Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النزعات الانفصالية في العالم العربي... أحلام مؤجلة

من السودان إلى العراق وسوريا والمغرب ولبنان واليمن

يعود تاريخ النزعات الانفصالية لدى الأكراد إلى مطلع القرن الـ20 (اندبندنت عربية)

ملخص

قد تكون دولة جنوب السودان التي انفصلت عن السودان، في التاسع من يوليو (تموز) 2011، أكثر دولة فتية في العالم.

يشهد العالم العربي العديد من الحركات الانفصالية، وهي حركات سياسية أو قومية، تسعى إلى تحقيق الاستقلال عن الدولة المركزية، وإقامة كيان خاص ذو طبيعة عرقية أو قومية أو طائفية أو مناطقية، وبعضها يكتفي بهدف تحقيق الحكم الذاتي.

قد تكون دولة جنوب السودان التي انفصلت عن السودان، في التاسع من يوليو (تموز) 2011، أكثر دولة فتية في العالم. وبهذه الخطوة انتهى صراع دام عقداً من الزمن، وكان بدأ حتى قبل حصول السودان على استقلالها عن المملكة المتحدة في عام 1956.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، يعود تاريخ النزعات الانفصالية لدى الأكراد إلى مطلع القرن الـ20، ويشكون أنهم الشعب الوحيد في المنطقة الذي حرم من أن يكون له دولة مستقلة، عندما تراجع الحلفاء الغربيون عن معاهدة سيفر التي كانت وضعت مساراً لإنشاء تلك الدولة.

وتم تقسيم الأكراد بين أربع دول هي العراق وتركيا وسوريا وإيران، وقسم في جنوب غربي أرمينيا بموجب معاهدة لوزان الموقعة في الـ24 من يوليو 1923 بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى وتركيا وريثة الإمبراطورية العثمانية الخاسرة، تمخض عنها تشكيل دول جديدة على ميراث الإمبراطورية المنهارة، لتمثل بداية لبروز قضية شكلت على الدوام معضلة لحكومات الدول المعنية بعد اتخاذ فصائل ومجاميع كردية خيار الثورات المسلحة.

في هذا التحقيق المشترك، ترصد "اندبندنت عربية"، أبرز النزعات الانفصالية القائمة في العالم العربي.

 

 

السودان... كيف نمت النزعات الانفصالية؟

لعبت النزعات الانفصالية والحركات الناتجة عنها دوراً مهماً في السياسة السودانية منذ أربعينيات القرن الماضي، ومع أن بداية الحركة الانفصالية التي حمل لواءها أبناء جنوب السودان كانت أيام الاستعمار البريطاني على السودان، إلا أنها استمرت بعد الاستقلال وحلت محل النضال ضد المستعمر، فقد كان في اعتقادهم أنهم تحولوا من مستعمر أجنبي إلى مستعمر محلي أكثر ضيماً، باعتبار التفرقة والتمييز على أساس اللغة والهوية والدين.

ولأن السودان یحتل موقعاً استراتيجياً في قلب أفريقيا واتخذ كثيراً من سماتها في تنوع الأعراق والأديان والثقافات واللغات والعادات والتقاليد، فإنه أطلق عليه أفريقيا المصغرة. كما أن وجوده الجيوسياسي العربي، زاد من إظهار الفوارق بين شمال عربي مسلم وجنوب أفريقي مسيحي، ومتعدد الديانات.

نشوب التمرد

أصدر الاستعمار البريطاني على السودان، قانون المناطق المقفولة عام 1932 لمواجهة التأثير الإسلامي بإرسال بعثات التبشير المسيحية في الجنوب، ولم تكن هناك غير المعتقدات الأرواحية، ومواجهة المد العربي بفرض اللغة الإنجليزية لغة رسمية كي لا تتسرب العربية لتحل محل اللهجات المحلية المتنوعة، ولم يكن متاحاً للشماليين الدخول إلى هذه المناطق إلا بإذن رسمي.

عند التهيئة لاستقلال السودان، ومع تطبيق مشروع السودنة بإبدال الموظفين والضباط البريطانيين بسودانيين، تدفق الموظفون الشماليون نحو الجنوب لملء الوظائف الشاغرة، فاحتج الجنوبيون وعدوا ذلك استعماراً شمالياً عربياً بدلاً من الاستعمار البريطاني، فقاموا بالتمرد الأول في الـ18 من أغسطس (آب) 1955 في مناطق الاستوائية، إذ تمرد ضباط وجنود الكتيبة التابعة لقوة دفاع السودان، في مدينة توريت الجنوبية وقاموا بتصفية 120 من مواطني شمال السودان و40 أوروبياً.

تم احتواء ذاك التمرد من الحاكم البريطاني العام، ودعا القوات الجنوبية إلى وضع السلاح والسماح للقوات الشمالية بالدخول إلى الجنوب.

إلا أن المتمردين ضمن النزعات الانفصالية ردوا برسالة للحاكم العام وضعوا فيها شروطاً منها إجلاء القوات الشمالية الموجودة في جوبا، وأيضاً إرسال قوات بريطانية لتحمي القوات الجنوبية وهكذا انتهى التمرد الأول.

وفي الـ31 من ديسمبر (كانون الأول) 1955 صوت السودانيون، شماليين وجنوبيين، من داخل البرلمان لصالح استقلال السودان، وحصل الجنوبيون على تعهد من الشماليين بإقامة الحكم الذاتي في إقليمهم. وبعد إعلان استقلال السودان في الأول من يناير (كانون الثاني) 1956 توقف العمل بالنظام اللامركزي الذي كانت تنتهجه الإدارة البريطانية، وطبق النظام المركزي الذي ولد خلافات عديدة حول الوظائف الرسمية والإدارية في الوزارات وغيرها.

 

 

أنشأ الجنوبيون و"الحزب الفيدرالي الجنوبي" عام 1958 بغرض تحقيق انفصال الجنوب، ولكن الانقلاب العسكري بقيادة الفريق إبراهيم عبود في الـ17 من نوفمبر (تشرين الثاني) في العام نفسه، قلب موازين السياسيين الجنوبيين، إذ أذاقهم عبود الأمرين بإصداره قانون "تنظيم الهيئات التبشيرية"، وطرد موظفيهم كافة من الجنوب عام 1963، وألغى عطلة يوم الأحد الرسمية واستبدلها بيوم الجمعة، كما بدا واضحاً انتهاجه سياسة الأسلمة والتعريب، فنشب التمرد مرة أخرى. 

مسار الانفصال

في المقابل لجأ عدد من السياسيين الجنوبيين إلى دول الجوار وأسسوا أحزاباً سياسية أخرى أبرزها الاتحاد السوداني الأفريقي لجنوب السودان (سانو) الذي أرسل مذكرة للأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية عام 1963 مطالباً باستقلال جنوب السودان وحق تقرير المصير، ومتابعة دولية لمعالجة قضية الجنوب.

إضافة إلى جناح عسكري للحزب عرف باسم "أنانيا" وتعني سم الكوبرا، ثم تحولت الميليشيا إلى "الجيش الشعبي لتحرير السودان" وأصبحت الجناح العسكري للـ "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بزعامة جون قرنق.

بعد ثورة الـ21 من أكتوبر (تشرين الأول) 1964، عقد مؤتمر المائدة المستديرة في عام 1965، وبعد استيلاء جعفر النميري على الحكم بانقلاب عسكري في الـ25 من مايو (أيار) 1969، وقع اتفاق أديس أبابا (مؤتمر المائدة المستديرة) عام 1972 واستمر الحكم الذاتي للجنوب لـ10 سنوات حتى عام 1982 حين قسم النميري جنوب السودان إلى ثلاثة أقاليم مما أشعل التمرد مرة أخرى في أكتوبر 1983.

واستمرت الحرب بعد سقوط النميري عام 1985، وقيام حكومة الديمقراطية الثالثة من 1986 حتى الانقلاب العسكري بقيادة عمر البشير 1989، إذ اتخذت حرب الجنوب طابعاً أيديولوجياً، أسهم في صب مزيد من العنف.

