ملخص
غزارة إنتاج كلايد فيتش ورغباته التجديدية أوصلته إلى انعطافة حاسمة باكتشافه واقعية مسرح إبسن
منذ الحوارات الأولى لمسرحية "الحقيقة" التي افتتح بها الكاتب الأميركي كلايد فيتش في عام 1906 المرحلة الأخيرة (السيكولوجية) في مساره المهني المسرحي قبل أن يرحل عن هذا العالم بعد ثلاثة أعوام تحت وطأة أمراض فتكت به وهو في زيارة أخيرة لفرنسا، يخبرنا الكاتب كيف أن الشخصية المحورية في مسرحيته هذه تعاني مشكلة حقيقية مع... الحقيقة. فهي ومهما كانت أوضاعها، لا يمكنها أن تقول الحقيقة. الحقيقة بالنسبة إليها مفهوم لا يمكنها التوافق معه في حياتها اليومية. والواقع أن مجرد أن تخطر على بال كاتب مسرحي في مستهل القرن العشرين فكرة من هذا النوع يسم بها بطلته، كان أمراً يضع الكاتب وهو يكتب من خلال تلك المسرحية وصيته الفنية والاجتماعية، في صلب البعد النفسي لقضية الواقعية الاجتماعية ولكن متضافرة مع نوع من التحليل لا شك أنه كان جديداً على المسرح الأميركي في ذلك الحين. ومن هنا يمكننا القول إن فيتش قد استكمل بتلك الفكرة مكانته التي لم تنكر بعد ذلك أبداً – وإن كانت قد نسيت بين الحين والآخر – بوصفه الرائد الحقيقي للمسرح الواقعي الأميركي.
اكتشاف متأخر للكتابة المسرحية
فلئن كانت الكتابة المسرحية الأميركية قد عرفت نهضة كبيرة أواخر القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين، فإن تلك النهضة جعلت العديد من الكتاب الأميركيين يشغلون مكانة متقدمة في تاريخ المسرح الأميركي، بل حتى العالمي وحياته، ويساهمون في إخراج المسرح الأميركي – على الأقل – من محليته الضيقة إلى فضاءات أوسع. ومع ذلك فإن الولايات المتحدة على رغم ازدهار فن المسرح والعروض المسرحية فيها طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم تشهد ظهور كتّاب مسرح كبار يمكن مقارنتهم بالكتاب الأوروبيين أو الروس تحديداً. فما غلب على العرض المسرحي الأميركي في ذلك الحين كان التقاليد التقنية وازدهار فن التمثيل محاكاة للإبداعات الإنجليزية في هذا المجال. أما النصوص فكانت على الدوام تقريباً، ثانوية الأهمية. ومن هنا تأتي أهمية كلايد فيتش الذي ينظر إليه مؤرخو المسرح اليوم بوصفه واحداً من أوائل كتاب المسرح الأميركي الحقيقيين الذين جعلوا للنص المسرحي أهميته. بل كان أيضاً واحداً من أوائل الكتاب المسرحيين في "العالم الجديد" الذين خرجوا بنصوصهم عن محيطهم "الضيق" ليوصلوها إلى أوروبا ولا سيما إلى فرنسا التي عاش هو نفسه آخر سنواته فيها ومات مريضاً كما أسلفنا في عاصمتها.
إلى نيويورك
ولد كلايد فيتش عام 1865 في ضاحية إلميرا النيويوركية. وهو بعد دراسته الإبتدائية شغف بالمسرح وبدأ باكراً بدراسة الدراما في كلية إمهرست التي ما إن تخرج منها حتى توجه إلى نيويورك نفسها آملاً في أن يحقق فيها ما كان يصبو إليه من شهرة. وفي المدينة التي كانت تضج بالحياة في ذلك الحين بدأ فيتش حياته الإبداعية بكتابة القصص القصيرة التي راح ينشرها في الصحف والمجلات لافتاً النظر بما اتسمت به من طابع تجريدي كان حينها يوصف بـ"الأسلوب الأوروبي". ولقد قاده ذلك إلى البدء بتجربة حظه في الكتابة المسرحية فكتب عمله الأول "بو بروميل" (1900) التي سرعان ما لقيت ترحيباً ونجاحاً جعل اسم مؤلفها الشاب على كل شفة ولسان. وكان من الطبيعي لفتى له طموح هذا الكاتب الثلاثيني ألا يتوقف عن الكتابة منذ ذلك النجاح حتى وإن كان لا يزال من الصعب عليه أن يعثر على طريقه الخاص. ولا حتى في مسرحيتيه التاليتين "ناثان هال" و"باربارا فريتشي" اللتين لم يعرف كيف يخرج بهما عن الدروب الممهدة لمسرح رومانطيقي أميركي كان لا يزال سائداً. ولسوف تظل حال فيتش هكذا حتى النقطة الفاصلة بين القرن المنصرم والقرن الجديد الذي سيليه. وكان عنوان ذلك بالنسبة إليه هنريك إبسن. إذ فجأة ومن دون توقع اكتشف الكاتب الأميركي الشاب مسرح إبسن الواقعي الاجتماعي فكانت تلك الانعطافة الكبرى؛ ليس في حياته ومسرحه فقط، بل في الكتابة المسرحية الأميركية بأسرها.
