Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المدن السودانية تزدهر ثقافياً في مواجهة الحرب الأهلية

لجأ إليها عدد كبير من الكتاب والفنانين هرباً من معارك العاصمة التي طالما لعبت دور المركز

ندوة "سودان ما بعد الحرب" في منتدى "شروق" (اندبندنت عربية)

ملخص

لجأ إليها عدد كبير من الكتاب والفنانين هرباً من معارك العاصمة التي طالما لعبت دور المركز 

ما لم يتوقعه أحد، هو أن تعيد حرب الخرطوم، التي اندلعت بين الجيش وقوات "الدعم السريع" في الخامس عشر من أبريل (نيسان) الماضي، إلى المدن السودانية الأخرى اعتبارها، ليس اقتصادياً واجتماعياً فحسب، بل ثقافياً وفنياً. وقدم عدد من الكتاب والمبدعين والفنانين إلى المدن التي لم تطلها الحرب، هروباً من حرب العاصمة السودانية، التي ظلت طوال عقود مركزاً، ليس سياسياً واقتصادياً فحسب، بل فنياً وثقافياً أيضاً. ومع موجات النزوح التي اجتاحت المدن السودانية المختلفة، دفعت الحرب عدداً كبيراً من المبدعين السودانيين ممن مثلت لهم العاصمة سكناً وحياة، للانتقال إلى مدن طالما شكت من استحواذ العاصمة على جل الحراك الثقافي والفني في السودان.

وخلال الفترة من 17 وحتى 22 يونيو (حزيران) الماضي، أقيم مهرجان المسرح الحر في مدينة كوستي جنوب السودان، وقُدِّمت عُروضه في أحد مراكز إيواء النازحين القادمين من الخرطوم. أما في بورتسودان، شرق السودان، التي احتضنت كثراً من مبدعي الخرطوم النازحين، استطاع اتحاد التشكيليين السودانيين، إقامة ورشة للرسم للأطفال. وفي مدينة سنار العريقة جنوب شرقي السودان، عمل عدد من مؤسسي رابطة سنار الأدبية على إعادة تأسيس الرابطة وإحياء صيتها مرة أخرى، لتستوعب المواهب من كاتبات وكتاب المدينة الشبان، وكان جزءاً من الأعضاء قد عاد من العاصمة.

ويلحظ الناقد الدرامي راشد مصطفى بخيت، الذي يقيم في مدينة القضارف، شرق السودان، في حديث لـ"اندبندنت عربية"، ازدهار النشاط الثقافي في المدن والأقاليم التي لم تطلها الحرب حتى الآن، ويقول إن هناك مشاركة واسعة من المجتمع وحضور كبير للفعاليات الثقافية، وهذا ينطبق على مدن مثل بورتسودان ومدني والقضارف وحتى بعض قرى ولاية الجزيرة بوسط السودان.

إعادة الحياة إلى رابطة سنار الأدبية

عاد القاص والصحافي والناقد، نبيل غالي، أحد أشهر مؤسسي رابطة سنار الأدبية، بعد اندلاع الحرب، إلى مدينته التي نشأ فيها وبدأ منها حياته الأدبية "سنار". يقول غالي لـ"اندنبدنت عربية" واصفاً شعوره إزاء إعادة إحياء الرابطة: "إنها بمثابة إعادة الروح إليّ، وجددت إيماني بأن العمل الثقافي يمكن أن يؤدي دوره في أحلك الظروف"، واعتبر اجتماعهم التأسيسي بعد توقف الرابطة في السبعينيات من القرن الماضي تاريخياً.

واجتمع، في مدينة سنار، عدد من مؤسسي الرابطة، والأعضاء الجدد لتكوين المكتب التأسيسي، واختارت الرابطة الكاتب صلاح جلاديما سكرتيراً عاماً، ونبيل غالي رئيساً. وتعمل الرابطة على كتابة دستور لها يستوعب المتغيرات التي حدثت خلال أكثر من ثلاثة عقود من توقفها، واستبدال الدستور القديم بدستور جديد.

 وأسس نبيل وعدد من مجايليه رابطة سنار الأدبية بين السنوات (1968-1969) ككيان أهلي يعنى بالأدب والثقافة، في وقت ازدهرت فيه الروابط الأدبية والثقافية، مثل رابطة الجزيرة للآداب والفنون بمدينة ود مدني وسط السودان، وجماعة (أولوس) الأدبية بمدينة كسلا شرق السودان، وجماعة أبدماك. ومن مؤسسي رابطة سنار، القاص والكاتب مبارك الصادق، وعبد الرحمن محمد (دقش)، وجميل غالي، ومالك الشويه، وعادل الصاوي.

وشهدت مدينة سنار (كانت عاصمة للسلطنة الزرقاء في السودان 1504-1821)، قيام أول رابطة أدبية سميت بـ "روضة الشعر"، في العام 1914، كما يذكر الكاتب سليمان شكة في كتابه "سوق الذكريات". يقول غالي: "حفزنا ما قرأناه في "سوق الذكريات"، في ذلك الوقت، برفقة الروائي مبارك الصادق، لتكوين رابطة سنار الأدبية"، ويضيف: "كانت الرابطة تضم شعباً للقصة والرواية والشعر والمسرح والموسيقى والنقد والمطبوعات". وأصدرت الرابطة حينها مجلة شهرية تطبع على ورق الرونيو باسم "سنار الأدبية"، ثم أطلق عليها اسم مجلة "الزرقاء" تيمناً بالسلطنة الزرقاء.

