بقدر تصدره المشهد السينمائي في مصر على مدى العقدين الأخيرين كان صعود نجم المخرج المصري خالد يوسف في عالم السياسة مثار جدل، في وقت مرت مسيرته بمنحنيات صعوداً وهبوطاً، موالاة ومعارضة، اقتراباً من السلطة وابتعاداً عنها، وهو ما جعل تجربته الفنية والسياسية محط أنظار بين الانتقاد والإشادة.
يوسف الذي بزغت مواقفه السياسية إبان سقوط نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك في 2011، ومن بعده إطاحة نظام جماعة الإخوان المسلمين في 2013 التي حلت ذكراها العاشرة قبل أيام، وصل بطموحه السياسي إلى "طريق مسدود". ولعل هذا ما دفعه إلى إعلانه "اعتزال السياسة لعدم جدواها في الوقت الراهن" وفق ما قاله لـ"اندبندنت عربية" في لقاء مطول. واعتزال المخرج المصري جاء بعد سنوات خمس عاش نحو نصفها بعيداً من الوطن، قبل أن يعود في عام 2021 "بناءً على دعوة من أجهزة الدولة"، على حد وصفه.
ومع الذكرى العاشرة لإطاحة نظام جماعة الإخوان المسلمين والرئيس المنتمي إليها محمد مرسي من الحكم، في 3 يوليو (تموز) 2013، التقت "اندبندنت عربية" المخرج السينمائي صاحب البصمة الشهيرة في تصوير وإخراج مشاهد الجموع الغفيرة التي خرجت ضد حكم الإخوان المسلمين.
ويتزامن اللقاء مع خالد يوسف أيضاً مع أوضاع سياسية غير مسبوقة تعيش مصر تفاصيلها بين شد وجذب، ومكوناتها تلقى تأييداً تارة وعلامات استفهام وتعجب تارة أخرى، من حوار وطني يثير التساؤلات، ومبارزات ومطاحنات مستمرة بين المؤيدين والمعارضين، ومشهد عام هلامي غير مسبوق في الفضاء المصري. وفي هذا الفضاء تأتي عبارة "فقه الأولويات" لتمثل شعار مرحلة ونقطة نظام يلوح بها البعض في وجه البعض الآخر أمام سبل حلحلة التحديات التي تواجه الدولة، والتعامل مع الأزمة الاقتصادية الطاحنة، إذ فقد الجنيه المصري كيانه وقائمة طويلة من المخاطر والأهوال جميعها يطرح نفسه في حوار كل مصري ومصرية، وكذلك حوار "اندبندنت عربية" مع المخرج الذي كان بالأمس القريب في عين العاصفة في مواجهة الإخوان، ثم وجد نفسه اليوم في عين العاصفة أيضاً، لكن في تعامله مع النظام. ويضاف إلى هذه القائمة الطويلة قائمة فرعية أخرى جعلت من المخرج المصري خالد يوسف فكرة يتفق معها فريق ويتعارك بسببها فريق آخر.
الهرب من الواقع
أمام سيل من الانتقادات والإشادات معاً، لا يزال المخرج خالد يوسف يتمسك بحرفية وضخامة عمله التلفزيوني الأول "سره الباتع"، معتبراً أنه كان ولا يزال "أحد أحلامه في كل العصور".
وأخرج خالد يوسف أول أعماله التلفزيونية بعيداً من السينما، وهو مسلسل "سره الباتع" الذي عرض خلال موسم رمضان الماضي، وأثار حالة من الجدل، وكان آخر أعمال المخرج المولود في سبتمبر (أيلول) 1964، بقرية تصفا التابعة لمركز كفر شكر بمحافظة القليوبية، في 2018 بفيلمه السينمائي "كارما"، بعد فترة غياب منذ آخر أفلامه "كف القمر" عام 2011، وذلك قبل أن يغادر البلاد في فبراير (شباط) 2019، على وقع "أزمة فيديوهات إباحية"، قال إنها "كانت ضمن حملة ممنهجة تستهدفه شخصياً".