بعد ذلك عقدت "قوى التجمع الوطني الديمقراطي" المعارضة للنظام "مؤتمر القضايا المصيرية"، بمدينة أسمرا عاصمة إريتريا في يونيو (حزيران) 1995. ومن ثم ضغطت القوى الدولية على الحكومة لعقد مفاوضات انتهت بتوقيع اتفاق مشاكوس 2002، ثم اتفاق نيفاشا 2005 الذي مهد لانفصال الجنوب في التاسع من يوليو (تموز) 2011.

تصورات متباينة

حين نص "اتفاق أسمرا المصيري" على تأكيد مبدأ حق تقرير المصير، والاعتراف بأن ممارسته توفر حلاً لإنهاء الحرب الأهلية في جنوب السودان تحت إشراف إقليمي ودولي، لتشمل المناطق المتأثرة بالحرب وهي جنوب السودان ومنطقة أبيي وجبال النوبة وجبال الأنقسنا، لم تكن دارفور انتقلت إليها الحرب ثم تأثرت بعدوى الانفصال بعد، على رغم وجود نزاعات محدودة على المرعى والماء والأرض.

في دارفور الغنية بالموارد الطبيعية من مخزون النفط  واليورانيوم، تستخدم الآن إحدى الاستراتيجيات المتوفرة للحركات الانفصالية، وهي المبنية على الهوية في النزاع الإثني بين القبائل العربية والأفريقية مما أكسب النزعة الانفصالية تأييداً دولياً.

 

 

في عهد النظام السابق كان التصور الأول للانفصال هو أن يطالب إقليم دارفور الذي يساوي مساحة فرنسا بالانفصال إلى دولة مستقلة مبنية على الهوية الأفريقية، بعد أن سام نظام البشير وميليشيا "الجنجويد" سكانه أصنافاً من العذاب، واتهم البشير بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وأصدرت محكمة الجنايات الدولية مذكرة توقيف في حقه عام 2009.

ولكن بعد أن قسم البشير دارفور إلى خمسة أقاليم، نشأ تصور آخر متباين بأن الانفصال سيكون إلى دويلات صغيرة، كانت في مقدمها قبائل الفور، الذين ينادون بدولة الفور، والزغاوة الذين نهضوا إلى دولة مستقلة بالاتحاد مع قبيلتهم في تشاد وجنوب ليبيا والنيجر وغيرها.

قومية مختلفة

وفي منطقتي قبائل الأنقسنا في النيل الأزرق، وجبال النوبة جنوب كردفان حيث تسيطر الحركة الشعبية لتحرير السودان - جناح عبدالعزيز الحلو، الذي رفض التوقيع على اتفاق جوبا للسلام الموقع مع الحركات المسلحة في الثالث من أكتوبر 2020، هدد بتقرير مصير المنطقة التي تقع من ضمنها منطقة أبيي الغنية بالنفط والمتنازع عليها بين دولتي السودان وجنوب السودان.

وفي شرق السودان أعلن حزب "مؤتمر البجا" حكومة البشير بالنظر في حق تقرير المصير، بعد تصاعد حدة المطالب بالتنمية والعدالة الاجتماعية لإنسان الشرق، انطلاقاً من أن البجا قومية مختلفة في لغتها وعاداتها وثقافتها ولها تاريخها وأرضها التي تؤهلها للمطالبة بذلك الحق.  

الخط الفاصل

استغرق إقليم جنوب السودان مدة طويلة حتى نال استقلاله، ويتوقع كذلك أن يكون مصير دارفور المهيأة لذلك، ولكن خلال هذه الفترة سيتعرض السودان إلى إنهاك اقتصادي وسياسي واجتماعي. وإن كان الجنوبيون اختاروا الانفصال بناء على تأثير التركيبة الإثنية والهوية الدينية في الاستراتيجيات الأخرى مثل تأثير الفاعلين الإقليميين والدوليين وتعاطفهم، فإن انفصاليي دارفور يمكنهم أيضاً استغلال هذه التفاعلات الدينامية، التي تخضع الآن إلى عنصر عدم الاستقرار بفعل الحرب، وتصور الهويات المعرضة للخطر.

وفي إقليم الشرق، تواجه النزعات الانفصالية والحركات المرتبطة بها مشكلة السكان متعددي الإثنيات واللغات مع انقسامات كبيرة بسبب التهميش الاقتصادي والسياسي، وكذلك منطقة جبال النوبة التي يضاف إليها النزاع حول الهوية الدينية والمجموعات اللغوية وهي بمثابة خط فاصل رئيس.

كل هذه الأقاليم تسعى إلى خلق قوميات تركز على المنطقة بأكملها التي يطالبون بانفصالها، بدلاً من مجموعات معينة بداخلها، وعليه فإن اختيار التعريف الديني المحدود أو اللغوي أو الإثني الذي تروج له هذه المجموعات سيخلق مشكلة نزاع جديدة حول من هو أحق بالإقليم المراد تقرير مصيره.

 

العراق... الأكراد والصراع الدائم مع الحكومات المتعاقبة

في العراق بدأ الفصل الأول من النزعات الانفصالية على يد القائد الكردي محمود الحفيد 1919، وحارب قادة آخرون الانتداب البريطاني، ومن ثم خاض الفصل الثاني الزعيم ملا مصطفى بارزاني ليؤسس عام 1946 "الحزب الديمقراطي الكردستاني" من أجل الاستقلال، وقمعت ثورته أيضاً لينفى إلى إيران ليصبح هناك ضمن مؤسسي جمهورية مهاباد.

وعلى رغم أن أكراد العراق حظوا بحقوق أفضل عن غيرهم من الأكراد في الشرق الأوسط، إلا أنهم دخلوا في صراعات طويلة مع مختلف الحكومات العراقية، بدأها بارزاني بإطلاق ثورة مسلحة عام 1961، واستمرت إلى أن تمكن من انتزاع موافقة من بغداد بتشكيل منطقة حكم ذاتي عام 1970، لكن الاتفاق انهار بعد أربع سنوات فقط لتصيب ثورته بانتكاسة موقتة ومن ثم وفاته عام 1979، ليأتي من بعده نجله مسعود بارزاني لخوض الصراع في الجبال استمر لأكثر من عقد شهد سلسلة حروب وتدمير آلاف القرى الكردية وعشرات آلالاف من الضحايا.

ومع حلول ربيع عام 1991 تمكنت القوى الكردية من خلال "الجبهة الكردستانية" التي ضمت حزب بارزاني والمنشق عنه زعيم "الاتحاد الوطني" جلال طالباني قوى أخرى، من إشعال انتفاضة في المدن الكردية على إثر انهيار قوات نظام حزب البعث برئاسة صدام حسين في حرب الخليج الثانية، وحصلوا على حماية غربية أسهمت في تمتعهم بإقليم شبه مستقل عن بغداد.

لعبت القوى الكردية دوراً فعالاً في تأسيس مرحلة ما بعد نظام صدام عام 2003 حصدوا خلالها حقوقاً في الدستور الجديد، ولم يتوقفوا عند هذا الحد بل ذهبوا عام 2017 لخوض استفتاء للانفصال على رغم رفض بغداد، من دون أن يتمكنوا من كسب أي اعتراف إقليمي ودولي، مما أعطى الحكومة الاتحادية بقيادة القوى الشيعية المساحة لاتخاذ جملة من العقوبات ضدهم أدت إلى انسحابهم من مناطق واسعة ذات موضع نزاع وأبرزها محافظة كركوك الغنية بالنفط

المادة 119

في المقابل أعطت المادة 119 من الدستور العراقي الذي صيغ وصوت عليه في استفتاء عام 2005 الحق للوحدات الإدارية المطالبة بالتحول إلى إقليم لكل محافظة أو أكثر، بعد تقديم طلب لإجراء استفتاء عبر آليتين، وهي إما تقديم طلب من ثلث أعضاء الحكومة المحلية للمحافظة أو طلب من عشر سكانها.

 

 

ومنح الحق للإقليم تشريع دستور له يحدد سلطاته وفق المادة 120، مع صلاحية ممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. يقول الباحث الكردي سيروان محمود إن "المعادلة الإقليمية والدولية شهدت متغيرات صبت ربما موقتاً في صالح الأكراد، وبناء على ذلك بدت الإدارة الأميركية أكثر قرباً في النظر إلى أهمية موقع إقليم كردستان الجيوسياسي، وهي ورقة مهمة في المعادلة السياسية العراقية المخترقة من دول الجوار والمنطقة بشكل عام".

