتعلق الأمر بغموض الفن - سر الشغف بالإبداع والجانب المظلم الذي يمكن أن يطغى".
بمنظور اليوم، ليرمونتوف هو شخصية إشكالية. يؤديه ولبروك بتفخيم درامي هائل وسحر، لكن هذا لا يخفي وحشية سلوكه. تصبح فيكي ضحية غيرته المدمرة. بعد أن قدمت عرضاً رائعاً في باليه "الحذاء الأحمر"، ثار غضباً لاكتشاف أنها أغرمت بالملحن الشاب جوليان كريستر (يؤديه ماريوس غورينغ)، فطرد كريستر من الشركة لكنه احتفظ بـ فيكي. تدمر "مغازلتها الحمقاء" حلم ليرمونتوف في جعلها أعظم راقصة على الإطلاق.
في سيرة حياة برسبرغر الصادرة عام 1994 وكتبها حفيده المخرج الإسكتلندي الحائز على جائزة الأوسكار كيفن ماكدونالد بعنوان "حياة وموت كاتب سيناريو"، ترد ملاحظات مزعجة حول سلوك باول الذي يشبه ليرمونتوف أحياناً أثناء إنتاج "الحذاء الأحمر".
كتب ماكدونالد، "حفز [باول] الولاء الوثيق لدى أولئك الذين عملوا معه بانتظام، لكنه بشكل عام كان شخصية لا تحظى بشعبية في صناعة السينما البريطانية وتتمتع بسمعة الغطرسة وسوء المزاج والقسوة حتى". يعتبر باول شخصية بارزة في السينما العالمية، لكنه كان أيضاً متنمراً ذا سلوك سادي واضح. أثارت معاملته للممثل المسن ألبرت باسيرمان، الذي لعب دور المصمم سيرغي راتوف في شركة الباليه، غضباً شديداً لدى ولبروك لدرجة أن الممثل - الذي لعب دور البطولة أيضاً في تحفة باول وبرسبرغر الصادرة عام 1943 "حياة وموت الكولونيل بليمب" The Life and Death of Colonel Blimp - تعهد بعدم العمل مع المخرج مرة أخرى.
كان بول يتنمر على الأضعف، أولئك الذين لم يكونوا في وضع يسمح لهم بالرد، على سبيل المثال الممثلون الذي يلعبون أدواراً صغيرة، أو على الفنيين المتوترين حيال العمل مع مثل هذا المخرج الموقر. خلال إعداد "الحذاء الأحمر"، كان سلوكه في أسوأ حالاته. كتب ماكدونالد عن جده "ليس هناك شك في أن [بريسبرغر] كان كثيراً ما يشعر بالاشمئزاز من سلوك شريكه".
الوجه الآخر للعملة كان جاذبية باول وعبقرية - وهذا ما أبقى بريسبرغر معه. جعل فريق عمل "الحذاء الأحمر" يعمل بجد، على كل حال، زعم المصور السينمائي للفيلم جاك كارديف أنه كان "فريقاً سعيداً بشكل غير اعتيادي" وأن المخرج غذى المتعاونين معه بحماسه الخاص. يقول: "كان يشجعني على المضي قدماً في أية فكرة كانت لدي مهما كانت جامحة وتجريبية. لم يكن هناك ما يمثل مخاطرة كبيرة بالنسبة إلى ميكي وكنت أعرف دائماً أنه سيدعمني إذا جربت شيئاً جريئاً".
السيناريو الذي وضعه برسبرغر كتب في الأصل لصالح المنتج المستقل ألكسندر كوردا، ولكن تولت إنتاجه في النهاية شركة "رانك أورغنايزيشن" Rank Organisation. يجمع الفيلم بين القصة الخيالية وعناصر العروض الموسيقية المسرحية التقليدية. تستعرض الحبكة حياة الراقصة الشابة فيكي عندما يتبناها ليرمونتوف فنياً وترقيتها في النهاية إلى راقصة باليه رئيسة. وصلت إلى المجد في عرض "الحذاء الأحمر" الذي وضع لحنه كريستر، لكن اندحارها يبدأ بعد ذلك.
عمد مخرجا الفيلم إلى تجنيد راقصين قادرين على التمثيل. أعطى هذا الفيلم أصالة تفتقر إليها أفلام الباليه اللاحقة مثل "البجعة السوداء" The Black Swan (الصادر عام 2010) الذي استخدم ممثلين بديلين لأداء مشاهد الرقص - على رغم أن ناتالي بورتمان أدت معظم الرقص الذي ظهر في الفيلم النهائي، وفقاً لمخرجه دارين أرونوفسكي.
ومع ذلك، كانت مناورة باول الأكثر جرأة هي تضمين عرض "الحذاء الأحمر" الذي يبلغ طوله 17 دقيقة بأكمله كتسلسل مشاهد قائم بحد ذاته، مما أرعب المسؤولين التنفيذيين في شركة الإنتاج. كان هذا فيلماً باهظ الكلفة لا يحتوي على نجوم مشهورين وتجاوز موازنته المخصصة. شعر كبار المسؤولين في شركة الإنتاج أنه كان تجريبياً للغاية، وطموحاً وبعيداً جداً من استمالة الجمهور العام البريطاني. صنف الفيلم على أنه مناسب لجميع الفئات العمرية لكنه كان يتطرق إلى بعض المواضيع المظلمة للغاية، من بينها الموت والخيانة.