يقول يوسف "مشروعات مثل (سره الباتع) و(الأندلس) حلم من أحلامي في كل العصور، سواء المنفتحة قليلاً أو المنغلقة. وفي كل الأحوال هذان العملان جزء من أحلامي، حققت أحدهما وهو (سره الباتع) وأطمح أن أحقق (الأندلس)، بغض النظر عن الواقع أو المناخ العام في مصر إن كان يسمح أو لا يسمح".
وحول ما إذا كان تحوله إلى المسلسلات التاريخية محاولة لتجنب الاشتباك الفني مع الواقع المصري وقضاياه، أوضح يوسف "(الأندلس) و(سره الباتع) ليسا هرباً من الواقع، إنما هذه مشروعات أعلنت عنها منذ 10 سنوات، فحينما أنجزهما ولم يقفز إلى ذهني تيمات أخرى هنا لا أعرف السبب، خصوصاً أنه في ظل المناخ الحالي والمحاذير الحالية لم تأتني فكرة، لأني دائماً أفكر هل هذه الفكرة ستمر رقابياً أم لا، بالتالي أدخل في سلسلة من المفاوضات مع الأجهزة الرقابية. ربما حينما كنت أقدم أفلاماً مثل (حين ميسرة) كنت وقتها أشعر بها، وما أشعر به أقدمه، والآن أشعر بأنني أريد أن أقدم (الأندلس)، قد يكون المناخ العام والمحاذير الحالية هي التي دفعتني إلى هذين العملين هذا وارد، لكني لن أتجه إلى عمل ضد قناعاتي، أو أتجه إلى عمل لا أرغب في أن أنجزه إطلاقاً".
المناخ العام والإبداع
وفي زمن ما قبل التضييق تفاعل المصريون مع أفلام يوسف المثيرة للجدل والنقاش والخلاف والاتفاق مثل "حين ميسرة" و"دكان شحاتة" و"هي فوضى" وغيرها. وكانت بقدر جرأتها في "الاشتباك" مع الواقع في الشارع المصري جعلت كثيرين يربطون بينها وأحداث الثورة التي أطاحت نظام الرئيس السابق حسني مبارك في 2011، يقول يوسف "انفتاح الأفق العام هو الزاد الوحيد لأي إبداع، من دون حرية بلا سقف لا تستطيع أن تطمح إلى إبداع عظيم، فكلما انغلقت المجتمعات انحصر الإبداع. ولو حدث أن فيلماً أو عملاً أو رواية أحدثت دوياً عظيماً في ظل التضييق فهذا استثناء و(فلتة) من هذا المناخ وهذه الظروف. الإبداع يعيش على الحرية، والتألق والتميز في مناحيه المختلفة سواء شعراً أو رواية أو فناً يلزمهما حريات ومناخ منفتح تماماً وليس على مستوى السلطة فقط".
ويبدو أن المناخ العام وليس مناخ السلطة فقط يعاني معضلة، بحسب ما يرى يوسف، الذي يؤكد "أحياناً يكون المجتمع العام نفسه مقيداً هو الآخر، جنوح الناس في المجتمعات نحو المحافظة يمثل سلطة على يد الكاتب تخيفه وترهبه. وحالياً وبسبب السوشيال ميديا أصبحت سلطة المجتمع والنقد المفتوح على وسائل التواصل إحدى السلطات التي أتصور أنها تمثل هاجساً لدى أي مبدع عندما يكتب أو يخرج أو يصنع أي عمل إبداعي".
ويستمر يوسف في الدق على وتر المناخ العام المقيد للإبداع "المناخ العام في مصر فيه تقييد للحريات، والدليل أن هناك حواراً وطنياً دعا إليه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لفتح المجال العام، إذاً يوجد غلق للمجال العام استلزم دعوة للحوار من أجل فتح هذا المجال العام".
وفي أواخر أبريل (نيسان) 2022 دعا الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى إجراء "حوار وطني حول مختلف القضايا"، واستغرق الإعداد والتمهيد له أكثر من عام، إذ انطلقت أولى جلساته الفعلية في 3 مايو (أيار) الماضي، مركزة بشكل رئيس على ثلاثة محاور: سياسية واقتصادية ومجتمعية.
