ملخص
بحر وشواطئ من هنا وغابات سهول ووديان من هناك وأفلام تحت الشمس الساطعة
بعد حرائق صيف 2021 التي استعرت في ثلث غابات شمال جزيرة إيفيا اليونانية، وتسببت بكارثة بيئية غير مسبوقة "نهشت" الثروة الحرجية، قررت السلطات دعم المنطقة وإعادة بناء كبرى الجزر اليونانية (بعد كريت) ثقافياً، إيماناً منها بأن بناء البشر يوازي بناء الحجر، خصوصاً أن المأساة تركت أثراً عميقاً عند السكّان المحليين. جاء الدعم في أشكال متعددة، أحدها "مشروع إيفيا السينمائي" الذي أقيمت دورته الأولى في العام الماضي، وعقدت دورته الثانية من 20 إلى 24 الشهر الحالي، في ثلاث قرى تقع داخل الجزيرة: "إديبسوس" و"ليمني" و"أغيا أنا" التي استقبلت على مدار خمسة أيام مجموعة من العاملين في مجال صناعة الفيلم بالإضافة إلى إعلاميين.
شهدت القرى الثلاث، على اختلاف مساحتها وعدد سكانها، عروض أفلام وثائقية وروائية وورش عمل وندوات وحفلات موسيقية، هذا كله تحت شمس اليونان الساطعة ورياح خليج إيفيا المنعشة وفي جو من التقارب الأهلي المحبب. فالطبيعة تفرض قانونها هنا ويصعب عدم الاستسلام لها. بحر وشواطئ من هنا، غابات سهول ووديان من هناك، وبينهما قرى موزعة في أماكن استراتيجية تقول الكثير عن الحضارات ونموها عبر العصور.
إدارة مهرجان تسالونيك تولّت تنظيم الحدث. جلبت معها ما ينبغي من أفلام ونشاطات وضيوف، والأهم حضرت بخبرتها المديدة في مخاطبة الجمهور اليوناني، رغم أن لا جمهور حقيقياً في هذه البقعة التي يعتاش سكّانها من الزراعة والخدمات السياحية. ومع ذلك، شهدت ليلة الافتتاح اقبالاً من أهل الجزيرة، علماً أن العرض الافتتاحي جاء على شرف المخرج الأميركي ذي الأصول اليونانية ألكسندر باين الذي قدّم فيلمه "داونسايزينغ" (2017) للجمهور.
شاشة الواجهة البحرية
شاشة كبيرة نُصبت في وسط إديبسوس، على الواجهة البحرية، داخل باحة كانت في الماضي صالة تحمل اسم "أبولون". اختلط أهل القرية البسطاء بهؤلاء الآتين من بقاع الأرض لمواكبة الحدث ودعمه، سواء إعلامياً أو من خلال تقديم خبراتهم. إنعقاد التظاهرة في جو من الاسترخاء الصيفي، يفرض مزاجه. هنا نجري حوارات صحافية بالشورت أو حتى المايو، ويتحوّل مشوار الانتقال بالباص من قرية إلى أخرى لمشاهدة فيلم، مناسبة لاكتشاف الطبيعة ومعاينة الأراضي المحروقة التي بدأت تخضر من جديد عامين بعد الحرائق.
المهرجانات السينمائية تختلف بعضها عن بعض من حيث الأهداف، وهدف "مشروع إيفيا السينمائي" بيئي وثقافي في المقام الأول يطمح إلى بناء وعي جديد عند الناس. وهذه الصحوة أراد المهرجان أن يطبّقها على نفسه أولاً، من خلال إنتاج أقل قدراً من التلوث، فطلب من المدعوين (نحو 350 شخصاً) أن يجلبوا معهم الرابط الذي يعلَّق به البادج على أعناقهم. خطوة رمزية، لكنها تحاول ربط النظرية بالتطبيق.
تقع جزيرة إيفيا على بُعد ثلاث ساعات بالسيارة من أثينا. آخر نقطة برية يمكن بلوغها بالسيارة قبل الصعود في العبّارة التي تحملنا إلى إديبسوس هي قرية ساحلية اسمها أركيتسا. من هناك، يتوجب ركوب عبّارة لاجتياز خليج إيفيا. عند الوصول إلى إديبسوس، يشعر الواحد منا بالعمق اليوناني. الطابع المحلي يطغى على كل شيء آخر، وثمة أصالة تطل برأسها. نجد بعض السياح الألمان والتشيكيين والإيطاليين يستمتعون بالبحر ويعرضون أجسادهم لأشعة الشمس مستفيدين من الينابيع الدافئة (إحدى مميزات هذه القرية)، بعيداً من التزاماتهم المهنية والعائلية وصخب المدن التي يقيمون فيها على مدار السنة. الحرارة عالية والرطوبة قاسية، حدّ ان صحافياً بريطانياً كان رافقني طوال الأيام الخمسة، كان يحرص على تجنب الخروج نهاراً هرباً من الجو الرطب. أما الملل فهناك الكثير منه في هذه القرية حيث النشاطات مائية فحسب. لذا، فإن حدثاً مثل "مشروع إيفيا السينمائي"، يبعث الحياة داخل القرية ويسلّي ناسها ويبث فيهم بعض الوعي. طبعاً، لا يجب أن نتوهم كثيراً: الأشياء ستعود إلى سابق عهدها فور انتهاء الأيام الخمسة، لكن على الأقل تكون القرية قد اقترحت بديلاً للماء والخضرة والمناظر الحسنة.
