ملخص
لا يرغب المجتمع والدولي في انهيار الدولة المركزية في السودان، إذ إن ما تجلبه من حروب أهلية وبؤر لمنطلقات الهجرة غير الشرعية وانتقال جماعات الإرهاب في أفريقيا إليها ستؤدي إلى اشتعال منطقة وسط القارة وشرقها وغربها بالحروب.
بعد مرور أكثر من شهرين على اندلاع الحرب السودانية بين الجيش والدعم السريع في الـ 15 من أبريل (نيسان) الماضي، وبعد فشل الهدن المتجددة، وفي ظل الدعوات التي لمح لها بعض قادة الجيش والحركات المسلحة لتسليح الشعب، وإثر مقتل والي ولاية غرب دارفور خميس أبكر، تبدو مؤشرات الحرب الأهلية في السودان بادية للعيان وإن ظلت حتى الآن هوية العنف السياسي في الخرطوم هي الإطار الغالب، لكن يخشى أن تتطور الأمور في دارفور، لا سيما وأن الإقليم شهد حرباً أهلية طاحنة دامت لأكثر من عقد إثر تورط نظام الرئيس السابق عمر البشير في تسعير النزاع بين المكونات القبلية بالإقليم آنذاك، مما أسفر عن مأساة إنسانية راح ضحيتها 300 ألف مواطن.
اليوم وعلى رغم ألا أحد من طرفي الصراع بوسعه القضاء على الطرف الآخر، إلا أن أوهام قادة الحرب الذين لم يكترثوا أصلاً لبديهية استحالة نجاح أي حرب في المدينة بين طرفين عسكريين لا زالوا يراهنون على حسمها على رغم مضي شهرين كاملين على انطلاقها.
كل المعطيات تدل على أن هذه الحرب كانت مؤجلة وأن الهوية السياسية لطابعها تبدو ظاهرة للعيان، على رغم غبار الحماسة الذي عادة ما يغيب الطابع السياسي لأسبابها، طمعاً في ضخ مزيد من جدوى الانخراط فيها، وبطريقة كلما توسعت أصبحت منذرة بكارثة في المنطقة برمتها.
انتباه دولي
المجتمع الإقليمي والدولي منذ البداية كان منتبهاً لخطورة الصراع في الخرطوم، بل يمكن القول إنه ممثلاً في الرباعية الدولية من أجل السودان (أميركا وبريطانيا والسعودية والإمارات) التي تم إنشاؤها إثر انقلاب قائد الجيش عبدالفتاح البرهان على الحكومة الانتقالية بقيادة عبدالله حمدوك في الـ 25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021 كانت منتبهة للتداعيات الخطرة التي يمكن أن يدخل فيها السودان في ظل الانقلاب الذي أنهى المرحلة الانتقالية، لذلك دعمت الرباعية الحل السياسي الذي أسفر عنه الاتفاق الإطاري، وهو اتفاق وقع عليه كل من الجيش والدعم السريع إلى جانب القوى الحزبية، وكان اتفاقاً يهدف إلى تسليم السلطة لحكومة مدنية وخروج الطرفين العسكريين من إدارة السلطة السياسية للبلاد.
وبعد اندلاع الحرب كانت محاولة الاحتواء الباكرة لتداعيات الحرب ممثلة في المبادرة الأميركية - السعودية التي احتضنتها مدينة جدة بادرة معبرة عن حرص المجتمع الإقليمي والدولي، إذ تم توقيع أول اتفاق على الهدنة بعد أقل من شهر عن اندلاع الحرب في الـ 12 من مايو (أيار) الماضي، ولا تزال مبادرة الميسرين لإنهاء الصراع تتجدد رعايتهما عبر الهدن المتكررة في محاولة لوقف نهائي لإطلاق النار.
تهديد جيوسياسي
ثمة مؤشرات كثيرة تدل على أن استمرار الحرب في السودان ستكون بمثابة تهديد خطر للمنطقة لأن الموقع الجيوسياسي وطبيعة دول الجوار (وهي سبع دولة أفريقية شهدت خمس منها حروباً أهلية وهي ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان وأثيوبيا)، تعكس استجابات وتفاعلات خطرة متى ما تحول الصراع إلى حرب أهلية، مما سيؤدي إلى انخراط مكونات حدودية بين السودان والدول الخمس، وذلك ينذر بشر مستطير جراء انتقال الحروب بين شرق أفريقيا وغربها، ناهيك عن المشكلات الخطرة التي تنجم عن انهيار الدولة السودانية.
لهذا نجد في الاستجابة المتفاعلة من طرف المجتمع الإقليمي والدولي إزاء أوضاع الحرب في السودان ما يعكس اهتماماً كبيراً خشية الانهيار الكامل للدولة المركزية ودخولها في الحرب الأهلية، لذا نجد إلى جانب منبر جدة لجنة الاتصال الدولية الموسعة من أجل السودان، إضافة إلى الرباعية الأفريقية المكونة من دول منظمة "إيغاد" وكذلك محاولات الاتحاد الأفريقي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويبدو واضحاً من سياق اهتمام المجتمع الإقليمي والدولي أنه ينطلق من ضرورة مساعدة السودانيين لأن الوضع السياسي بعد الإطاحة بالبشير ليس به انسداد كما كان الحال في بعض بلدان الربيع العربي مثل سوريا واليمن وليبيا، كما أن الصراع الذي تخوضه الولايات المتحدة وروسيا في أفريقيا على هامش الحرب الروسية - الأوكرانية، ويأتي السودان فيه على قمة أولويات حسم النفوذ بين الطرفين، لا سيما بعد أن بدا واضحاً تأثير الذهب السوداني وتدخل موسكو في مشاريع تنقيبه خلال الأعوام الماضية.