الحوار الوطني وآمال المعارضة
وعن مدى تطرق الحوار الوطني إلى السينما وصناعتها، يقول يوسف "لست مقترباً من آليات ودهاليز الحوار الوطني، ولم أسمع أنه تطرق إلى أزمة صناعة السينما، تلك الصناعة التي عرفت بها مصر على مدى تاريخها. وربما يكون تقدير الموقف من المسؤولين عن الحوار هو أن هناك قضايا ملحة أكثر من الفن، مثل المناخ العام أو الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر. ربما ارتأوا أن هذه الملفات لها أولوية عن الفن وقضاياه، ويمكن أيضاً لعدم إدراكهم أن الفن والثقافة تعاني أزمة. وهذا الطرح وارد أيضاً".
ويمضي المخرج المصري في حديثه "لم يكن هناك إنصات من القيادة السياسية في مصر للمعارضة والرأي الآخر في السابق، لكن الأمل بعد الحوار الوطني أن يكون هناك إنصات لهذا الرأي الآخر، وأن تكون هناك قواسم مشتركة تجمعنا جميعاً، سلطة ومعارضة، في تقديم الحلول والبدائل، وهذا هو الأمل".
ويتابع: "الأمل هو السمة الوحيدة التي تجمع بين مواقف المؤيدين والمعارضين في مصر حالياً، حتى وإن وقفت مكونات هذا الأمل على طرفي نقيض. المشهد العام ملتبس، والجدل حول فقه الأولويات والضرورات وسبل حلحلة التحديات التي تواجه الدولة، وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية المحتدمة"، إثر تراجع قيمة الجنيه وارتفاعات غير مسبوقة لنسب التضخم، وذلك وسط ترقب لما قد يفضي إليه الحوار الوطني من "انعكاسات إيجابية" على الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، لا سيما انتخابات الرئاسة المرتقبة خلال أوائل العام المقبل.
الاحتكار "يخنق" الفن
وعلى سيرة الرئاسة والرؤساء، يقول يوسف "في عصر سموه عصراً شمولياً، هو عصر جمال عبدالناصر، الذي نعتوه كذلك بعصر الحزب الواحد والزعيم الأوحد وما إلى ذلك من المصطلحات، كان الفن يدار ليس من مؤسسة مصر للسينما، وهي المؤسسة الحكومية الرسمية، بل من مؤسسات مثل آسيا ورمسيس نجيب وجان خوري. كان لدينا منتجون قطاع خاص كثر. ومعظم الأفلام العظيمة الكبيرة التي ما زالت علامات في السينما المصرية من إنتاج هذا القطاع الخاص. صحيح لا ننكر أن شركة مصر للسينما، أي الدولة، أسهمت كثيراً في أفلام أخرى عظيمة، لكن دائماً كانت هناك شراكة ما بين الدولة المصرية والقطاع الخاص. وهذا ما نطمح فيه، لأن الفن لو أدير بعقلية واحدة حتى لو كانت هذه العقلية نجيب محفوظ أو طه حسين سيكون له اتجاه واحد".
ويلمح يوسف في حديثه إلى انتقادات كثر لما يسمونه تأثيرات "احتكار صناعة السينما والفن في مصر" من قبل شركات بعينها، إذ يقول "دائماً نطالب بأن يكون هناك تعدد، تعدد أدمغة في التفكير، يوجد منتج قادر على أن يتوجه إلى شريحة معينة من الجمهور بعقلية معينة حتى لو كانت عقلية تجارية جماهيرية، ومنتج آخر ينتج أفلاماً ذات صبغة معينة، وثالث يمتلك أدوات الدراما أكثر من أي نوع فني آخر، هذا التعدد يخلق الفن الحقيقي، إنما حينما تدار الأمور بعقلية واحدة، حتى لو كانت هذه العقلية عظيمة تأكد أن الفن سيكون مكتوفاً".
ودعا المخرج المصري إلى "فتح الآفاق لكل شركات الإنتاج كي تنتج مرة أخرى وتسهيل المجال أمامها وتخفيف الآليات نفسها من الصعوبة سواء الرقابة أو التصاريح والتحسس الفائق الموجود تجاه الموضوعات المعالجة، نحو أي انتقاد لظاهرة مجتمعية يحسب وكأنه انتقاد لسمعة مصر".
