ملخص
70 في المئة من أصحاب الشركات يرون أن الفساد يمثل عائقاً رئيساً يحول دون تطور أنشطة مؤسساتهم
على رغم النتائج الإيجابية في نيات الاستثمار في القطاع الصناعي والنتائج المشجعة في استقطاب التوظيف الخارجي في تونس، فإن مناخ الأعمال لا يزال مرتهناً لجملة من المعوقات والصعوبات تجعله هشاً ومكبلاً.
في ظل المحاولات المتواصلة لسن القوانين من الحكومات المتعاقبة، فإن بيئة الأعمال في تونس لم ترتق إلى تطلعات أصحاب الأعمال والشركات المحلية والأجنبية وكذلك المؤسسات المالية الدولية التي ترى أن المناخ العام للبلاد لا يسمح بجذب المستثمرين.
تأكيداً على تعثر بيئة الأعمال في تونس، خلصت نتائج دراسة حديثة حول مناخ الأعمال للمعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية إلى أن مناخ الأعمال في البلاد مكبل بثلاث معوقات أساسية تتعلق بالفساد والمناخ السياسي والتمويل البنكي.
وأظهر المسح الذي نشره المعهد خلال يونيو (حزيران) الماضي أن العراقيل الثلاث تمثل القيود الرئيسة لتطوير وتحسين بيئة الأعمال في تونس.
الفساد لا يزال مستشرياً
وفي خصوص الفساد، أكدت نتائج الدراسة أنه يحتل المرتبة الأولى ضمن أكثر المجالات المعوقة لمناخ الأعمال على رغم التقدم الحاصل على مستوى رقمنة الخدمات الإدارية، إذ يعتبر 70 في المئة من أصحاب الشركات التونسية أن الفساد يمثل عقبة رئيسة تحول دون تطور أنشطة مؤسساتهم.
ويؤكد معدو الدراسة أن التوجه نحو رقمنة الخدمات الإدارية يظل الوسيلة الرئيسة لمكافحة هذه الظاهرة، بحسب ما عبر أصحاب المؤسسات.
وأظهرت الدراسة أن الإقبال على الخدمات الإدارية عن بعد ذات الطابع الإلزامي بلغ نسباً عالية على غرار التصريح الضريبي (94 في المئة) بالمقارنة مع الخدمات ذات الطابع الاختياري مثل دفع فواتير الكهرباء والماء (54 في المئة).
الفساد جاثم على أنفاس الشركات
وفي هذا السياق بينت الدراسة أن عدم الرضا عن جودة الخدمات عن بعد تقلص نسبياً مقارنة بـ 2020 بسبب التحسن في الولوج إلى المنصات الإلكترونية وتغطية الشبكات، غير أن عدم الرضا الذي يبديه أصحاب المؤسسات تجاه ضرورة التنقل إلى الإدارة لإتمام الخدمة تفاقم خلال عام 2022 مقارنة بالعام السابق له ويمكن تفسيره من خلال الطبيعة الاختيارية للخدمة المعنية، إضافة إلى القيود الخاصة بالتنقل في 2022 إثر تحسن الوضع الصحي المتعلق بـ"كوفيد-19".
وشدد المسح على أن المؤسسات مطالبة بدورها بحثّ عمالها على التحلي بأخلاق المعاملات الإدارية لتغيير بعض السلوكات والتصدي لكل ممارسة يمكن أن تفضي إلى الفساد.
عدم الاستقرار السياسي
وفي محور المناخ السياسي كشفت نتائج الدراسة أنه على رغم التحسن النسبي في مؤشر إدراك المناخ السياسي مقارنة بعام 2020، فإن 68 في المئة من الشركات ترى أن المناخ السياسي يمثل عائقاً رئيساً بالنسبة إليها، ذلك أن عدم الاستقرار الذي ساد فترة ما بعد الثورة لم يجعل من الممكن تلبية تطلعات الفاعلين الاقتصاديين في مجال الاستثمار، إذ أرجع أكثر من نصف المؤسسات عدم استثمارها منذ 2020 إلى الوضع السياسي بالبلاد والافتقار إلى رؤية اقتصادية واضحة طويلة المدى.