ويضيف "هنا حاول الأكراد استغلال ما حققوه من استقرار قبل أقرانهم في دول المنطقة منذ عام 1990، على رغم خوض الحزبين التقليديين حرباً أهلية، تمكنوا من بناء أركان لإقليم شبه مستقل عن بغداد، من خلال بناء مؤسسات مثل البرلمان والحكومة وقوات أمنية وعسكرية، بخاصة أن علاقة الحزبين التقليديين كانت تحسنت بفعل تشكيلهما حكومة ائتلافية على وقع اتفاق استراتيجي أفضى إلى تفاهم لتقاسم النفوذ والموارد، وحققوا مكاسب مهمة على حساب بغداد، في وقت كانت الأخيرة تعيش في فوضى بعد الغزو الأميركي، من هجمات دموية شبه يومية من تنظيم القاعدة ومن ثم نشوب حرب طائفية عام 2006، وانتهت باحتلال تنظيم داعش لثلث مساحة البلاد عام 2014 قبل دحره عام 2017".

من جهة ثانية استمرت المكاسب الكردية لبضع سنوات قبل دخولها مرحلة التراجع، مع استعادة بغداد عافيتها بعد القضاء على داعش وتحقيق استقرار أمني وحتى اقتصادي، وكانت الضربة الأولى التي تلقاها الأكراد في خوضهم استفاء للانفصال عام 2017، تعرضوا خلالها إلى عقوبات قاسية من بغداد التي أمرت بغلق مطارات الإقليم وزحفت بقواتها لطرد قوات البيشمركة الكردية من مناطق موضع نزاع وأهمها محافظة كركوك النفطية.

 

 

وكان للجارتين إيران وتركيا موقف مساند لبغداد، ومعروف أن للدولتين صراعاً تاريخياً مماثلاً مع شعوبها الكردية التي لطالما كان يدها نزعات انفصالية، والثابت لها أن تشكيل أي كيان كردي مستقل في العراق سيكون له انعكاس على الأكراد الطامحين إلى الاستقلال في الدولتين إلى جانب سوريا، كما تحفظت واشنطن وحلفاؤها الغربيون على الخطوة الكردية لحسابات تتعلق بمصالحها الاستراتيجية المرتبطة بواقع المعادلة الإقليمية القائمة.

وتعد كركوك الغنية بالنفط نموذجاً لأبرز القضايا السياسية تعقيداً، ولطالما كانت محل تنازع دائم بين الأطراف، إذ يعتبرها الأكراد من جهة جزءاً لا يتجزأ من إقليم كردستان وأخفقوا في ضمها لوقوعها ضمن المادة 140 الدستورية المتعلقة بحل مناطق موضع نزاع مع بغداد، وفي الجهة المقابلة يرفض العرب والتركمان بشدة الطموح الكردي على أن لكركوك وضعاً خاصاً يفرضه واقع تنوعها العرقي والطائفي.

 

 

ليبيا... صراع السلطة والموارد يحيي النزعات الانفصالية

يعتقد كثيرون أن النزعات الانفصالية في ليبيا ولدت حديثاً بعد تفتت الدولة المركزية الشمولية التي كان يقودها معمر القذافي بعد الثورة الشعبية عام 2011، لكن الحقيقة أن عمر هذه النزعات الانفصالية أقدم بكثير، وسبقت قيام الدولة الليبية الحديثة عام 1951، حين قامت دولة منفصلة في إقليم برقة شرق البلاد عام 1949، لكنها لم تصمد سوى لعامين فقط.

مع ذلك فإن هذه الدعوات بلا شك تنامت واشتدت بعد سقوط نظام القذافي، كرد فعل على التهميش الذي عاشته مناطق ليبية غنية بالنفط شرق البلاد وجنوبها لأربعة عقود، وكانت من محركات الحرب التي اندلعت منتصف العقد الماضي، واستمرت سنوات بين قوى عسكرية كانت قواعدها الرئيسة في بنغازي وطرابلس.

انفصال لعامين

تسببت خلافات كبيرة بين أمير برقة إدريس السنوسي الذي توج بهذا المنصب عام 1947 والقوى السياسية الطرابلسية عام 1949 في ظهور إمارة برقة إلى الوجود، في أول تهديد حقيقي لوحدة البلاد في العصر الحديث، إذ أعلن إدريس السنوسي برقة إمارة مستقلة وبدستور مستقل من جانب واحد في الأول من مارس (آذار) 1949 بدعم من بريطانيا، لتصبح الدولة المستقلة الثامنة بين البلدان العربية آنذاك.

وكان الخلاف القائم وقتها بين السنوسي والطرابلسيين يدور بخصوص شكل نظام الحكم الذي أراده أمير برقة ملكياً مع توليته للعرش، بينما كان خصومه يطالبون بالنظام الجمهوري.

 

 

كان واضحاً أن إعلان إمارة برقة قرار استفزازي، وكان أشبه بحركة استباقية لوأد الحوار بخصوص نظام الحكم، فأصبح الخيار صعباً بين تهديد فرصة الاستقلال وربما الحرب الأهلية أو القبول بالملكية بعد أن أصر إدريس على تحويل برقة لدولة مستقلة في حال رفض بقية قادة البلاد توليه العرش، ولم يكن أمام الحركة الوطنية إلا القبول بإدريس ملكاً في ظل نظام اتحادي بولايات ثلاث "برقة وفزان وطرابلس" وضعت دستوره لجنة بإشراف الأمم المتحدة.

قمع طويل

عقب انقلاب الملازم الأول في الجيش الليبي معمر القذافي ورفاقه من الضباط الصغار على النظام الملكي وانتزاع الحكم في البلاد عام 1969، وخلال السنوات الـ42 التي حكم فيها البلاد بعد ذلك، قمع النظام الجديد الدعوات الانفصالية في ليبيا بشدة، بعد أن عادت للظهور ولو بشكل ضئيل بعد ظهور النفط وتصديره بداية الستينيات من القرن الماضي، خصوصاً في برقة وفزان، اللتين ظهر في أراضيهما ثلثا حقول النفط والغاز في البلاد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بنى نظام القذافي نظاماً مركزياً صارماً يتماشى مع النهج الاشتراكي الذي تبناه، فنقل كل المؤسسات السيادية والاقتصادية إلى مركز الحكم في طرابلس، وأهمل التنمية في مراكز إنتاج وتصدير النفط، وحرم مجرد النطق بالأسماء التاريخية للأقاليم الليبية، مما ولد شعوراً بالظلم والتهميش، دفعت البلاد ثمنه غالياً بعد سقوط النظام عام 2011.

تهديد انفصالي جديد

بعد خفوت الدعوات الانفصالية في ليبيا لعقود، فوجئ الليبيون باجتماع عقد في السادس من مارس (آذار) 2012 باسم "مؤتمر شعب برقة" في بنغازي، أعلن فيه قيام كيان برقة ضمن دعوة لإحياء النظام الفيدرالي ودستور 1951، بقيادة قريب الملك السابق إدريس السنوسي أحمد الزبير السنوسي.

كانت هذه الدعوة الشرارة الأولى لسنوات طويلة من الصدام المسلح في ليبيا بعد ذلك، إذ فجرت جدلاً ساخناً وتبادلاً للاتهامات، وحصلت اشتباكات متكررة بين أنصار الدعوى والمعارضين لها، فشهدت كل المدن الليبية تقريباً تظاهرات رفضاً للفكرة شكلاً ومضموناً، وسقط ضحايا من الطرفين، وتصاعدت لهجة التهديد والتخوين خلال أكثر من شهر منذ الإعلان.

كل هذا لم يمنع انعقاد المؤتمر الثاني لـ"شعب برقة" في الـ17 من أبريل (نيسان) 2012 الذي أعلن تشكيل مؤسسات إقليم برقة، كالقوة المسلحة التي سميت بقوة دفاع برقة استحضاراً للاسم ذاته الذي استخدمه الملك الراحل إدريس السنوسي، وإعلان هيئة تأسيسية وفقاً لدستور 1951، ورفض قانون الانتخابات، فيما عد واقعياً إنهاء للاعتراف بسلطة المجلس الانتقالي الذي كان يدير البلاد وقتها.

