بعد أشهر قليلة من الآن، وربما طوال العام المقبل 1924 من المؤكد أن جزءاً كبيراً من الحياة الفنية الفرنسية سيعيش تحت ظل تلك اللوحة التي نعرف جميعاً الآن أنها كانت العمل الفني الذي افتتح قبل 150 سنة من اليوم، حتى وإن كان كلود مونيه أنجزها في خريف 1873، كل تلك الحداثة الفنية التي أطلقها معرض أقيم حينها في دارة المصور الفوتوغرافي نادار وسط العاصمة الفرنسية ولم يكن أحد قد جرؤ بعد على إطلاق أي اسم عليه ولا على تلك اللوحة. وكانت اللوحة من رسم كلود مونيه الذي لم يكن ليتطلع لا إلى أن يؤسس بها تياراً ولا إلى أن يعير عنوانها ذلك التيار اسمه. تماماً كما أنه لا هو ولا أي واحد من زملائه المشاركين في المعرض يومها كان يتطلع إلى أن تكون للاسم الإجمالي الذي أطلق على التيار، وهو التيار الانطباعي، امتدادات كأن يصبح ثمة ما هو بعد الانطباعية... وما إلى ذلك. كل ما في الأمر أن مونيه وزملاءه بيسارو ومانيه ورينوار وسيسلي وحفنة غيرهم لم يصل تألق أسمائهم إلى تألق هؤلاء، لم يكونوا يسعون إلى أكثر من أن يجددوا في حياة فنية كانت الرومانطيقية وما بعد الكلاسيكية والتيارات الفنية الأخرى قد تآكلتها وجمدتها، ثم إن العنوان نفسه الذي أطلق على اللوحة الأولى تلك جاء به صحافي مناوئ للفن الجديد أطلقه على سبيل السخرية لا أكثر "انطباع... شمس مشرقة" فإذا بالاسم يروق للعارضين ولجمهورهم ويلتصق بالرسامين المشاركين جميعاً وبفنهم.
القواعد نفسها دائمًا
حدث ذلك إذاً في بدايات ربيع عام 1874، حين - وربما من دون تنسيق مسبق - تجمع أولئك الفنانون الأصدقاء في بيت نادار ليعرضوا لوحات بدا القاسم المشترك بينها واضحاً إلى حد كبير وإنما عشوائي أول الأمر: تصوير الطبيعة سواء كانت ريفية أو مدينية ميدانياً وليس داخل المحترفات، النهل من الطبيعة نفسها باستخدام ألوان مشعة ذات حيوية تتناقض مع "جمودية" الألوان الكلاسيكية، الابتعاد عن المواضيع التاريخية أو الأسطورية. صحيح أن عدداً من الفنانين الانطباعيين سيخرقون هذه القواعد دائماً لكن الأسس ستظل هي هي. وتلك الأسس الموضوعية والجمالية ستحكم مئات بل ألوف اللوحات التي انتمت إلى تيار سرعان ما وجد نفسه يتمدد حتى إلى بلدان بعيدة جداً عن "بلد المنشأ" ويتواصل في الزمان لأطول فترة زمنية عاشها تيار فني على مدى التاريخ، ناهيك بأن القيمة المادية للوحات سترتفع عاماً بعد عام مع استشراء التيار وتزايد شهرة انطباعييه وتفاقم الدور الذي راح يلعبه جامعو اللوحات إضافة إلى التطورات المدهشة التي طاولت التيار نفسه. غير أن هذا كله لم يكن مآل تلك اللوحة الأولى "المؤسسة" التي احتاجت إلى وقت طويل جداً قبل أن تستعيد مكانتها في السياق التاريخي للحياة الفنية.
أسماء لا تحصى
فلئن كانت لوحة مونيه قد ارتضت بـ"العنوان الساخر" الذي أطلقه عليها ناقد يدعى لوي ليروا منذ افتتاح معرض 1874، واعتبرته رمزاً للتيار بأسره، فإن الاسم سرعان ما انتزع منها ليصبح عنوانها الجديد حيناً "انطباعات"، وحيناً "أشعة الشمس على سطح نهر التايمس" - من دون أن تكون لنهر التايمس الإنجليزي أية علاقة باللوحة طبعاً! - و"انطباع شمس تغرب"، أو حتى "أثر الضباب... انطباع"، ناهيك بأنها سميت في أحد المعارض "انطباع يمتلكه الجامع بيليو" وهو الذي كان قد اشترى اللوحة بـ210 فرنكات عام 1874! وما إلى ذلك ودائماً في معرض الإمعان في السخرية، فإن ذلك كله قد انعكس في القيمة المادية للوحة التي بعدما بيعت خلال المعرض بـ800 فرنك كواحدة من أرخص لوحاته ثمناً بينما كان ثمة في المعرض نفسه لوحات لرسامين لم يسمع باسمهم أحد بصورة جدية بعد ذلك، بيعت بمبالغ تصل إلى ألوف الفرنكات لكل لوحة، عاد سعرها وانخفض إلى 210 فرنكات في المزاد التالي... ثم راح سعرها يتذبذب بشكل غريب حتى كانت بدايات القرن العشرين وإعادة اكتشافها من جديد. وطبعاً يمكننا أن نعرف اليوم أن قيمة هذه اللوحة تفوق قيمة كل اللوحات التي نافستها في تلك الأزمنة المبكرة.