الاستباق بعقد مؤتمر الاستجابة الإنسانية للأوضاع في السودان الذي تم عقده في جنيف، 19 يونيو (حزيران) الجاري، برئاسة السعودية ومشاركة الأمم المتحدة وألمانيا والولايات المتحدة ومصر وقطر والاتحاد الأوربي، كان خطوة مهمة في سبيل إغراء الطرفين المتحاربين بضرورة التوقف عن الحرب في ظل إمكان احتواء آثارها عبر الدعم الإنساني الذي يمكن أن يقدمه المجتمع الدولي من خلال ذلك المؤتمر بعد أن رصد مبلغ 3 مليارات دولار تم جمع نصفها.
منبر جدة التفاوضي
وحتى الآن لا يزال الميسران عبر منبر جدة يراهنان على الهدن التي لقيت أخيراً استجابات ملحوظة من طرفي الحرب، لا سيما الهدنة قبل الأخيرة التي شهدت التزاماً كاملاً بوقف إطلاق النار، وكان التلويح بتأجيل المحادثات له أثر واضح في التزام الطرفين بها على رغم أن الهدنة الأخيرة التي استمرت 72 ساعة شهدت في اليوم الثالث خروقات صحبتها اتهامات متبادلة.
حتى الآن لم يصدر بيان عن منبر جدة حيال الخروقات التي تمت في الساعات الأخيرة من الهدنة، ويبدو أن النجاح النسبي الذي حققته الهدنتين الأخيرتين سيغري الميسرين بالمضي قدماً في اقتراح مزيد من الهدن التي قد تنجح في الوصول إلى وقف لإطلاق النار.
ما يبدو غريباً ولافتاً للنظر هو تجدد خرق الهدن بين الطرفين، فإذا سلمنا نظرياً بأن القوتين المتصارعتين عسكريتان فإن الانضباط المفترض في الالتزام بالنظام هو ما ينبغي أن يغلب على التزام الطرفين، لكن في ظل تجدد الهدن وتجدد خرقها ربما يؤشر ذلك إلى أن ثمة طرفاً يريد استمرار الحرب حتى من دون رغبة القائمين عليها، وهذا في تقديرنا أسوأ احتمال قد يؤثر في المجريات، الأمر الذي يظن معه أن ثمة مراكز عدة للقيادة في أحد الطرفين، وهو اتجاه يرسل إشارات سالبة للمجتمع الدولي حيال الالتزام بالهدن.
رجاء التهدئة
ما يرجوه المراقبون من النجاح النسبي للهدنتين الأخريين هو أن يصار إلى هدن أخرى، لا سيما مع قرب حلول عيد الأضحى، قد تكون ممهدة لاتفاق وقف إطلاق طويل يؤدي إلى مفاوضات في شأن إنهاء الحرب والوصول إلى اتفاق سياسي جديد.
الحرب التي بدا عنفها اليوم على هذا النحو من الخطورة الذي لفت نظر المفوض العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية حين أبدى دهشته من نزوح مليونين داخل السودان ولجوء نصف مليون إلى الخارج فقط بعد مرور شهرين، هو ظاهرة تعكس مدى خطورة هذه الحرب إذا اتسعت رقعتها وتحولت إلى أهلية شاملة في السودان.
السيناريو المحتمل في حال فشل الهدن واضطرار منبر جدة لتأجيل المفاوضات هو سيناريو الفصل السابع الذي سيضع السودان تحت وصاية الأمم المتحدة، وهذا سيعني دخول قوات أممية لوقف الحرب، لكن بطبيعة الحال يقف أمام هذا الاحتمال الـ "فيتو" الذي يمكن أن تعترض به روسيا والصين، وذلك ما تحاول أن تتجنبه الولايات المتحدة على المستوى الأممي، على أن تجعل منه ممكناً عبر التنسيق مع الاتحاد الأفريقي وبالتعاون مع اللجنة الدولية الموسعة من أجل السودان للشروع في اتخاذ إجراءات تشبه سيناريو الفصل السابع.
وفي كل الأحوال لا يرغب المجتمع الإقليمي والدولي في انهيار الدولة المركزية في السودان لأن الشرور التي سيجلبها هذه الانهيار من حروب أهلية وبؤر لمنطلقات الهجرة غير الشرعية، وانتقال جماعات الإرهاب في أفريقيا إليها وغير ذلك من الشرور التي قد تكون نهايتها اشتعال منطقة وسط القارة وشرقها وغربها بالحروب، كل ذلك سيجعل من أي مشروع لإيقاف الحرب السودانية أقل كلفة من استمرارها.