كان تقييم النقاد لـ"الحذاء الأحمر" مختلطاً، مع تذمر عديدين من أن محتوى الباليه فيه كان أكثر بكثير مما يفضلون. ومع ذلك، حقق الفيلم في النهاية نجاحاً ضخماً في شباك التذاكر على جانبي المحيط الأطلسي وفاز بجوائز أوسكار.
في سيرته الذاتية التي كتبها بقلمه وتحمل عنوان "حياة في فيلم"، أرجع باول شعبية الفيلم إلى طموحه الفني القوي. تكهن بأن رواد السينما بعد الحرب كانوا مستعدين لمشاهدة الأفلام التي تتحداهم. يكتب "أعتقد أن السبب الحقيقي وراء نجاح ’الحذاء الأحمر‘ هو أنه قيل لنا جميعاً لمدة 10 سنوات أن نخرج ونموت من أجل الحرية والديمقراطية... والآن بعد انتهاء الحرب، أخبرنا ’الحذاء الأحمر‘ أن نخرج ونموت من أجل الفن".
من الصعب التفكير في أي فيلم بريطاني آخر في ذلك العصر كان له تأثير واسع ودائم مثله. كان المخرجون من جيل سكورسيزي، ومن بينهم ستيفن سبيلبرغ وبريان دي بالما، يقدسون "الحذاء الأحمر" لإبداعه الشكلي. كان هذا مثالاً على ما أسماه باول "فيلماً مؤلفاً" تدمج فيه جميع العناصر - الإضاءة والتصوير السينمائي والصوت والموسيقى وتصميم الإنتاج والأداء - بسلاسة.
ربما تدور أحداثه في عالم الباليه ولكن سكورسيزي التقط على الفور ديناميكيته البصرية. بعد سنوات، عندما صنع فيلم الملاكمة الخاص به "الثور الهائج" Raging Bull (1980)، كانت النقلات السريعة للكاميرا خلال الجولة الأولى بين جيك لاموتا و شوغار راي روبنسون مستوحاة من حركة الكاميرا المثيرة بالمثل التي استخدمها بأول في مشاهد فيكي وهي تقدم عرض صباحي (ماتينيه) في مسرح ميركوري نصف فارغ في منطقة نوتينغ هيل غيت في لندن.
توجد مفارقة هنا، إذ شجع "الحذاء الأحمر" أجيالاً من الفتيات والفتيان الصغار على ممارسة الباليه على أمل أن يتمكنوا من محاكاة فيكي، لكنه أيضاً الفيلم الذي أطلق مخيلة سكورسيزي عندما شرع في صنع بعض أفلامه الأكثر عنفاً.
في مقالة كتبتها ديبرا بول، مديرة سابقة في مدرسة الباليه الملكية، عام 2013 لهيئة الإذاعة البريطانية عن الفيلم، قالت فيه "هناك أسباب عديدة تجعلني أكره الفيلم: موقفه الذي عفا عليه الزمن تجاه النساء، ونظرته المشوهة للباليه التي تفترض فكرة أن الراقصين يجب أن يعانوا بسبب فنهم، والتصويرات المضحكة المبالغ بها والكليشيهات المقحمة. لكنني لا أكرهه، بل أحبه"، ووصفته بأنه "أكثر فيلم أصيل عن الرقص أعرفه".
تتحدث هاتشينسون، التي شاهدت الفيلم للمرة الأولى عندما كانت صغيرة جداً، عن مدى "الجمال والجاذبية" اللذين ما زالت تجدهما في العمل - ولكن أيضاً عن مدى صدمتها في كل مرة تشاهده بسبب النهاية المفاجئة والقاتمة للغاية.
تقول ملخصة الطبيعة المتناقضة لـ"الحذاء الأحمر"، "يبدو أنه يشير إلى وجود شيء خطر في الفن وأن التأثر بالدافع الفني أمر فظيع، مع ذلك، فإنه يملأ المرء بشغف لخلق شيء ما... إنه دعاية للفن ولكنها دعاية مرفقة أيضاً بهذا التحذير الرهيب جداً".
تعقد الاحتفالية الكبرى التي يقيمها المعهد البريطاني للأفلام على مستوى المملكة المتحدة "سينما بلا حدود: العوالم الخلاقة لـ باول وبرسبرغر" بين الـ16 من أكتوبر (تشرين الأول) والـ31 من ديسمبر (كانون الأول). وتتضمن معرضاً في مقر المعهد البريطاني للأفلام في ساوث بانك في لندن بمناسبة الذكرى الـ75 لصدور فيلم "الحذاء الأحمر"، إلى جانب نشر كتاب باميلا هاتشينسون، ضمن سلسلة "أفلام كلاسيكية" التي يصدرها المعهد البريطاني للأفلام، في الخامس من أكتوبر.
يبدأ عرض "الحذاء الأحمر: خطوة تالية" في صالات السينما في المملكة المتحدة في السابع من يوليو (تموز).
© The Independent