انشقاق خطر

على رغم الهجمة الشرسة عليه وعلى طرحه، أعلن رئيس مجلس إقليم برقة أحمد الزبير السنوسي، في الأول من يونيو (حزيران) 2013 إقليم برقة إقليماً فيدرالياً، لكن في إطار الدولة الليبية، وطالب في الوقت نفسه المؤتمر الوطني العام والحكومة، بإجراء استفتاء في الإقليم بإشراف الأمم المتحدة بخصوص تطبيق النظام الاتحادي.

 

 

الخطوة الأخطر والأكثر تأثيراً في وحدة البلاد واستقرارها في السنوات اللاحقة كانت بإعلان إبراهيم الجضران، آمر حرس المنشآت النفطية في المنطقة الشرقية، أو ما يعرف بـ"الهلال النفطي"، انشقاقه عن الحكومة المركزية في طرابلس وباشر تصدير النفط لحسابه، بالاتفاق مع شركات غير متعاقدة مع المؤسسة الوطنية للنفط.

وكان الجضران، وهو قائد جماعة مسلحة أيام الثورة على القذافي، كلف بمهمات رئيس المكتب السياسي لإقليم برقة، الذي كلفه بدوره بإدارة مؤسسات الإقليم في أعقاب إعلانه إقليماً فيدرالياً من "حركة شباب برقة" في مدينة راس لانوف النفطية.

رد الحكومة المركزية

أقالت رئاسة الأركان العامة في طرابلس الجضران من مهماته، من دون أن تستطيع القبض عليه وتقديمه للمحاكمة، خصوصاً أنه يحظى بدعم القبائل المقيمة في محيط مدينة أجدابيا.

واستطاع هذا الضابط المنشق أن يفرض حصاراً على الموانئ النفطية في الشرق ويقطع تدفقه منذ يوليو (تموز) 2013، وحتى عام 2016 مطالباً بالتحقيق في ما سماه "فساد في مبيعات النفط" وبحصة أكبر لسكان شرق ليبيا من عوائد بيع النفط تدفع لهم مباشرة.

وحتى اليوم لا يزال هذا التجاذب الحاد قائماً بين تيارات ثلاثة، فيدراليين من جهة وانفصاليين من جهة ثانية وأنصار الدولة المركزية من جهة ثالثة، وخلاف كبير آخر يتعلق بالخيار بين الملكية والجمهورية، ومع أن الغالبية متشبثة بالنظام الجمهوري، ترتفع في الجهة المقابلة أصوات مهمة تدعو للعودة للملكية، لإنقاذ ليبيا من التفكك، كما فعلت في زمن مضى.

 

 

المغرب... أرق الانفصال في الصحراء 

يعتبر نزاع الصحراء أحد أقدم ملفات النزاعات والصراعات الإقليمية والدولية في العالم، فهو يعود لأواسط سنوات السبعينيات من القرن الماضي، عندما تأسست جبهة "البوليساريو" للمطالبة بانفصال الصحراء عن سيادة المملكة المغربية.

وكلمة "البوليساريو" هي اختصار لاسم الجبهة باللغة الإسبانية المكون من الحروف الأولى لعبارة "الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب"، وهي منظمة تدعو إلى انفصال أقاليم الصحراء عن سيادة المغرب، بينما يقترح هذا الأخير خيار الحكم الذاتي في الصحراء حلاً لهذا النزاع الذي عمر طويلاً.

نبذة تاريخية

ولملف النزعات الانفصالية في منطقة الصحراء، تاريخ مديد اتسم بعديد من الأحداث والقرارات السياسية والعسكرية، كما جذب اهتمام وتفاعل القوى الدولية، بين من دول عدة أيدت صراحة أو ضمنياً أطروحة المغرب، وبين من دعم مطالب الانفصال.

وبالعودة للتاريخ فإن مطالبة المغرب الذي نال الاستقلال من الاستعمارين الفرنسي والإسباني بأحقيته في السيادة على إقليم الصحراء عام 1957 وجدت جواباً من الأمم المتحدة عام 1965، لما دعت إسبانيا إلى الخروج من الصحراء وإنهاء احتلالها.

مرت بضع سنوات على هذه الأحداث ومجريات الأمور، ليؤسس عدد من النشطاء الصحراويين جبهة سموها جبهة "البوليساريو" في عام 1973، وبعد سنتين (عام 1975) رفض المغرب قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي بشأن عدم أحقية المغرب بسط سيادته على الصحراء، ليعلن الملك الراحل الحسن الثاني تنظيم "المسيرة الخضراء" الشهيرة التي شارك فيها آلاف المغاربة المتطوعين رجالاً ونساء، وعلى إثرها غادر آخر جندي إسباني منطقة الصحراء.

 

 

وفي السنة ذاتها اندلعت حرب عصابات بين جبهة "البوليساريو" والقوات العسكرية المغربية استمرت حتى 1991، تاريخ قرار الأمم المتحدة وقف إطلاق النار في الصحراء بين الطرفين المتنازعين.

وعلى رغم القرار الأممي بوقف إطلاق النار إلا أن السلام لم يثبت على الأرض بين الأطراف المعنية، وعلى امتداد المنطقة الصحراوية المتنازع بشأنها أقيمت منطقة عازلة تفصل بين المناطق الشاسعة التي تخضع لسيادة المغرب، وبين الجزء الذي تسيطر عليه جبهة البوليساريو في مخيمات تندوف.

الحكم الذاتي

ويبدو أن الثروات الباطنية التي تختزنها الصحراء من فوسفات وغاز ونفط محتمل، فضلاً عن الموقع الاستراتيجي المهم بالنسبة إلى أمن أوروبا واستقرارها، تجعل من أطراف النزاع تتمسك بمطالبها وما تعتبره حقوقاً لها.

في المقابل يرى المغرب أنه لا يمكن أبداً التفريط في شبر واحد من الصحراء، لأنه بكل بساطة "المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها"، كما ورد في إحدى خطب العاهل المغربي، بل إن الملك محمد السادس كان واضحاً جداً عندما شدد في خطاب له العام الماضي على أن "ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات".

 

 

ومن ثم فإن المغرب يصر على أن حل النزاع الطويل في الصحراء يمر أساساً عبر إرساء الحكم الذاتي في المنطقة، وهو الحل الذي تقدمت به الرباط رسمياً عام 2007، ومعناه أن يمارس سكان الصحراء حياتهم الاقتصادية والإدارية والسياسية بصلاحيات واسعة لكن تحت سيادة المغرب، من خلال الحفاظ على رموز هذه السيادة من قبيل العلم الوطني والعملة وغيرهما.

ولقي المقترح المغربي تفاعلات إيجابية واسعة في المنتظم الدولي، إذ اعتبرته القوى الكبرى في العالم خصوصاً الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا وعديد من بلدان أوروبا مقترحاً منطقياً وعملياً يمكن أن يفضي إلى حل النزاع من خلال مسار المفاوضات بين الأطراف المعنية بالصراع، وضمنها الجزائر وموريتانيا.

ويقوم المغرب تمهيداً لإقرار الحكم الذاتي في منطقة الصحراء بعديد من الجهود التنموية لتحسن عيش سكان المناطق الصحراوية التي تدخل تحت سيادته، من خلال جذب وتشجيع الاستثمارات الزراعية والصناعية بالمنطقة، والاهتمام بالرأسمال البشري الصحراوي.

أطروحة الانفصال

في الجهة المقابلة ترفض جبهة البوليساريو رفضاً قاطعاً مقترح الحكم الذاتي في الصحراء، إذ إنها تنشد تأسيس جمهورية صحراوية في المنطقة، وترى أن حل النزاع هو إجراء استفتاء يقرر الصحراويون من خلاله "تقرير المصير".

وتصر جبهة البوليساريو على النزعة الانفصالية في الصحراء، باعتبار أن الصحراويين شعب قائم بذاته يمتلك هوية خاصة به، ويمكنه مقاومة من يحتل أرضهم عن طريق "الكفاح المسلح"، وهو مصطلح ظلت تردده قيادات جبهة البوليساريو الانفصالية منذ نشأتها إلى اليوم.

وتجد أطروحة الانفصال التي تدفع بها جبهة البوليساريو صدى لدى عدد من البلدان، لا سيما الجزائر التي تعتبر أول داعم للجبهة في هذا الصدد، وجنوب أفريقيا وبلدان أفريقية أخرى، فضلاً عن بعض الدول في أميركا الجنوبية التي لا تزال تؤمن بفكرة الانفصال و"الكفاح المسلح" وغيرها من المفاهيم والمصطلحات "الثورية".