ويتابع "أتصور لو طبقنا كل ما سبق، ولو فُتح المجال العام وأصبح هناك إيمان من الدولة ومؤسساتها بأن القوة الناعمة المصرية هي سلاح مهم جداً يجب أن يدخل في كل معارك الحياة والتقدم وأنك ترجو لمصر واقعاً أفضل مما هو معيش، سنعيش نهضة أخرى".
صناعة المواءمة وصراع القوى
هذا "المناخ المقيد للإبداع" بحسب تعبير يوسف دفع "اندبندنت عربية" إلى سؤاله حول مساحة الحرية التي أتيحت له في أفلامه على مدى العقدين الأخيرين، ومدى الاشتباك مع قضايا الواقع، ليرد "المبدع قدره في مصر أن يقضي نصف وقته في الإبداع ونصف وقته الآخر في الدفاع عن هذا الإبداع. هذه قناعتي التي كنت أؤمن بها منذ أخرجت أول فيلم خاص بي. كنت مدركاً هذه الحقيقة، ودخلت هذه المعركة خلال الـ10 سنوات التي أنتجت فيها 11 فيلماً. في البداية، تعرضت لأزمات كثيرة جداً، بداية من فيلم العاصفة الذي ظللت على مدى عام ونصف العام متنقلاً بين الجهات الرقابية المختلفة في مصر، ومررت بهذه الأفلام بنقاشات مع تلك الأجهزة الرقابية".
ويضيف "أفلامي لم تكن تراقب من الرقابة على المصنفات الفنية، كنت أذهب إلى الأستاذ الراحل علي أبو شادي (تولى الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة) فيقول لي: لماذا تأتي إليَّ؟ أفلامك لا بد أن تعرض على الجهات المعنية فتوجه إليهم مباشرة، كنت بالفعل أذهب إلى هذه الجهات لأتفاوض معها، وأتحدث إليهم في المنتج المقدم، على رغم أن ذلك مخالف للقانون والدستور باعتبار أن الرقابة الفنية هي الجهة الوحيدة المنوط بها المنح والمنع بحسب القانون المصري".
وارتبط اسم خالد يوسف بعدد من الأفلام التي أثارت قدراً وافراً من الجدل في العقد الأول من الألفية، وذلك لجرأتها في الاشتباك مع الواقع المصري مثل: العاصفة (2001)، وهي فوضي (2007)، وحين ميسرة (2008)، ودكان شحاتة (2009)، إذ جسدت هذه الأفلام كثيراً من التحديات الأمنية والسياسية التي يواجهها المواطن.
يقول يوسف "أعترف أنني استطعت أن أوائم أو أصل إلى توازن ما مع هذه الأجهزة. أخفض السقف قليلاً، ليسمحوا لي بعض الشيء وهكذا. كانت مفاوضات أشبه بصراع القوى، وأعتقد أنني نجحت أن أقدم في الأقل 80 في المئة مما كنت أريد أن أقدمه". ويضيف "الأمر نفسه استمر حينما قدمت فيلم (كارما) عام 2018، لجأت إلى حيلة المواءمة أيضاً، لكن الحقيقة العمل الوحيد الذي لم أتعرض فيه لأي تحفظات، ولم أحتج فيها إلى أي مواءمات كان (سره الباتع)، لم يقدم أحد لي ملحوظة رقابية واحدة لا من الأجهزة ولا من الرقابة على المصنفات الفنية".
وكان مسلسل "سره الباتع" أول عمل تلفزيوني لخالد يوسف بعد عودته من خارج البلاد في 2021، وأول عمل تلفزيوني في مسيرته الفنية، وجرى إنتاجه من قبل "الشركة المتحدة" القريبة من الأجهزة الأمنية في البلاد.
وعليه يوضح يوسف "الحقيقة أن الشركة المتحدة لم تبخل عليَّ بأي إمكانية من الإمكانات كي أنجز الجرافيك أو المعارك. وقدمت مستوى أنا راض عنه جداً، أما استقبال الجمهور لهذا العمل فكل من شاهد المسلسل كاملاً قدره واحترمه، ومن لم يره واعتمد عما دار على وسائل التواصل فظلم العمل وانجرف وراء موجة الهجوم التي سارت كالنار في الهشيم على وسائل التواصل".