نحو نجومية الاحتفال
وكي نعطي فكرة عن هذا الارتفاع الذي استغرق لوحة مونيه قرناً ونيفاً لتحقيقه يمكننا أن نشير منذ الآن إلى أن "انطباع... شمس مشرقة" ستكون نجمة احتفالات العام المقبل بالذكرى 150 لولادة الانطباعية، حتى وإن كان متحف "مونيه - مارماتون" الواقع وسط العاصمة الفرنسية قد استبق ذلك كله بتنظيمه، في خريف عام 2014 معرضاً يدور من حول اللوحة نفسها بعنوان "انطباع شمس مشرقة: الحكاية الحقيقية لتحفة كلود مونيه" يعتبر أكبر تكريم أقيم للوحة وصاحبها منذ البداية، وكان مناسبة لعودة الانطباعية والانطباعيين إلى مركز الصدارة في الحياة الفنية الفرنسية والأوروبية، كما مناسبة لصدور عشرات الكتب والكاتالوغات التي كشفت من جديد عن أهمية تلك الحركة الفنية وامتداداتها وتشعباتها، بل مناسبة أيضاً لاستعادة ذكرى كبار الجامعين الذين أسهموا في المكانة التي احتلتها الحركة في تاريخ الفن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يغب عن الواجهة
ويعود هذا بنا إلى ذلك التيار الذي لا يمكن القول على أية حال أنه قد غاب ولو عاماً واحداً عن واجهة الحياة الفنية لا في فرنسا طبعاً ولا في العالم، بل على العكس ها نحن أولاء وبشكل يكاد يكون متواصلاً نعيد اكتشاف انطباعيين آخرين، غير نصف الدزينة الكبار منهم الذين نالوا دائماً حصة الأسد من المكانة والشهرة - على رغم تخلي معظمهم عن قوانينها المؤسسة في مرحلة أو أخرى من سعيهم الفني، لكن هذا موضوع آخر بالطبع لن نخوض فيه هنا. فإذا كان تاريخ الفن قد وسع من تنويعه على قوانين الانطباعية ليضم إليها ما - بعد - انطباعيين كفان غوخ وغوغان، وليضم بين مؤسسيها، كما بين مؤسسي التكعيبية أيضاً، سيزان الذي مكنته انتقائيته من أن يحسب على تيارات متعددة بل متناقضة أحياناً، و"تنقيطيين" مثل سينياك وسورا، وسامح حتى إدوار مانيه على "إفراطه" في استخدام اللون الأسود - آتياً به من تأثره بالفن الإسباني - الذي كان عدو الانطباعية اللدود، فإنه، أي ذلك التاريخ استعاد مثلاً كايبوت الذي كان ينظر إليه عند بدايات القرن العشرين كمجرد ثري يشتري لوحات رفاقه دعماً لهم ليكشف عنه انطباعياً كبيراً على طريقته الخاصة، بل كانطباعي عرفت لوحته الكبرى "جسر أوروبا" كيف تفوق قيمتها قيمة "انطباع... شمس مشرقة" ومن بعيد. وها هو ذا الآن يستعاد كانطباعي كبير منذ عقود قليلة إنما بعد أن سمت قيمة مونيه على قيمته أضعافاً مضاعفة. وطبعاً لا يمكننا أن نواصل رسم هذه الصورة عشية الذكرى التي تحدثنا عنها، ولكن في المقابل لا بد من التساؤل بعد كل شيء عما هو ذلك التيار في الأساس.
جوهر الفن
بكل بساطة، وفي ارتباط من كثب بالطبيعة يمكننا أن ننطلق من القول إن التيار قد انطلق من سؤال فحواه: كيف يمكن للفن أن يعبر عن الحركة المتواصلة للطبيعة وعن تدفق عناصر هذه الطبيعة مع اعتبار الإنسان جزءاً منها، بالتالي عن ديناميات الحياة الحديثة، وذلك بعيداً من التصنع والإضاءة الداخلية كما بعيداً من التمهيد للوحة برسوم مسبقة وما إلى ذلك. إنه بالنسبة إلى الانطباعيين، الفن في نقائه الأول وتلقائيته وألوانه المكثفة لألوان الطبيعة والواقع، أكثر مما هي مكثفة لمبدأ التعبير عن الأفكار والحوادث المعروفة أو غير المعروفة. ويقيناً أننا مهما قلبنا في تاريخ هذا التيار وتشعباته، وحتى تشعبات ضروب "الخيانة" التي مارسها عديد من أقطابه، سنجد أنفسنا دائماً أمام تلك القواعد التي أسسها السؤال الذي طرح منذ البداية. ولا شك أنها قواعد تنطبق بقوة على التيار لكنها تنطبق أيضاً على جوهر الفن الحقيقي كما حلم به المبدعون والمفكرون منذ فجر التاريخ ومن هنا كانت بديهية تيار عرف كيف يلتقط جوهره في لحظة ملائمة تماماً فخلق فناً لا ينسى.