ضعف التمويل البنكي
أما في ما يتعلق بالتمويل البنكي، فأكدت الدراسة ذاتها أن النفاذ إلى القروض البنكية يظل حاجزاً كبيراً، بخاصة أمام المؤسسات المتوسطة والصغيرة، موصية بضرورة مواصلة القيام بالإصلاحات المالية عبر التقليص من الإجراءات المتعلقة بالقرض البنكي بتطوير نشاط مكاتب الإقراض الخاصة وإصلاح نظام الضمان، علاوة على مزيد من النهوض بالطرق البديلة للتمويل مثل تقنية التمويل التشاركي.
وأنجز المسح الميداني خلال الفترة الممتدة من الـ17 من يونيو إلى الـ 22 من يوليو (تموز) 2022، وشمل 1041 مؤسسة خاصة تشغل أقله ستة عمال وناشطة في مجالي الصناعة والخدمات وموزعة على كامل تراب الجمهورية.
غياب الإصلاحات الجريئة
تفاعلاً مع نتائج المسح السنوي الميداني الذي أنجزه المعهد حول مناخ الأعمال، قال أستاذ الاقتصاد في "الجامعة التونسية" رضا الشكندالي إن مناخ الأعمال في البلاد منذ عام 2020 يعتبر في وضع سيئ جداً ولا يشجع رجال الأعمال على الاستثمار في ظل غياب إصلاحات جريئة.
وعبر في حديثه إلى "اندبندنت عربية" عن تفاجئه من أن الوضع الحالي لمناخ الأعمال أسوأ مما كان عليه في زمن "كوفيد" عام 2020، إذ تضررت كل الشركات الكبيرة والصغيرة من جراء اضطراب سلاسل التوريد في العالم وتداعيات الحجر الصحي.
ولاحظ أن بيئة الأعمال في البلاد في تراجع مستمر منذ 2015 إلى أن أصبحت في 2020 في وضع لا يقدم الضمانات الأساسية للاستثمار الذي هبط معدله إلى ما دون 50 في المئة وواصل تراجعه حتى العام الماضي.
أضاف الشكندالي "حتى عام 2019 حافظ معدل مناخ الأعمال على أكثر من 50 في المئة على رغم تراجعه المستمر منذ 2015 وكان في وضع يسمح لرجال الأعمال بتحقيق الحد الأدنى للمردودية التي تحفزهم على الاستثمار".
وأوضح أن مقياس مناخ الأعمال يضم 12 معياراً، 10 منها شهدت تراجعاً ملحوظاً في مجالات القضاء والتمويل البنكي والموارد البشرية والمعاملات في السوق، مردفاً أن رجال الأعمال يعتبرون أن الفساد والمناخ السياسي والتمويل البنكي من أهم معوقات الاستثمار.
لكنه أبرز أن هذه القائمة لمشكلات الاستثمار كانت إلى حدود 2018 مقتصرة على عدم استقرار المناخ السياسي الذي كان معدله أقل من 50 في المائة، غير أنه مع مرور الوقت توسعت القائمة لتشمل الفساد في 2019 والمناخ الاجتماعي والتمويل البنكي والمعاملات في السوق ابتداء من 2020 وتوسعت القائمة في 2022 إلى الجباية والأداءات الاجتماعية والقضاء والإجراءات الإدارية المعقدة.
ومن جانب آخر، لفت رضا الشكندالي إلى أن الأمن لدى أصحاب الأعمال أضحى عاملاً أقل تعطيلاً، إذ تحسنت مرتبته من بين العوامل المعطلة للاستثمار من المرتبة الثالثة عام 2015 إلى المرتبة الـ10 العام الماضي، مما يعكس تحسن الأوضاع الأمنية.