ليست سياسة بل اشتباك
وحول رؤيته في الإخراج يقول "ما قدمته في أفلامي ليست سياسة، بل اشتباك مع الإنسان المواطن، اشتباك مع قضاياه، حين تعبر عن الإنسان وظروفه الاقتصادية والاجتماعية من الطبيعي أن تشتبك مع السياسة، لكنك لم تكن تقصد بالأساس الاشتباك معها، هدفك بالأساس أن تشتبك بقضايا الإنسان وكل ما يؤثر فيه سلباً وإيجاباً، وسأظل أواصل العمل على هذا المنوال، وحين تتعرض أفلامي لظلم أو محاولة كبت أو قمع سأحارب كي أمررها، مثلما كنت أحارب في أفلامي الماضية كي تمر إلى الجمهور".
ويضيف "هناك أناس قدرهم أن يصطدم طرحهم الفكري أو الإنساني أو الفني أو السياسي دائماً بمن حولهم، يخلق حالة من الجدل. أنا مثير للجدل بالمعنى العلمي للجدل، أي التأثر والتأثير. طوال الوقت أدلو بدلوي في قضايا عامة وخاصة، وألقى بحجر في بحيرة راكدة، ومن ثم يتطاير بعض الرذاذ الذي بلا شك سيطالني. أي تقدم يحدث في تاريخ المجتمعات دائماً سببه قضية جرى تفجيرها، ما أقصده أن أي تقدم يسبقه حراك وهذا الحراك يلزمه تفكير خارج الصندوق، نحن دائماً في حاجة إلى النقاش كي نفجر قضايانا. وهذه كما أعتقد وظيفة المبدع في كل زمان ومكان. وهي الحلم بواقع أكثر جمالاً وأكثر تحضراً بالتالي لا مفر من أن يصطدم بآليات الواقع الموجودة وبالمجتمع وأيضاً بالسلطة".
عودة بدعوة أمنية
إضافة إلى الفن، وأحياناً قبله وربما بعده، مسيرة المخرج خالد يوسف مليئة بالمواقف والمحطات السياسية، إنها المحطات التي أدت إلى خروجه من مصر فبراير (شباط) 2019، إثر "أزمة فيديوهات إباحية" أبعدته عن البلاد عامين ونصف العام قبل أن يعود في سبتمبر (أيلول) 2021.
وعن عودته يقول "عدت بناءً على دعوة من الأجهزة. كلموني وسألوني: أنت ليه قاعد بره مصر؟ قلت بسبب ما حدث معي الذي هو أشبه بالاغتيال المعنوي الكامل، فطالبوني بالرجوع على أن يردوا لي اعتباري، وأن أستكمل عملي، وقالوا إنهم يريدون أن يفتحوا المجال العام، ويدشنوا حواراً. فقلت إنني لا أستطيع العودة ومعظم زملائي في السجون، وتحدثنا عن ملف معتقلي الرأي فقالوا لي (ارجع ونتفاوض). وبالفعل دخلت أنا ومجموعة من المعارضين السياسيين في مفاوضات من أجل خروج المعتقلين، وخرج تقريباً 90 في المئة منهم، وتتبقى مجموعة قليلة. صراحة وجدت أن هذا الفعل مفيد للوطن أكثر من أن أظل خارج مصر، فأن أعود وأدفع في طريق خروج المعتقلين من السجون أفيد من أن أظل في الخارج".
إحباط يستلزم التنفيس
وعلى رغم حديث يوسف عن "قنوات التفاوض المفتوحة بينه وبين أجهزة الدولة"، يعود ويقول "المناخ العام في مصر محبط، وهذا يلقي بظلاله على نفسيات مستخدمي وسائل التواصل، هؤلاء ينفسون عن إحباطهم وهزائمهم وعن كبتهم، هناك قاعدة تقول عندما تعيش الأمة مشروعاً ونهضة كبيرة كل شخص يخرج أحسن ما فيه، وعندما تعيش إحباطات دائماً ما تجنح نفسك نحو الأسوأ الكامن فيك. الإحباط الذي يعيشه المصريون كبير. المجتمع المصري بات أكثر تحفظاً عن ذي قبل، سلطة السوشيال ميديا أتاحت للأشخاص المختفين خلف الشاشات أن ينفسوا عن غضبهم، لأنهم لم يستطيعوا التنفيس إلا في من حولهم، هذا يخلق جواً مشحوناً ومخيفاً بالنسبة إلى الفنون التي بالأساس تقوم على الحرية والتجرد من كل الهواجس".
