Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قريبا من الكرملين... العالم يعزف "كونسرت الحرب"

موسكو تطلق الدورة الـ17 لمسابقة تشايكوفسكي تسامياً فوق أحزان اللحظة وأخطاء السياسة وهوس الجنرالات

صدحت موسيقى تشايكوفسكي معلنة أن الفن أقصر الطرق إلى إصلاح ما أفسدته السياسة وأن "الجمال ينقذ العالم" (أ ف ب)

ملخص

ها هي أعلام الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وغيرها من البلدان الغربية ترفرف جنباً إلى جنب مع أعلام روسيا ورموزها في قلب العاصمة موسكو غير بعيد من الكرملين.

عاد تشايكوفسكي أحد أبرز أساطين عالم الموسيقى، ليكون عنواناً لإحدى أشهر وأبرز المسابقات الموسيقية الدولية منذ أعلنتها موسكو سبيلاً إلى تبديد ما شاب أجواء السياسة من "رمادية" إبان أحلك سنوات "الحرب الباردة" عام 1958.

ها هي العاصمة الروسية تعود لتحتفل معه بالدورة الـ17 لهذه المسابقة الموسيقية العالمية التي تحمل اسمه في أجواء يبدو العالم معها فقد عقله، بعد أن عاد وسقط ثانية في لجة الحرب وجنونها، مما جعله في أمس الحاجة إلى من يلم شمل ما تفرق.

فوق عثرات التاريخ

عاد تشايكوفسكي ليكون إعلاناً عن أهم أحداث الساحة الفنية الروسية والعالمية، وبطاقة تعارف تدعو إلى التسامي فوق أحزان اللحظة وعثرات التاريخ، وفي لقاء يجمع ولا يفرق، بعيداً من أخطاء رجال السياسة وهوس جنرالات الحروب.

وها هي أعلام الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وغيرها من البلدان الغربية ترفرف جنباً إلى جنب مع أعلام روسيا ورموزها في قلب العاصمة موسكو غير بعيد من الكرملين، قدس أقداس الدولة الروسية، حيث تزين الساحة المواجهة لكونسرفتوار موسكو، أحد أشهر المعاهد الموسيقية العالمية، الذي انتشرت على جانبيه شاشات تلفزيونية عملاقة تنقل الحدث أولاً بأول. وهذه هي موسيقى تشايكوفسكي تصدح عالية رنانة معلنة افتتاح الدورة، وتأكيداً أن الفن "أقصر الطرق إلى إصلاح ما أفسدته السياسة"، وأن "الجمال ينقذ العالم".

ومسابقة تشايكوفسكي ذات تاريخ مشهود، فعلى رغم أن مجمل سنواتها لا يتعدى 65 عاماً، فإن كل عام منها سيظل سفراً وعنواناً لمواهب وأسماء على غرار الأميركي فان كلايبرن، الفائز بالجائزة الأولى للبيانو في أولى دوراتها عام 1958، وجون أوجدن البريطاني، ودينيس ماتسويف الروسي، وغيرهم من أساطين الفن والموسيقى ممن يسيرون على الدرب نفسه سعياً وراء إعلاء ما وصل إليه تشايكوفسكي من مكانة وسمو في عالم الموسيقى الكلاسيكية العالمية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حفلة الافتتاح هذا العام أحياها بين جنبات القاعة الكبرى لكونسرفتوار موسكو، الذي يحمل اسم بيوتر تشايكوفسكي، أوركسترا مسرح مارينسكي، أحد أهم المسارح الروسية والعالمية في سان بطرسبورغ، بقيادة المايسترو الأشهر فاليري جيرجييف، رئيس لجنة تحكيم المسابقة هذا العام، الذي كان في صدارة من تمردوا على "نظام العقوبات الغربية" التي فرضت على روسيا ورموزها من رجال السياسة والاقتصاد والثقافة والفنون، وفضل العودة لرحاب الوطن بعيداً من قيود الغرب وعقوباته.

وازدان المكان بحضور عدد من نجوم العالم في الموسيقى الكلاسيكية والغناء الأوبرالي من الفائزين بجوائز الدورات السابقة، ومنهم عازف البيانو والملحن الصيني ليو شي كون، وعازف البيانو الروسي دينيس ماتسويف، عضو لجنة تحكيم هذا العام، وألكسندر رام عازف التشيللو، وبافيل ميليكوف عازف الكمان، وآخرون.

وحرصت اللجنة المنظمة لهذا الحدث الفني المشهود على نقل حفلة الافتتاح إلى الداخل والخارج على الهواء مباشرة عبر عديد من القنوات التلفزيونية والإذاعات المحلية والدولية، التي نقلت أيضاً عدداً من الفعاليات الفنية الأخرى، ومنها مقتطفات من مذكرات ورسائل تشايكوفسكي بأصوات عدد من أبرز وأشهر الشخصيات الفنية والثقافية. 