مسرح أفكار
منذ تلك اللحظة تخلى فيتش عن رومانطيقيته ليتمسك بمسرح الأفكار كما تلمسه لدى سلفه النرويجي الكبير. وتحول مسرحه إلى ميدان تتصارع فيه وتتجابه أفكاره وتفاعله مع القيم. وهو ما سوف يطبع المسرح الأميركي برمته منذ ذلك الحين ولا سيما تحت ظل النجاح النقدي الكبير الذي حققته أول مسرحية كتبها فيتش ضمن إطار اهتماماته المتجددة وهي "المتسلقون" (1901) التي بدت متشابهة كل التشابه مع ما يعتمل من أفكار وصراعات جوّانية من حول ذلك "الحلم الأميركي" الذي كان يشغل العقول في العالم الجديد: ففي نهاية الأمر لم يكن ما عالجه فيتش في تلك المسرحية أقل من الصراع الذي ينشأ لدى الأميركي بعد أن يسعى طوال حياته لتحقيق أحلامه في الثراء والمكانة بحثاً عن تلك السعادة التي يعده الحلم الأميركي بها. ثم يقف وهو في ذروة نجاحه ليسأل نفسه بقلق: وماذا بعد؟ لقد كان هذا موضوعاً أميركياً حقيقياً وراهناً في زمن كان الأميركيون قد بدأوا يجابهون العالم القديم بتساؤلاتهم وضروب قلقهم. وها هو المسرح الأميركي نفسه يضع لهم مرآة كبيرة تعكس ليس صورة نجاحهم البرّانية، بل مخاوفهم الجوّانية. والحقيقة أن "المتسلقون" بدت من القسوة إلى درجة أنها... لم تحقق النجاح الكبير الذي كان متوقعاً لها!
مراهنة مستقبلية
مهما يكن من أمر. صحيح أن تلك المسرحية، "الصادمة" بحسب توصيف واحد من كتاب سيرة فيتش، لم تحقق نجاحاً شعبياً يضاحي النجاحات التي كانت حققتها مسرحيات كلايد فيتش الرومانطيقية السابقة لكنها نالت من تقريظ النقاد ما شجع الكاتب على المراهنة على استكمال طريقه في الاتجاه نفسه. والحقيقة أنه لم يكن مخطئاً في رهانه حيث أن مسرحياته الواقعية الاجتماعية التالية لن تكتفي بأن تحقق نجاحات متصاعدة، بل جعلت منه وباعتراف أهل المهنة وجمهورهم في ذلك الحين، "المؤسس الحقيقي لتيار الواقعية الأميركية" الذي سينتج خلال العقود التالية ذلك التيار الذي سيكون من أعلامه كليفورد أوديتس وتنيسي يليامز وآرثر ميلر مروراً بإدوارد آلبي، وغيرهم. ولنضف هنا أن هؤلاء جميعاً كان لا يفوتهم أن يذكروا فضل فيتش عليهم بوصفه رائداً ومعلماً. ولكن سيكون ذلك بعد عقود من رحيله. فهو إذا كان سيواصل طريقه وكتابة المزيد من مسرحياته فإن ذلك لن يدوم سوى سنوات قليلة بعد "المتسلقون" وإن كان سيكتب – كما سيقتبس وغالباً بتصرف شديد الذاتية - عدداً مدهشاً من المسرحيات خلال السنوات القليلة التي عاشها بعد ذلك حيث نراه يكتب بين 1902 وعام رحيله 1909 ما يصل إلى أكثر من ثلاثين مسرحية بمعدل يزيد على 6 مسرحيات في العام الواحد وكأنه كان يسابق الزمن كي يترك وراءه أكبر عدد من أعمال تخلد اسمه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مواضيع للزمن الحديث
والحقيقة أن فيتش تمكن من أن يفعل ذلك. فهو إن كان في مسرحياته الرومانطيقية الأولى قد ثبت مكانته في مسرح تقليدي بيّن، فإنه في المرحلة التالية التي قد نسميها إبسنية – نسبة إلى إبسن طبعاً – كتب واقتبس مسرحيات اتسمت بطابع واقعي اجتماعي واضح، لكنه في مرحلته الأخيرة وبدءاً من "الحقيقة" وصولاً إلى آخر أعماله "المدينة" عرف كيف يضيف إلى مرجعيته تلك الأبعاد النفسية التي تشتغل بصورة خاصة على أسئلة شائكة حول القيم في مجتمع تتسارع وتيرة رسملته ونزوعه نحو الفردية المطلقة. ولئن كنا أشرنا أول هذا الكلام إلى أهمية موضوع الحقيقة في المسرحية المعنونة بنفس هذه الكلمة، قد يجدر بنا الإشارة هنا إلى أنه لم يكن صدفة أن يكون موضوع المدينة محور مسرحيته الأخيرة المعنونة تحديداً أيضاً "المدينة"، والتي يفيدنا تاريخ المسرح الأميركي الذي لم يتوقف منذ تلك المسرحية عن سبر هذا الموضوع، بأن هذه المسرحية كانت أولى المسرحيات الأميركية التي عرفت كيف تستعيد تراث الإغريق القديم في التعبير الدرامي عن علاقة الفرد بالعائلة والمدينة لتعالج حياة وسمات الشخصيات بالترابط تحديداً مع بيئتها العمرانية!