وأعرب عن اعتقاده بأن 70 في المئة من رجال الأعمال، بخاصة الصغار منهم يعتبرون أن الفساد استفحل بصورة كبيرة منذ 2015 وأنه العائق الأهم للاستثمار، الأمر الذي أكده تقرير مؤشر الفساد لأنظمة الشفافية الدولية والذي أظهر أن تونس تراجعت بـ15 مرتبة في 2022 على هذا المؤشر، إذ إنها احتلت المرتبة الأسوأ في تاريخها وهي المرتبة الثامنة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وقال الشكندالي "من العوامل التي تتحكم في المعاملات في السوق، يعتبر رجال الأعمال أن العقبة الأكبر هي السوق الموازية ثم المنافسة غير الشريفة ثم الصفقات العمومية، كما أن الإطار الاقتصادي يتمثل أساساً في قانون الصرف والإطار التشريعي المعوق الأهم للاستثمار وكذلك في القضاء، إذ يرى رجال الأعمال أن الصعوبات في هذا المجال تكمن في الآجال الطويلة لبتّ القضايا المهنية وكذلك في تنفيذ الأحكام".
وخلص في تصريحه إلى أن معظم رجال الأعمال يؤكدون أن الفساد مستشرٍ أساساً في الموانئ كما بين ذلك البنك الدولي في تقريره الأخير لمؤشر مردودية الموانئ، إذ يحتل ميناء رادس المرتبة 237 على 370 ميناء في العالم بمعدل سلبي وهو معدل رديء كمعدل ميناء الإسكندرية المصري الذي يحتل هو الآخر المرتبة 277.
قانون استثمار جديد لم ير النور
وتستعد تونس للمصادقة على قانون استثمار جديد خلال الأيام المقبلة في محاولة منها لتحسين مناخ الأعمال الذي تأثر وما زال تحت تأثير الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وقال وزير الاقتصاد والتخطيط سمير سعيد إن مجلة "قانون" الاستثمار أصبحت جاهزة وسيتم عرضها على مجلس نواب الشعب قريباً، ملاحظاً أنها تتضمن "نقلة نوعية بالنسبة إلى الاستثمار وتغيير منوال التنمية، وذلك بالتوجه نحو اقتصاد المعرفة وخلق مناخ لتسهيل الإجراءات للمستثمرين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الأول من أبريل (نيسان) 2017، دخل قانون الاستثمار الذي جاء بعد قانون سابق تمت الدعاية له على أنه كان سيخرج تونس من شح الاستثمارات الأجنبية، حيز التنفيذ.
ولكن يبدو أن هذا القانون أضحى بحاجة ماسة إلى تعديلات عدة لكي يواكب التطورات، بخاصة القضاء على بعض الممارسات الإدارية المعوقة لدفع المبادرة الخاصة وإقبال المستثمرين على تونس.
إعلان نوايا فقط
وسبق أن أعلنت الحكومة التونسية الحالية عن استعدادها مع انطلاق عام 2023 لإطلاق استراتيجية جديدة لحفز استثماراتها المتعثرة منذ نحو عقد، لتعيدها إلى دائرة الضوء في خطط كبرى الشركات العالمية والمستثمرين الدوليين.
وتعتزم البلاد عبر إطلاق هذه الخطة إعطاء رسالة قوية عن رغبتها في تحسين مناخ الأعمال في البلاد والتخلص من البيروقراطية التونسية التي أعاقت التدفقات الاستثمارية وإقامة المشاريع.
ولكن بعد انتصاف العام لم يقع تفعيل هذه الخطة ولم تعلن الحكومة عن أية إجراءات جديدة لتطوير بيئة الأعمال على رغم مصادقة مجلس الوزراء في أكتوبر (تشرين الأول) 2022 على هذه الخطة التي تضمنت نحو 160 إجراء جديداً.
وتندرج الخطة التي ظلت مجرد إعلان نوايا ضمن رؤية شاملة هدفها الأساس توفير مناخ أعمال ملائم وجاذب للمبادرة والاستثمار الخاص باعتباره المحرك الأساس للنمو وخلق الثروة ومواطن الشغل في ضوء محدودية إمكانات الدولة في الظرف الراهن، وذلك من خلال اعتماد إطار تشريعي ومؤسساتي ناجع مع تبسيط ورقمنة مسار بعث المشاريع والحد من العوائق المكبلة للمبادرة.