ويعود يوسف إلى الأمس القريب وأحداث يناير 2011 يقول "الأجهزة الرقابية المختلفة في مصر لديها تحفظ ضدي أكثر من أي مخرج آخر. اتهموني بأن أعمالي كانت أحد أسباب ثورة يناير، وأن أفلامي مهدت وبشرت بهذا الحدث، لذا ينظرون إلى أعمالي بدقة شديدة، وتقريباً هناك حالة من الريبة دائماً ضد ما أقدمه. كنت قريباً من السلطة بالمعارضة وليس بالموالاة في 30 يونيو خرجت ضمن ملايين خرجت وثارت ضد نظام الإخوان، ثم بعدها مباشرة كنت معارضاً للنظام الحاكم، على رغم أنني كنت مؤيداً للرئيس عبدالفتاح السيسي في الترشح للرئاسة، لكن انتقلت إلى خانة المعارضة وكنت مع مجموعة معارضة في البرلمان للحكومة والنظام الحاكم، هذه المعارضة جرَّت عليَّ ويلات كثيرة. الأجهزة دائماً تتصور أن هذا المشهد أو ذاك وراءه مغزى أو هدف. وليس صحيحاً أنني أعامل معاملة خاصة، والخاصة هنا معناها الطبطبة".
وعلى ذكر المعارضة يرى يوسف أنها "تكتسب النضج بالمعارك التي تخوضها أو حتى بالمواءمات، الموازنات في السياسة ليست عيباً، في مقولة مهمة تقول (إن السياسة ليست سيفاً قاطعاً لكنها موازنة بين مخاطر محسوبة ومكاسب محتملة)، بالتالي المعارضة تكتسب نضجها السياسي من معارك الاصطدام أو التفاوضات مع النظام الحاكم أو من احتكاكها مع الجماهير، كل هذه العوامل تؤدي إلى نضج المعارضة".
ووفق المخرج المصري فإنه "لا مناص عن الحوار، فهو حالة حضارية". متمنياً "أن يسفر الحوار الوطني الدائر الآن عن فتح المجال العام، وأن تكون حركة الأحزاب والتعددية الحزبية حقيقية على الأرض، والتنافس يكون واقعياً على برامج أحزاب، ورؤى سياسية واقتصادية واجتماعية، لو حدث هذا سيكسب المجتمع، فالانغلاق نتائجه الخسارة على كل المستويات، الانغلاق التام لن يقفز بالمجتمع".
الانتخابات الحرة ضرورة مصيرية
وفي محاولة لاستعادة المناخ الصحي العام في مصر يقول يوسف "مصر في كل أحوالها تحتاج إلى انتخابات ديمقراطية تنافسية جادة في كل المواقع القيادية، بدءاً من المجالس المحلية إلى رئاسة الجمهورية، هذا هو المناخ الصحي الذي يفجر طاقات في المجتمع شديدة الأهمية، المناخ التنافسي يجعل الجميع يبذل أقصى جهده في إقناع الناس، كي يرضي الناخبين من أجل الانتخابات".
ويضيف "الانتخابات لو توافرت لها ضمانات النزاهة والاستقلالية والشفافية بكل تأكيد ستنقل مصر نقلة قوية. نأمل في أن يكون هناك مرشحون حقيقيون يدخلون المنافسة، فمصر لم تعدم رجالاً، مصر بها كفاءات كثيرة قادرة على المنافسة، والشعب هو من يختار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتترقب مصر انتخابات رئاسية في غضون أوائل العام المقبل التي لم تظهر بعد أي من ملامحها أو شخوصها المتنافسين، لا سيما من عدد قليل من الأسماء التي أعلنت نيتها الترشح في وقت ترجح التوقعات عزم الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي الترشح لولاية رئاسية ثالثة.