ويرى مراقبون أن أطروحة الانفصال في الصحراء لم تعد تغري عديداً من الدول في العالم، إذ سحب كثير منها الاعتراف بجبهة البوليساريو، وبالتالي إما أنها دعمت صراحة المقترح المغربي بإرساء الحكم الذاتي، أو أنها حافظت على الحياد بمطالبة الأطراف المعنية بالصراع الجلوس على طاولة المفاوضات من أجل إيجاد حل عملي وناجع لهذا الملف الشائك.

من جهتها لا تخفي الجزائر دعم مطالب جبهة البوليساريو، لكنها تؤكد في المقابل أنها غير معنية مباشرة بالملف، وإنما هي "بلد جار ومراقب للعملية السياسية في الصحراء"، وأنها تسعى دوماً لتكون "مصدراً للسلم والأمن والاستقرار في جوارها"، بحسب وزير الخارجية الجزائري السابق رمطان لعمامرة.

وتحتضن الجزائر مخيمات تندوف على أراضيها، وما فتئت تدعو إلى "منح الشعب الصحراوي الحق في تقرير مصيره ومستقبله السياسي، عبر تنظيم استفتاء حر ونزيه".

وتتهم الجزائر المغرب كل مرة بأنه يتعمد التعنت السياسي بهدف عدم تمتيع "الشعب الصحراوي" بحقوقه المنشودة، معتبرة أن قضية الصحراء قضية تصفية استعمار، لا يمكن أن تجد طريقها للحل، إلا عبر تفعيل مبدأ تقرير المصير""، وفق لعمامرة.

 

 

 

لبنان بلد الأقليات الطائفية المتشاركة فهل يحتمل التقسيم وسط النزعات الانفصالية؟

يرى البعض، أن موضوع الفيدرالية أو إعادة النظر بتركيبة النظام الحالية، أو "أمن المناطق"، أو "الحركة الانفصالية" وصولاً إلى الطلاق، أو أي صيغة من صيغ تغيير النظام الذي تأسس عليها "لبنان الحديث" منذ 1920، وليدة الأزمات التي يعيشها لبنان.

لكن بذرة فكرة التقسيم برزت منذ عهد المتصرفية في عهد الإمبراطورية العثمانية، حيث جرى اعتماد التوزيع الطائفي للسلطة، منذ إنشاء منطقة جبل لبنان الإدارية خلال القرن التاسع عشر، باعتبارها نواة لبنان الحديث.

وعلى غرار التسوية التي اعتُمدت في وقت سابق لإنهاء الصراع عام 1840، فقد تبنّى نظام الحكم الذي استحدث بعد الحرب الأهلية في جبل لبنان عام 1860، (المتصرفية)، الطوائف الدينية المختلفة باعتبارها أطرافاً سياسية فاعلة. وفي مرحلة ما بعد عام 1860، وتحت سلطة الوالي العثماني المسيحي غير العربي المعروف باسم المُتصرف، (وفقاً لدراسة "تفكّك اتفاق الطائف في لبنان: حدود تقاسم السلطة على أساس الطائفة" للباحث جوزيف باحوط)، أنشئ مجلس إداري خُصِّصت فيه مقاعد للطوائف الدينية الست الرئيسة في جبل لبنان، بما يتناسب مع الأعداد الإجمالية لأفرادها.

اللافت هنا أن تقاسم السلطة في مرحلة ما بعد عام 1860 وصيغة الحكم المحلي أعقبا النزاع الذي وضع الدروز في مواجهة الموارنة، وهما الطائفتان الرئيستان في منطقة جبل لبنان التي تمتعت بحكم شبه ذاتي. وبعد أن أعلنت فرنسا عن قيام لبنان الكبير عام 1920 وضمت إلى جبل لبنان ذات الغالبية المسيحية والدرزية، مدينة بيروت وكانت حينها ذات غالبية مسيحية أرثوذكسية، وطرابلس وصيدا وصور، وكان معظمها من السنّة، وجرى تقاسم السلطة على أساس طائفي. ووفقاً لذلك النظام وزعت المناصب في الدولة على الطوائف الدينية الثمانية عشر المعترف بها رسمياً ويمثلها أعضاء في مجلس النواب اللبناني حالياً.

لبنان "بلد لأقليات طائفية متشاركة"

كان لا بد من خلق نظام سياسي يتناسب مع هذا الموزاييك الطائفي، فجرى اعتماد ما يعرف بـ "الديمقراطية التوافقية"، وفي كتابه "أنماط الديمقراطية" يعرض أستاذ العلوم السياسية والمتخصِّص في السياسة المقارنة، أرند ليبهارت، أن الديمقراطيات التوافقية تظهر في المجتمعات المنقسمة على نفسها بسبب الوضع الإثني أو الديني والطائفي أو اللغوي. وهي وسيلة تلجأ لها النخب المختلفة للتوصل إلى صيغة تعايش بين مكونات المجتمع.

وهكذا ولدت الجمهورية اللبنانية الأولى التي كانت مثالاً للعيش المشترك، وعن هذا يقول واضع دستور استقلال لبنان عام 1926 المفكر ميشال شيحا، "لبنان بلد لأقليات طائفية متشاركة". أنهت الحرب الأهلية "الميثاق اللبناني" غير المكتوب، الذي اتفق عليه عام 1943، بين أول رئيسي للجمهورية والوزراء بعد الاستقلال بشارة الخوري ورياض الصلح، والذي قام على أساس الحياد، أي "لا شرق ولا غرب"، أي لا وحدة مع سوريا ولا لحماية فرنسا، والذي نعى فيه الوزير والصحافي السابق جورج نقّاش، في مقاله الشهير "سلبيتان لا تصنعان أمة"، لبنان بمسلميه ومسيحييه الذين لم يتمكنوا من الاتفاق يوماً على مفهوم للوطن الواحد، كان ذلك في شهر مارس (آذار) 1949.

 

 

 

 

حرب أهلية أو انقسام عقائدي؟

في دراسة نشرت على موقع E.International Relations البريطاني، بعنوان "شبح الصراع: تشكيل الطائفية اللبنانية وسياسات الهوية"، تفيد بأنه لدى تشكيل الجمهورية العربية المتحدة (وهو الاسم الرسمي للوحدة بين مصر وسوريا) عام 1958، أرادت العناصر الدرزية والسنية الانضمام إلى الجمهورية سعياً وراء الطموحات القومية العربية التي وضعها جمال عبد الناصر، بينما عارض المسيحيون والرئيس كميل شمعون في ذلك الوقت، وتلقوا المساعدة من سلاح مشاة البحرية الأميركية لإعادة الوضع القائم. سرعان ما جرت مشاركة الجهات الأجنبية في لبنان المُجزأ إلى صراع مع الاحتلال الإسرائيلي.

مرةً أخرى، سيؤيّد السنة والدروز "منظمة التحرير الفلسطينية" من خلال فصيلها اللبناني "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" ضد الاحتلال الإسرائيلي، لكن قوبل ذلك بمعارضة من قبل المسيحيين والشيعة. ونتيجة لذلك، استخدم المسيحيون الموارنة التنظيم شبه العسكري المعروف باسم حزب "الكتائب اللبنانية" والذي ساعد في اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 من خلال هجمات ضد فصيل "منظمة التحرير الفلسطينية"، وقد رعت هذه الهجمات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA، بعد أن سلمت الأسلحة إلى حزب "الكتائب اللبنانية" في أوائل السبعينيات من القرن العشرين.