أما عن المسابقة فتجري فصولها، شأن الدورة السابقة في كل من العاصمتين "الفيدرالية" موسكو، و"الثقافية" سان بطرسبورغ، خلال الفترة من الـ20 من يونيو (حزيران) إلى الأول من يوليو (تموز) من العام الحالي. وينشد الفوز بجوائزها هذا العام 742 من ممثلي الأجيال الشابة الواعدة الذين جاؤوا من 41 بلداً يطرقون أبواب عالم الشهرة والاحتراف في عدد من أهم عناوين الموسيقى الكلاسيكية والغناء الأوبرالي، اقتفاء لجهود أسلافهم من نجوم الساحة الفنية العالمية.

ومن اللافت في هذا الصدد أن عدداً من الفائزين السابقين بجوائز أهم المسابقات الموسيقية العالمية جاؤوا أيضاً إلى موسكو امتثالاً لرغبة جارفة في تتويج مسيرتهم بالفوز في مسابقة تشايكوفسكي، التي ثمة من يعتبرها الأهم في الساحة الموسيقية العالمية. ومن هؤلاء ألكسندر كليوشكو، الفائز بالجائزة الأولى في مسابقة راخمانينوف الدولية الأولى، وفالنتين مالينين الفائز بالجائزة الكبرى لمسابقة فلاديمير كراينيف الدولية الثالثة بموسكو. ولم لا والمسابقة ذات تاريخ مجيد يزدان بأسماء خالدة من أساطين الفن والموسيقى من ذوي الإنجازات الإبداعية العالمية، ومنهم الموسيقي العالمي دميتري شوستاكوفيتش، الذي كان أول رئيس للجنتها المنظمة، كما أن لجان تحكيمها في عديد من دوراتها طالما كانت تضم أسماء كبار على غرار سفياتوسلاف ريختر ومستيسلاف راستروبوفيتش وجورجي سفيريدوف وآخرين كثيرين.

موسيقى المأساة والحصار

غير أن اللافت في مسابقة هذا العام يتمثل في أنها تجري في ظروف بالغة المأساوية تشهد ليس فقط استمرار ما فرضته البلدان الغربية من عقوبات ضد روسيا ورموزها السياسية والثقافية، بل وأيضاً احتدام المعارك والمواجهات المسلحة بين القوات الروسية من جانب، والقوات الأوكرانية المدعومة بالأسلحة والمتطوعين مما يزيد على 50 من بلدان الاتحاد الأووبي وغيرها من بلدان العالم من جانب آخر، وهو ما بلغت تداعياته الكرملين ومناطق الجوار المتاخمة للحدود الروسية - الأوكرانية، فضلاً عن كثير من أشكال الحظر والحصار والمضايقات التي طالما تعرض لها كثير من الرياضيين ممن حالت هذه القيود دون مشاركتهم في عديد من المباريات الدولية والدورات الأولمبية والبطولات العالمية، مما أثار مخاوف كثيرين من احتمالات عدم انعقاد هذه الدورة لمثل هذه المسابقة شديدة الأهمية بكل ما تحمله من معان دلالات، وما يمكن أن يعيد إلى الأذهان بعضاً من صفحات الماضي، وما حفلت به ذكريات كبار الساسة والمؤرخين من رموز ذلك الزمان. ومن هؤلاء سيرغي خروشوف ابن الزعيم السوفياتي الأسبق نيكيتا خروشوف الذي أورد بعضاً من ذكرياته حول هذه المسابقة في كتابه "نيكيتا خروشوف.. الإصلاحي" الصادر عام 2010.

 

 

يقول سيرغي في كتابه "في الـ18 من مارس (آذار) عام 1958، افتتحت الدورة الأولى لمسابقة تشايكوفسكي الدولية. ولم يكن أحد يتخيل منذ خمس سنوات فقط أن يكون حدث كهذا أمراً ممكناً. فلم يكن أحد ليأتي إلينا. قمنا بدعوتهم فاستجابوا، ولم يحدث ما يعكر صفو ذلك الحدث. لا بل حصل الأميركي الأشقر ذو الشعر المجعد من ولاية تكساس، واسمه فان كلايبرن، على الجائزة الأولى في مسابقة البيانو".

ولم يكن سيرغي ليغفل في هذا الصدد ما تناثر من حكايات وأقاويل حول إعلان فوز الأميركي الأشقر فان كلايبرن بالجائزة الأولى لهذه المسابقة العالمية، وما شاب ذلك من طرافة ينال بعضها من موضوعية التحكيم، وما قد يسمى "أعلى درجات الخلط بين الفن والسياسة"، وذلك ما تناوله في كتابه سالف الذكر، الذي قال فيه "وصل إلى التصفية النهائية في الدورة الأولى لمسابقة تشايكوفسكي الدولية عازفا البيانو السوفياتي ليف فلاسينكو، والأميركي فان كلايبرن. وساور القلق لجنة التحكيم في شأن عدم موضوعية الحكم على فان كلايبرن في ظل احتدام الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. كان واضحاً وجود تيارين داخل لجنة التحكيم أحدهما (حكومي – قومي) يسعى إلى تفضيل أحد المتسابقين السوفيات، و"مستقل" يحاول أن يؤسس لتقاليد مسابقة دولية عريقة بما يعنيه ذلك من لجنة تحكيم موضوعية خارج إطار الحسابات السياسية".