يحاول القائمون على هذا الحدث خلق تنمية مستدامة، فالمشروع لا يقتصر على إقامة نشاط طوال بضعة أيام خلال فترات متباعدة. لذلك فإن الصالة الواقعة في الهواء الطلق والتي تحمل اسم أبولون، أُعيدت إلى الحياة بعد أعمال ترميم تولتها إدارة مهرجان تسالونيك بالتعاون مع البلدية، فباتت تحتضن عروض أفلام طوال العام، جاذبةً مشاهدين من قرى مختلفة.
سينما ومشاهد خلابة
وبسبب جمال الطبيعة والمناظر الخلابة، قررت السلطات أيضاً الترويج للمنطقة باعتبارها بلاتوهاً مفتوحاً يمكن توظيفه في أفلام سينمائية، مستغلةً خيار أصحاب فيلم "مثلّث الحزن" للمخرج السويدي روبن أوستلوند (الفائز بـ"سعفة" كانّ العام الماضي)، لتصوير فصله الأخير في هذه الجزيرة، لدعم مشروع جذب السينمائيين، الذي تدعمه الحكومة اليونانية من خلال تقديم مساعدات وإعفاءات ضريبية لكل مَن يموضع كاميراه على الأراضي اليونانية.
طوال الأيام الخمسة التي استغرقها الحدث، ازدحمت إديبسوس بالناس واكتظت المقاهي والمطاعم بالعابرين. فالفن والثفاقة يأتيان بناسهما حتى إلى أكثر الأماكن بُعداً عن مراكز الفنّ والثقافة. بيد أن الحدث غير واضح بعد. هل هو عابر أم إنه مشروع سيُكتب له الاستمرار؟ هذا ما لا يعرفه أحد، حتى المنظمون الذين يبدون وكأنهم يجسون النبض لمعرفة مدى إمكان الذهاب بعيداً في مشروع لا تزال ملامحه غامضة إلى حد بعيد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يحاول عمدة البلدة، استرجاع أمجاد إديبسيوس حينما كانت في فترات سابقة وجهة معروفة لكبار القوم. في ليلة الإفتتاح، اعتلى العمدة المسرح ليتحدث عن هذا الشأن، قائلاً إن الثقافة هي المنتوج الوحيد الذي يتكاثر بمجرد مشاركته، وذاكراً أسماء الشخصيات الفنية والسياسية التي اعتادت زيارة الجزيرة في الماضي، ومن بينها تشارلي تشابلن ووينستون تشرشل وغريتا غاربو. ويبدو أنّ كان هناك رجل أعمال أميركي من أصول يونانية يدعى ألكيفياديس تريانتافيلو كان عراب هذا الصيت الذي اكتسبته الجزيرة لدى المشاهير. بيد أن إديبسوس شهدت انكماشاً في السنوات الماضية، وما عادت تلعب ذلك الدور، وهو دور تريد السلطات المحلية استعادته، من خلال توظيف الثقافة والفن والسينما في خدمته.
عشية الاختتام، شاهدنا في أغيا أنا، واحدة من البلدات الثلاث التي حضنت العروض، فيلم "عندما تلتقي الطماطم بفاغنر" (2019)، بحضور مخرجته اليونانية ماريانا إيكونومو وبطله ألكسندروس. الفيلم عن قرية تقع في وسط اليونان لا يقيم فيها سوى نحو 30 شخصاً (معظمهم من النساء المسنات) يعمل أغلبهم في زراعة الطماطم وصناعة الرِّب المستخرج منها. الطماطم التي يزرعونها يسمّعون إياها موسيقى فاغنر إيماناً منهم بأنها ستكون أفضل مذاقاً، والأهم أن بذرتها من نوع خاص،، يحافظون عليها منذ مئات السنوات ويتوارثونها من جيل إلى جيل. منتوجاتهم (ومن بينها العسل اليوناني الأصلي)، تُصدَّر إلى أماكن مختلفة من العالم ومنها أميركا، التي يدعّي صاحب المشروع بأنها هي التي كانت صدّرت الطماطم إلى أوروبا بعد اكتشاف كريستوف كولومبوس القارة الجديدة. أسعد الفيلم سكّان أغيا أنا وتفاعلوا معه عبر أسئلتهم الموجهة إلى المخرجة بعد العرض. الفيلم عن مكان المحلية في واقعنا المعولم، وعن ضرورة إعادة خلق الذات للعثور على مكان خاص فينا تحت الشمس في زمن يحكمه التسويق. إنتصرت المخرجة للبسطاء المنسيين في قراهم، مسلطةً الضوء على نضالهم اليومي.