كانت رسالة حزب "الكتائب" المتناقضة هي استبعاد النفوذ العربي والسوري في لبنان، لكنها قبلت التدخل السوري عام 1976. وفي الوقت نفسه، هاجم الحزب إياه ميليشيات مسيحية أخرى -مثل طوني فرنجية وهو سياسي بارز أسس "ميليشيات المردة"، مما يدل على أن الصراع كان خارج القضايا الدينية والذي يدعم مفهوم أن الطائفية لها أشكال مختلفة، ومع ذلك، فعلى رغم أن حزب "الكتائب" سمح لسوريا بالتدخل عام 1976، فقد دعم عملية "الليطاني" الإسرائيلية، أو حرب جنوب لبنان 1978 وهو اسم الحملة العسكرية التي قام بها الجيش الإسرائيلي على جنوب لبنان واحتل خلالها الأراضي اللبنانية حتى نهر الليطاني، بهدف القضاء على عناصر منظمة التحرير. يؤكد هذا الأمر شيئين: أولاً وقبل كل شيء، الحفاظ على الطائفية بسبب افتراضات "الجذور التاريخية"، ومع ذلك لم يكن الأمر مجرد تقسيم ديني لأن مشاركة الجهات الفاعلة المتعددة تظهر أن البراغماتية، والتي تقوم على أن الأثر العملي هو المُحدِّد الأساسي في صدق المعرفة وصحة الاعتقاد بالحياة الاجتماعية للناس، غالباً ما تسود لتحقيق مكاسب سياسية إضافية، وثانياً، تُظهر هوية وسلوك الجهات الفاعلة المحلية انقسام المجتمع اللبناني، إضافة إلى نمط التغيير الآخذ في التطور والتغيّر، حيث تتشكل مصالح الجهات الفاعلة باستمرار. ويؤكد هذا مدى ضعف الدولة اللبنانية، وكذلك يوضح أن التقارير البدائية أقل شأناً من التحليلات الذرائعية وما بعد الثقافية. وفقاً لدراسة الموقع.

 

 

اتفاق الطائف – الجمهورية الثانية

وبعد الغزو الإسرائيلي الثاني، دخل لبنان حالة حرب في الفترة 1983-1990، حيث قادت القوات الخارجية المشهد. وأدى التهميش السياسي المستمر والإقصاء الاقتصادي للمجتمع الشيعي إلى تغذية المتطرفين من الشيعة وأدى إلى ظهور عناصر جديدة وهي منظمة "حزب الله" المؤيدة لإيران وهو ما ذكره العديد من المؤرخين والمحللين بمن فيهم جون لافين وماكس فايس وباسل صلوخ. وقد تم ضمان موقفها المؤيد لإيران بسبب الدعم المقدم من طهران، لكن لم يكن بوسع الدولة السيطرة على جميع جوانب المنظمة. ولذلك، فإن تورط القوى الفاعلة من غير الدول وزيادة صلاحيتها تؤكد أنها ميراث للطائفية الاستعمارية متحولة عن الصراع التقليدي بين الدول.

أدى التدخل الخارجي المستمر، وكذلك التحديات الداخلية من عام 1983 فصاعداً إلى تحويل الدولة اللبنانية. ومع وجود العديد من الكيانات التي انخرطت في الحرب الأهلية، فقدت الدولة احتكار العنف المشروع. بحلول عام 1984، كان الجيش الذي تسيطر عليه الحكومة عاجزاً، في حين اغتيل الرئيس المنتخب بشير الجميل، ودمر "حزب الله" السفارة الأميركية في بيروت عام 1983، فشلت الانتخابات في انتخاب رئيس دولة عام 1988، وأدت إلى حدوث تنافس سياسي في مناطق أخرى.

كان الرد على عدم الاستقرار هو "اتفاق الطائف" عام 1989، الذي دخل حيز التنفيذ عام 1990. كانت هذه الوثيقة أكثر من مجرد استجابة للتنافس السياسي، فقد دعت إلى إعادة هيكلة الطائفية في لبنان بمشاركة دولية. وأبقت على الرئيس الماروني لكنه خضع لحق نقض "فيتو" سُنِّي، وكان على مجلس النواب أن ينقسم بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين. كانت هذه محاولة للتأكيد على هوية عربية موحدة، لكن كل ما حققته بالفعل هو ضمان الهيمنة الأجنبية في لبنان.

على سبيل المثال، أعطيت سوريا "علاقة خاصة" مع لبنان وسمح لها بالتدخل في مسائل الأمن القومي، ودائماً وفقاً لدراسة الموقع البريطاني. وكان أن أعلن اتفاق الطائف 1989 عن ولادة الجمهورية الثانية، وعليه انتهت الصيغة الثنائية موارنة -سُنّة، مقابل الترويكا موارنة – سُنّة – شيعة.

"التقسيم هو الحل"

واعتبر تقرير لمجلة "فورين بوليسي" الأميركية نشر في 18 سبتمبر (أيلول) 2020 بعنوان "التقسيم هو الحل لكل مصائب لبنان"، أن لبنان ارتكب خطأً فادحاً بالحفاظ على النظام الطائفي وفكرة المحاصصة في المناصب، لأنه بمرور الوقت، سيطر "حزب الله" الموالي لإيران على الدولة، وحرمت هيمنته على مفاصل الدولة اللبنانيين من غير الشيعة من حقوقهم، مؤكدة أنه حان الوقت لإعادة النظر في هذا النظام والاعتماد على نظام الحكم الفيدرالي.

وفي أعقاب انتخابات 2018، ونجاح تحالف "حزب الله" والرئيس اللبناني السابق ميشال عون، ابتهج الحزب بالنتائج كثيراً، ونشر نشطاء شيعة مقاطع فيديو على موقع "يوتيوب" وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي يثنون على "حزب الله"، ويقولون إن الوقت قد حان لحكم لبنان... تلك التطورات دفعت ببعض اللبنانيين ليتحدثوا عن الفيدرالية كخيار لضمان سلامتهم على المدى الطويل، على رغم عدم وضوح كيفية عمل ذلك في مجتمع طائفي مثل لبنان، بخاصة بعد معارضة "الحزب" لهذه الفكرة.

 

ويحتل هاشتاغ "الفيدرالية هي الحل"، صفحات رواد مواقع التواصل الاجتماعي. وتمظهر هذا عبر مؤتمر "العقد الجديد من نظام الطائف إلى النظام الفيدرالي"، والذي نظمه ما يعرف باسم "المؤتمر الدائم للفيدرالية"، وعقد في يناير (كانون الثاني) الماضي، ويدعو المؤتمر إلى ضرورة الانتقال إلى نظام يرتكز على الأسس الديموغرافية - الجغرافية حفاظاً على الكيان ومنعاً للتقسيم.

وكان رئيس "القوات" سمير جعجع أعلن، أن استمرار الوضع على ما هو عليه غير مقبول ولا معقول، تماماً كما ‏إمكان التجاوب مع وصول رئيس ممانع نتيجة الأمر الواقع القائم. ودعا لإعادة النظر بهذه التركيبة من دون ‏تردد، من دون تصوير الأمر على أنه انقلاب على اتفاق الطائف الذي لم يطبق منذ 33 ‏سنة".

وفي مؤتمره الـ 32، أعلن رئيس حزب "الكتائب" سامي الجميل أن "المطلوب تغيير الأسلوب والمساومات والتوحد كعلمانيين وطائفيين... لهذا السبب وانطلاقاً من هنا ومن هذه اللحظة نقول إننا لسنا مستعدين للخضوع لإرادة حزب الله في لبنان، وندعو كل اللبنانيين لتحمل مسؤولياتهم. ونقول للحزب، نحن غير مستعدين للاستمرار بهذا الوضع، وإذا كان المطلوب الطلاق بين الجمهوريتين فليعلنها، ولكن لن نقبل أن نعيش كمواطنين درجة ثانية ولن نخضع، سنبقى هنا وسنواجه جميعاً مع بعضنا البعض".

في المقابل، قال رئيس التيار "الوطني الحر" جبران باسيل، وفي رد منه على حليفه "حزب الله" لمشاركته في جلسة حكومة تصريف الأعمال، "مش ماشي الحال أبداً، ويجب البدء جدّياً باللامركزية الموسعة، إن لم يكن بالقانون بعد 30 سنة من الطائف، نبدأها على الأرض".

وفي هذا الصدد، دائماً ما راودت طائفة الدروز من جبال لبنان إلى مناطق الدروز في سوريا، أفكار وخيالات الانخراط في الأمن الذاتي والبقاء على الحياد في الوقت نفسه، أو تطلعوا إلى إنشاء مناطق عازلة فعلية تضمّنها القوى الإقليمية، سعياً إلى الحفاظ على الطائفة والبقاء على قيد الحياة. وبعد انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) 2019، قال وليد جنبلاط زعيم الطائفة الدرزية "الجبل على مشارفِ الجوع. الجبل ولبنان. لكن يهمّني الجبل".