ويتجنب يوسف بدبلوماسية شديدة الإجابة بصراحة عن رؤيته أو توقعاته لمسار الانتخابات الرئاسية المقبلة، قائلاً "منذ عودتي إلى مصر وأنا غائب عن المجتمع المصري، ولم أتغلغل في طبقاته مثلما كنت في الماضي، وعليه لا أقدر على الحكم، ولا أستطيع قياس الرأي العام، قررت ألا أشتغل سياسة مرة ثانية، ولا أشتبك مع الهم العام، لأنه كلفني ثمناً باهظاً، وفي الوقت ذاته أعتقد أن الكلمة التي من دون أثر من الأفضل أن لا تقال".
ويتابع "لا أستطيع أن أتوقع من سيختار الشعب المصري، مرشح محافظ ينتمي إلى التيار الإسلامي، أو آخر ينتمي إلى المؤسسة العسكرية، أو مرشح ثالت ينتمي للمجتمع المدني، لأن ذلك يتوقف على اسم الشخصية التي تمثل المجتمع المدني، أو المؤسسة العسكرية أو التيار المحافظ، لا بد أن يكون هناك أشخاص بأعينهم نعرف تاريخهم وما يقدمونه من برامج ومن ثم نحكم هل هم قادرون على إقناع الناس".
وفي أبريل الماضي، أعلنت الحركة المدنية الديمقراطية (تضم مجموعة من الأحزاب المدنية)، ما قالت إنه "ضوابط ومعايير لضمان إجراء انتخابات حرة ونزيهة مع قرب الانتخابات الرئاسية" التي من أبرزها: إتاحة فرص متكافئة لجميع المرشحين، وحرية وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، وحياد مؤسسات الدولة ووقوفها على مسافة واحدة من كل المرشحين، وخضوع العملية الانتخابية برمتها للمتابعة من قبل هيئات ومنظمات محلية ودولية مشهود لها بالحياد والموضوعية، واستقلال ونزاهة وشفافية الهيئة المشرفة والمديرة للعملية الانتخابية.
وحول قدرة الأحزاب المدنية على المنافسة في الاستحقاقات الانتخابية المرتقبة في البلاد، قال يوسف إن "الأحزاب السياسية في مصر غير فعالة لأنه جرى تكسيرها كما يقولون إيدين ورجلين، نحن نتكلم عن أحزاب حاولت أن تدخل معارك انتخابية فكان الجزاء أن نُكل بأعضائها، نتحدث عن أحزاب لا تستطيع أن تقيم مؤتمراً جماهيرياً خاصاً بها، حالة التواصل ما بين الأحزاب والجماهير غير موجودة، فبالتالي الأحزاب المصرية تعاني هي الأخرى أزمة"، معتبراً أن هذه الأزمة "ستتجلى حينما ينفتح المجال العام".
ويتابع "هذه الأحزاب تحتاج إلى وقت كي تبني كوادرها من جديد، وتشتبك مع الشارع، وتتفاعل مع الجماهير، لا بد أن يكون هناك يقين عام لدى الناس أن العمل الحزبي لن يدخله إلى السجن، وعندما تصل هذه القناعة لدى الناس سيكون هنا الأمل أن التعددية الحزبية ستسفر عن حلول مختلفة ورؤى مغايرة لما هو موجود وسائد، هنا تتقاطع وتتماس رؤية تلك الأحزاب مع رؤى السلطة وينتج منها حلول أفضل لواقعنا، وهذا هو المناخ الصحي الذي نرجوه".
الأزمة الاقتصادية و"فقه الأولويات"
وحول رؤيته لصناعة السينما في مصر والأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد من انهيار في قيمة سعر صرف العملة ونسب التضخم المرتفعة، أوضح يوسف "سبب الأزمة الاقتصادية في مصر فقه الأولويات، أعتقد أن المشروعات الكبرى التي يجري العمل عليها لم تكن أولوية. الأولوية هي نهضة صناعية مثلاً، إنشاء مصانع بالآلاف، تنتج منتجاً يصدر إلى الخارج ومن ثم يكون لديك عملة صعبة، وكذلك خلق فرص عمل بالملايين، أتصور أن هذا كله كان سيصب في خانة التنمية المستدامة أكثر من المشروعات التي يجري العمل عليها الآن، إذاً هو فقه أولويات".