أما عن تفاصيل ما جرى فعاد ليعترف ببعضها عضو لجنة التحكيم وعازف البيانو سفياتسلاف ريختر، الذي كشف عن فضيحة منح كل المتسابقين صفراً من أصل 25 درجة، باستثناء المتسابق الأميركي فان كلايبرن، الذي منحه 25 درجة من أصل 25 (نعتقد أن المقصود درجة 5 وهي الدرجة النهائية للتقديرات السوفياتية، وليس 25) من فرط إعجابه به، ولرغبته في مساندة ذلك التيار "المستقل"، الأمر الذي دفع المسؤولين داخل لجنة التحكيم، وربما اللجنة المنظمة للمسابقة إلى تعديل هذه الأصفار إلى درجة 3 بعد ذلك، وهو ما ظهر جلياً في ورقة التصويت المحفوظة في أرشيف متحف جلينكا.

فلنؤكد للعالم حيادنا

وأضاف سيرغي خروشوف أن الموقف لم يكن ليقتصر على مستوى لجنة التحكيم، إذ سرعان ما ترامت أخبار "الفضيحة" إلى أروقة وزارة الثقافة السوفياتية للسبب ذاته. فكيف يفوز أميركي بالجائزة الأولى في أول وأكبر مسابقة موسيقية دولية في الاتحاد السوفياتي؟ لذا فقد طرح عدد من أعضاء لجنة التحكيم فكرة اقتسام الجائزة الأولى بين الأميركي فان كلايبرن والسوفياتي ليف فلاسينكو. وطرحها آنذاك ميخائيل سوسلوف أحد أبرز قيادات الحزب الشيوعي، الذي اعتبر أن حصول أميركي على الجائزة الأولى في المسابقة سيكون بمثابة "هزيمة أيديولوجية" للاتحاد السوفياتي، وحاول الوصول بشكل ودي إلى عضوي لجنة التحكيم من السوفيات إيميل جيليلس ودميتري كاباليفسكي، اللذين أكدا له أن محاولة التأثير في لجنة التحكيم الدولية ستكون "شهادة وفاة" لمسابقة تشايكوفسكي، وهو ما أيدته كاتيرينا فورتسيفا وزيرة الثقافة، ومعها نائبها سيرجي كافتانوف. وآنذاك لجأ سوسلوف إلى خروشوف شخصياً، لكن فورتسيفا كانت سبقته، والتقيا في مكتب نيكيتا خروشوف ليدور الحوار التالي:

قال سوسلوف إن لجنة التحكيم تدفع باتجاه حصول الأميركي على الجائزة، فقاطعته فورتسيفا بالقول "يرى كافتانوف، وهو محق في ذلك، أن محاولة الضغط على لجنة التحكيم ستكون بمثابة كارثة تحيق بالمسابقة، وسيعتذر الأعضاء الأجانب في اللجنة ويرحلون عنا من دون رجعة"، وهنا تدخل سوسلوف قائلاً "إنه أميركي"، فردت فورتسيفا "أميركي، لكنه ينتمي إلى تقاليد المدرسة الروسية، فأستاذته في الولايات المتحدة هي روزينا ليفينا، من تلامذة الأستاذ الروسي سافونوف في كونسرفتوار موسكو". وعلق خروشوف "إذا كانت اللجنة قررت ذلك فليس لنا أن نتدخل. إنهم محترفون. وماذا في ما لو كان الفائز أميركياً؟ على العكس، إن ذلك أمر جيد، فلنؤكد للعالم أننا محايدون".

انتهى اللقاء عند هذه النقطة، وحصل عازف البيانو الأميركي فان كلايبرن ذو الـ23 ربيعاً على الجائزة الأولى في ذلك العام لتسجل المسابقة بذلك اسمها ومكانتها ضمن أكبر وأعرق المسابقات العالمية في مجال الموسيقى.

من الجدير بالذكر أن نيكيتا خروشوف حضر الحفلة الختامية للمسابقة وبصحبته يليزافيتا، ملكة بلجيكا التي أتت خصيصاً لحضور المسابقة، وعقب لقاء خروشوف بكلايبرن سأله خروشوف مداعباً ومتعجباً من طول قامته ونحافته "ماذا يطعمونك في تكساس، خميرة؟". ليجيب الأخير "بل كنت أتعاطى كثيراً من الفيتامينات"، فضحك خروشوف وأجابه "أنا الآخر أتعاطى فيتامينات ولكن من دون جدوى في ما يبدو".

ويالها من تفاصيل، فثمة من يقول إنها تظل في حاجة إلى من يضيف إليها بعضاً من مفردات ما يدور وراء كواليس عالم الفن والموسيقى، ليس في روسيا وحدها، بل وفي العالم أجمع، شأنها في ذلك شأن عالم السياسة، وهو ليس "ناصع البياض" كما نعرف.

المزيد من تقارير