 

 

 

اليمن... الحلم والكابوس والنزعات الانفصالية

وفي اليمن المنشغلة بمشكلاتها المركبة يستمر النزاع الذي ينذر بأمد طويل للصراع الذي يتخذ أبعاداً متعددة من أهمها النزعات الانفصالية والدعوة إلى فصل جنوب اليمن عن شماله، حتى باتت أبرز قضية تتحكم في ترمومتر البلاد ومستقبلها السياسي.

وعلى رغم تبعات الانقلاب الحوثي الدامي على العاصمة اليمنية صنعاء في سبتمبر (أيلول) 2014، والتدخل العسكري للتحالف العربي بقيادة السعودية في 2015 دعماً للحكومة الشرعية، إلا أن دعوات "استعادة الدولة" لم تختف في صورة مشهد الحرب الملتهب، إذ أعادت مجريات الأحداث المطالب التي ظهرت في 2007 للواجهة وشكلت جملة من المتغيرات في علاقة الحكومة المركزية "الشرعية" مع الجنوب والقوى التي تدعي أنها الممثل الحصري أبنائه و"قضيتهم العادلة".

تجاهل وتصاعد

ومنذ نشوئها تراوحت هذه المطالب بين رد المظالم والإنصاف ووقف سياسات الإقصاء والاستحواذ والإبعاد والتهميش ولكن في إطار دولة يمنية موحدة، إلا أن عدم المعالجات الحقيقية للقضية التي تمثل "المدخل الرئيس لحل القضايا الوطنية كافة"، بحسب وصف رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، دفع إلى رفع سقف الاحتجاجات التي باتت ظاهرة وضاغطة نحو استعادة "جمهورية اليمن الديمقراطية" المستقلة، التي كانت قائمة قبل اتفاق الوحدة اليمنية وإعلان الجمهورية اليمنية (الموحدة) في مايو (أيار) 1990 بعد ماراثون طويل من المفاوضات "تتويجاً لمبادئ ثورتي الـ26 من سبتمبر (أيلول) 1962 ضد حكم الأئمة في الشمال، والـ14 من أكتوبر (تشرين الأول) 1967 ضد الاحتلال البريطاني في الجنوب" خلصت إلى اتفاق بين رئيسي الشطرين حينها علي عبدالله صالح (شمال) وعلي سالم البيض (جنوب).

 

 

غير أن "المنجز الوطني" الذي ظل يحلم به اليمنيون تحول إلى إشكال عميق بفعل خلافات نشأت عقب الوحدة بين قيادات الائتلاف الحاكم، وتزايد الشكوى الجنوبية مما يصفونه "سياسات التهميش والإقصاء والإلغاء الممنهجة" التي تمارسها سلطات الشمال اليمني، ودخول مسؤولي البلدين ممثلين بالحزبين الحاكمين "المؤتمر الشعبي العام" يسانده "حزب الإصلاح" ذو المرجعية "الإخوانية" من جهة، والحزب الاشتراكي من جهة أخرى، في أزمة سياسية عاصفة انتهت بإعلان الحرب الأهلية التي استمرت نحو ثلاثة أشهر صيف عام 1994، وانتهت باجتياح القوات الشمالية مدينة عدن (عاصمة الجنوب اليمني قبل الوحدة) وبقية المحافظات الجنوبية تحت شعار الشرعية والحفاظ على اللحمة الوطنية ومجاهدة المد الشيوعي والإلحاد بفتاوى دينية لا تزال تثير السخط الشعبي في تلك المناطق حتى اليوم.

نهضة الحراك الجنوبي

عقب سنوات من السيطرة على الجنوب وقمع الأصوات التي تتحدث عن مجرد دولته السابقة، برزت الاحتجاجات الجنوبية الشعبية التي عرفت لاحقاً اصطلاحاً بالحراك الجنوبي في عام 2007، وبدأت بتنظيم مسيرات وإضرابات للمطالبة بحقوق الجنود والموظفين الجنوبيين الذين جرى تسريحهم من الخدمة مستمدة مرجعيتها من النتائج التي آلت إليها الحرب الأهلية في عام 1994، حين ألحقت قوات علي عبدالله صالح الهزيمة بالانفصاليين بقيادة علي سالم البيض، بعد إعلانه "فك الارتباط" في مايو (أيار) من ذلك العام.

وفي أعقاب ذلك قام صالح بنزعة المنتصر الذي يملي الأوامر، بتسريح عشرات الآلاف من عناصر الجيش وموظفي الخدمة المدنية الجنوبيين، مما أوجد حال سخط عارمة لم تنفع معها المعالجات المحدودة المتخذة من صالح نفسه قبل أحداث 2011 خلال ما يعرف بالربيع العربي.

تطور منظم

تطور العمل السياسي الجنوبي وتمخض عنه إنشاء تشكيلات عدة كل منها يدعي حمل "القضية الجنوبية"، لعل أبرزها الجبهة الوطنية للمعارضة الجنوبية التي أسسها عبدالرحمن الجعفري في عام 1994، وحركة تقرير المصير (حتم) التي أنشأها عيدروس الزبيدي (رئيس المجلس الانتقالي) في عام 1995، وحركة إصلاح مسار الوحدة التي تأسست في عام 1996 على أيدي قادة الحزب الاشتراكي اليمني، الحزب الحاكم سابقاً في جنوب اليمن والمجلس الوطني الأعلى لتحرير واستعادة دولة الجنوب المستقلة، والهيئة الوطنية لاستقلال الجنوب، والهيئة الوطنية للنضال السلمي الجنوبي، ومجلس قيادة الثورة السلمية لتحرير الجنوب وغيرها.

 

 

وفي عام 2007 تولت جمعية ردفان لإطلاق مبادرة التسامح والتصالح بهدف توحيد جهود القادة الجنوبيين قابلها نظام صالح بالإغلاق ومطاردة مؤسسيها. تطورت الاحتجاجات في حين ظل صالح يصفهم في خطاباته بـ"الأدوات المأجورة الحالمة بعودة الماضي والتشرذم"، وبحلول عام 2008، برزت الأصوات المطالبة باستعادة الدولة الجنوبية وفك الارتباط.

في المقابل أوردت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقرير لها أن قوات الأمن العام والأمن المركزي اليمني على الأخص لجأت إلى ارتكاب انتهاكات موسعة لحقت بالجنوب، منها القتل غير القانوني والاحتجاز التعسفي والضرب وقمع حريات التجمع والتعبير واعتقال الصحافيين وآخرين.

هذه الانتهاكات أدت إلى خلق أجواء من الخوف، لكنها أيضاً زادت من ضيق الجنوبيين وإحساسهم بالغربة، على اعتبار أن الشمال يستغلهم اقتصادياً ويهمشهم سياسياً. وأفلتت قوات الأمن من العقاب جراء الهجمات غير القانونية ضد الجنوبيين، مما زاد من المشاعر الانفصالية في الجنوب وألقى بالبلاد في دوامة من القمع والاحتجاجات، أدت بدورها إلى مزيد من القمع.

سالت الدماء

تطورت الاحتجاجات إلى منحنى خطر يكشف عن إشكال عميق يهدد النسيج اليمني الذي عرف بتعايشه المشترك على امتداد تاريخه عندما بلغت حد المواجهات المسلحة الدامية، وكان منها سلسلة من الأحداث في الضالع وأبين والمكلا.

ومع اندلاع احتجاجات "ثورة الشباب" التي عمت معظم المدن اليمنية مطلع عام 2011 مطالبة برحيل الرئيس وإسقاط النظام، أعلنت بعض فصائل الحراك وقف مطالب الانفصال بشكل موقت، والانضمام إلى التظاهرات والاحتجاجات التي تعم البلاد، في حين رفضت فصائل أخرى هذا البيان مؤكدة استمرار مطالبتها بالانفصال.