وتابع "الأزمة الاقتصادية أثرت في صناعة السينما في مصر"، متسائلاً: "من يذهب اليوم إلى قاعات السينما في مصر؟ تذكرة السينما وصل سعرها إلى 200 و300 جنيه مصري (6.47 - 9.71 دولار أميركي)، لو أسرة مصرية قررت أن تذهب إلى السينما ففي الأقل ستدفع ما يقرب من 1000 إلى 1500 جنيه مصري (32.36 - 48.54 دولار أميركي)، والسؤال هل توجد أسرة مصرية اليوم مستعدة أن تدفع هذا المبلغ كي تشاهد فيلماً؟ بالتالي الفئة التي أصبحت تذهب إلى السينمات قليلة جداً. ومن ثم نجاح الفيلم في الخارج أصبح أهم، لأن المنتج حسم أمره من أن كلفة الفيلم لن يجنيها صناعة من السوق المصرية، وهذه أزمة خطرة إذ لا بد أن تبحث عن هوى المشاهد العربي قبل أن تدرس هوى المشاهد المصري وهمومه، بكل تأكيد الأزمة الاقتصادية خلفت إحباطات كبيرة للسينما المصرية".
اعتزال السياسة والعودة إلى الفن
ويكرر يوسف مجدداً إشارته إلى اعتزال العمل السياسي، لكن هذه المرة يقول "اعتزلت العمل السياسي، على رغم أنني في الحقيقة لم أشتغل سياسة بالأساس، إذ شاركت في ثورتين في مصر، وبعد نجاحنا في إزاحة الإخوان اخترت ضمن 50 مصرياً يكتبون دستور مصر، وهذه مهمة استشعرت أنها وطنية يجب ألا أتخلى عنها، ثم عندما صنعنا هذا الدستور، وجدت أن هناك آمالاً أن نصنع الوطن الذي كنا نحلم أن نتركه لأبنائنا عن طريق تشريعات وقوانين تترجم هذا الدستور العظيم، فدخلت البرلمان المصري".
ويؤكد المخرج المصري أن "كل الاشتباكات كانت بوازع وطني وليس بوازع سياسي، لم أدخل المعركة تلك كي أشتغل سياسة، كنت أشعر أن لديَّ مهمة وطنية، ولما دخلت ذلك المعترك أصبت بسببه ولم أفد، لا أستطيع أن أقول إنني أسهمت غير في صناعة دستور أفتخر به، فيما عدا ذلك إسهامي السياسي أو الوطني لم يسفر عن تغيير في شيء للأحسن، لكن أنا فقط من أصبت بالضرر، فلماذا أكرر التجربة مرة ثانية؟ وعليه قررت أن أعود مرة ثانية إلى قواعدي الفنية أقدم ما هو مشتبك مع قضايا وهموم الناس، مع الإنسان عموماً، لأنه في النهاية أنا يهمني الإنسان".
ومضي في حديثه قائلاً "الفن الذي قدمته طوال عمري سأواصل العمل فيه. الأثر الخاص في مجال الفن وليس السياسة. لما دخلت السياسة وأنا صغير كانت بوازع وطني، لم يكن لديَّ أحلام أن أكون رجل سياسة أو أن أكون وزيراً أو رئيس حزب، هذه ليست أحلامي، دخلت السياسة من باب المهام الوطنية، أديت دوراً لست نادماً عليه، بمنتهى الإخلاص. دخلت مجال السياسة ولم أؤثر فيه، يبقى أرجع إلى مهنتي التي عرفني الناس من خلالها وتأثروا بي من خلالها، أعتقد أن هذا أبقى، وهذا ما أتركه بعد موتي، هذه الأعمال".
وحول ما إذا كان نادماً على انخراطه في العمل السياسي في السنوات التي تلت سقوط حكم مبارك في 2011، قال يوسف "مشاركتي في 25 وفي 30 يونيو لا أجد فخراً في حياتي أكثر منهما، ولا يمكن بأي حال من الأحوال مهما كانت المآلات أن أندم على مشاركتي بهما، هذا شعب وجيل خرج طامحاً في العدل والكرامة والحرية وعبر عنها بمنتهى الجلاء والنضج، وكانت ثورة سلمية. وفي 30 يونيو شعب انتفض على هويته الوطنية، وأراد أن يعود بالوطن إلى هويته الحقيقية. المشاركة في الحدثين كانت حتمية ولا يمكن مهما كانت النتائج أن أندم على مشاركتي بهما".