لماذا لم يتم؟

تعترض دعوات الانفصال والنزعات الانفصالية على عدد من العوامل التي تحول دون إكمال مشروع الانفصال من أبرزها التباينات بين المكونات الجنوبية نفسها، والضغط المحلي والدولي الذي تمارسه قوى شمالية وحتى جنوبية في إطار الحكومة الشرعية التي ترى أن الانفصال خيانة لمبادئ ونضالات الشعب اليمني والشرعية الدستورية التي جرى بموجبها الوحدة، متضمنة حلولاً في إطار هذه الوحدة والبلد الواحد مثل إعطاء صلاحيات بحكم محلي واسع أو كامل في نطاق دولة اتحادية أو فيدرالية كالتي طرحها مؤتمر الحوار الوطني في عام 2014 الذي دعت مخرجاته إلى إقامة دولة اتحادية من ستة أقاليم، اثنان منها في الجنوب، وأربعة في الشمال.

 

 

سوريا... "أجانب الحسكة"

ضمت سوريا الدولة الحديثة عام 1920 مناطق كردية في حدودها الشمالية التي تحددت بخط سكة أقطار الشرق السريع الواصل بين بغداد وبرلين، وارتبطت الكتلة السكانية الكردية مع أرضها التاريخية جنوب الخط الحديدي بسوريا، ومع صعود النفس القومي في المنطقة تأسست جمعية "خويبون" أو الاستقلال عام 1927 في بيروت التي رفعت مطالب قومية كردية وتبنت علماً خاصاً بالأمة الكردية، إذ تشكلت الجمعية من زعماء كرد من سوريا وتركيا وبعضهم قاد وشارك في انتفاضات مسلحة ضد الدولة التركية الحديثة وقتها.

في سنوات الانتداب الفرنسي على سوريا كان الحراك السياسي الكردي واضحاً مع ما عرفت بالكتلة الوطنية والتوجهات السياسية النخبوية لكن لم ينل الأكراد أي اعتراف بوجودهم في دستور البلاد بعد الاستقلال، ليتشكل أول حزب كردي (الحزب الديمقراطي الكردي  في سوريا) عام 1957 الذي يعتبر الحزب الأم للحركة السياسية الكردية في البلاد، الذي رفع هو الآخر مطالب قومية وثقافية خاصة بالكرد وإدراجها في دستور البلاد، لكن تلك المطالب جوبهت دائماً بإجراءات أمنية مشددة من الحكومة المركزية في دمشق، إذ اعتقلت نشطاء وقياداته وحكموا بمدد مختلفة بهدف وأد تلك المطالب وإنهاء الحراك السياسي الكردي.

مشاريع لتغيير الديموغرافيا 

انتقلت الحكومات المركزية القومية في سوريا سريعاً من الإجراءات الأمنية إلى مشاريع واتخاذ قرارات على مستوى الدولة في مواجهة الكرد، إذ جرد نحو 130 الف شخص كردي من الجنسية السورية وأحصتهم كأجانب وعرفوا بـ"أجانب الحسكة" في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) 1962 وهؤلاء فقدوا بذلك جميع حقوقهم المدنية في البلاد وأصبحوا على هامش الحياة في البلاد، فلم يستطع المجردون من الجنسية إكمال دراستهم أو الالتحاق بالوظائف الحكومية أو الانتساب إلى سلك الشرطة وقوى الأمن والقوات العسكرية ناهيك عن عدم السماح لهم بتسجيل ممتلكاتهم في السجلات الرسمية.

ومع وصول حزب البعث إلى السلطة عبر الانقلاب العسكري عام 1963، بدت السياسات التمييزية أكثر وضوحاً تجاه الكرد، إذ شرعت الحكومة بتنفيذ مشروع في تغيير الخريطة السكانية في شمال شرقي سوريا عبر ما عرف بالحزام العربي الذي أقامته الحكومة السورية في 1975، ويقول عنه الكاتب الصحافي عباس علي موسى إن هذا المشروع يعد أحد المشاريع التمييزية ضد الكرد في سوريا بخاصة كرد الجزيرة.

 

 

وهدف المشروع إلى التعامل مع الكرد كعناصر أجنبية تخريبية وأنهم سيقومون بجلب الويل إلى سوريا، ونفذ المشروع الجديد في حزام سكاني بطول نحو 300 كيلومتر، وعمق تراوح ما بين 10 إلى 15 كيلومتراً، وامتد من ريف مدينة ديريك وحتى غرب مدينة سري كانيه (رأس العين).

وبلغ عدد العوائل المستقدمة من العرب حوالى 4 آلاف أسرة وعائلة من ريف الرقة وحلب. وشيدت لهم 40 قرية نموذجية مستحدثة عبر دمج عقارات من قرى بأكملها وأجزاء منها، مع إطلاق هذه التسميات المعربة عليها ومحو الأسماء القديمة من السجلات. وبلغ عدد القرى الكردية المتضررة 335 قرية بتعداد سكاني تجاوز حينها 150 ألف نسمة.

انتفاضة الـ12 من آذار

بقيت السياسات التمييزية مستمرة لدى الحكومات السورية على مدى عقود وكان يوازيها حراك سياسي مدني يصفه الساسة الكرد في سوريا بالنضال اللاعنفي والمدني، حتى الـ12 من مارس (آذار) 2004 إذ وقعت أحداث شغب داخل ملعب مدينة القامشلي، وحينها بدأت الشرطة وقوات الأمن السوري بقتل عدد من المشجعين الأكراد، ليتحول اليوم التالي من المباراة إلى تظاهرات شعبية كردية في جميع المدن الكردية بما فيها الأحياء التي يقطنونها في مدينتي دمشق وحلب، وعلى إثرها تعاملت السلطات الأمنية بعنف مع المتظاهرين، إذ قتل نحو 30 شخصاً بالرصاص الحي، وآخرون تحت التعذيب أثناء الاعتقال، واعتقل آلاف من الشباب والناشطين الكرد لمدد مختلفة وصلت إلى أكثر من سنة عرفياً، كما فصل عدد من الطلبة من دراساتهم الجامعية.

وبعدها زادت الحكومة من التضييق على المناطق الكردية عبر إصدار مراسيم وقرارات أسهمت في هجرة آلاف العائلات إلى الداخل السوري بحثاً عن لقمة العيش.

مع بدء الاحتجاجات الشعبية في سوريا في مارس (آذار) 2011 كان الشارع الكردي جاهزاً للانضمام لتلك التظاهرات مع رفع شعارات تطالب بحقوقهم القومية والسياسية، بما فيها أن تكون سوريا بلداً فيدرالياً بعيداً من المركزية.

أول تشكيل عسكري كردي

سرعان ما تحولت الاحتجاجات الشعبية إلى صراع مسلح بين السوريين وبقيت المناطق الكردية حتى صيف 2012 بعيدة من الصراع المسلح إلى أن بدأت فصائل تابعة للجيش السوري الحر بالرغبة في السيطرة على تلك المناطق التي تشكل أطراف الدولة ومصدراً للموارد الزراعية والطبيعية.

وتشكلت وحدات حماية الشعب ذات التوجه اليساري والمحسوبة على حزب الاتحاد الديمقراطي، وهي أول تشكيل عسكري في تاريخ أكراد سوريا، إذ أعلنت أنها ستحمي المنطقة بمكوناتها المختلفة بما في ذلك أحياء كبرى في مدينة حلب حيث يوجد فيها الكرد الذين يشكلون امتداداً اجتماعياً واسعاً مع منطقة عفرين الواقعة شمال غربي المدينة.

دخلت الوحدات الكردية في صراع مع تلك الفصائل أحياناً ومع القوات الحكومية أحياناً أقل، لكن كثر نشاطها في مواجهة تنظيم "داعش" لتأسس مع فصائل مسلحة عربية أخرى في مناطقها تحالفاً عرف باسم قوات سوريا الديمقراطية، وخاضت أشرس المعارك بدعم من التحالف الدولي المشكل حديثاً في كوباني والرقة وانتهاء بالباغوز في مارس 2019.

ولاحقاً كانت عرضة لعمليات عسكرية تركية في شتاء 2018 وخريف 2019 لكن هذه القوات كانت على الدوام تعلن مع جناحها السياسي "مسد" أنها تكافح من أجل سوريا تعددية لا مركزية بعيداً من أي مشاريع انفصالية على رغم ارتفاع حدة اتهامها بذلك خصوصاً من تركيا وأطراف من المعارضة السورية وأحياناً من النظام السوري وحليفه الروسي إرضاء لمسار أستانا الذي يجمع كلاً من إيران وروسيا وتركيا.

المزيد من تحقيقات ومطولات