القضارف تفتح الأبواب

في مدينة القضارف شرقَ السودان، ظل "منتدى الشروق" منذ تأسيسه في عام 2007، يجسد حالة من انخراط العمل الثقافي في العمل العام وقضايا مجتمع المدينة الحدودية مع إثيوبيا، ذات الصيت التجاري. وبعد اندلاع الحرب (15 أبريل)، نزح إليها عدد كبير من مبدعي الخرطوم، وفتحت أنديتها الثقافية الأبواب مشرعة لهم لتفعيل الحراك الثقافي. وضع مدينة القضارف الحدودي مع إثيوبيا، جعلها معبراً لكل الفنانين اللاجئين إلى خارج السودان، واستثمر منتدى شروق هذه الفرصة ليستضيف أكثر من عشرين كاتباً وفناناً، منذ اشتعال أوار الحرب، وما كان لهم أن يأتوا إلى المدينة لولا الحرب.

الفنان التشكيلي عبدالله محمد الطيب، وهو أحد الفنانين التشكيليين العائدين إلى القضارف، قدم ندوة عن الفن التشكيلي والثورة بمنتدى الشروق. يقول الطيب لـ"اندبندنت عربية"، إن الحراك الثقافي والفني في السودان، ظل على الدوام مقاوماً للدكتاتوريات، وعندما اندلعت ثورة ديسمبر 2018، كان الفنانون التشكيليون أحد خطوط مواجهة نظام الإنقاذ، ويضيف: "ما زال الفنانون يعملون على مواجهة الحرب بفنهم وفكرهم، حتى وهم في مدن النزوح".

قدم منتدى شروق ليلة شعرية للشاعر خالد عباس والشاعر محمد عزوز، وقدم ورقة للناقد المسرحي راشد مصطفى بخيت "التزام ما بعد الحرب"، وابتدر (مقهى شليل)، نشاطاً موسيقياً، استضاف فيه الفنان عاصم الطيب والموسيقار عثمان النو، وتم افتتاح (منتدى عوض مشاوي الثقافي)، وقدم الشاعرين عبد الوهاب هلاوي وإيمان آدم خالد.

عاد الشاعر بابكر الوسيلة، من مقر سكنه الذي اختارته له ظروف عمله، إلى مدينته القضارف. ويرى الوسيلة أن ازدهار الحراك الثقافي في المدن السودانية، هو أحد وسائل مقاومة الحرب، وقد يكون الفضيلة الوحيدة لها – بحسب تعبيره، ويضيف: "توزع الكُتّاب والفنانون المتمركزون في الخرطوم على مدن السودان جميعها، مما ساهم في ازدهار الحراك الثقافي وكسر مركزية العاصمة".

ويتفق راشد بخيت مع الوسيلة في تعليقه على حالة الازدهار تلك، إذ يقول إن حالة التشتت الجغرافي التي يعيشها المجتمع السوداني منذ اندلاع الحرب، أكسبت الأقاليم قدرة على استثمار كادر ثقافي لم يكن متوافراً بالنسبة لها، فجميع سكان الخرطوم بمختلف مجالاتهم توزعوا على مدن السودان.

"حكايات الحرب والسلام" في بورتسودان

عدد مقدر من مسرحيي الخرطوم نزحوا إلى مدينة بورتسودان، وقدموا مجموعة من العروض المسرحية في المدينة. وقدم المخرج المسرحي عطا شمس الدين أول عرض لـ"مسرحية حكايات الحرب والسلام"، في مسرح مدارس كمبوني بمدينة بورتسودان الساحلية على البحر الأحمر. وفي حديثه لـ"اندبندنت عربية"، يصف شمس الدين العرض بأنه تجربة تمزج ما بين المسرح التفاعلي والسايكو دراما والسيسيو دراما، ويهدف إلى دعم الاتزان النفسي والاجتماعي للنازحين والذين تعرضوا لعنف الحرب. يقول شمس الدين: "هي تداعيات ومواقف وحوارات حول الحرب وشروخها ومآلاتها، وتدعيم الثقة في ذواتنا وقدرتنا على أن نمضي إلى أحلامنا على رغم كل شيء". والعرض هو نتاج ورشة شارك فيها الممثلون رابحة محمد محمود ونزار جمعة وأمين شبو وأمنية فتحي ومحمد نور وساهر مصطفى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 ويعزو راشد بخيت الازدهار المفاجئ للحراك الثقافي في مدن النزوح، إلى أن السودان يمر بلحظة فارقة في تاريخه، ويقول: "في زمن الحروب والأزمات، الزمن الذي يحدث فيه ضياع للهوية، وتقهقر الدولة، تتعلم المجتمعات بطريقة أسرع، فمثل هذه الأوضاع تنتج قسراً انتباهاً اجتماعياً لما يمثل قيمة، مثل الفنون والثقافة والآداب". ويضيف: "الشعوب تتعلم بالألم أكثر من أي طريقة أخرى، وهذا عملياً يحدث لنا لما يقارب تسعين يوماً من الحرب... ما تعلمناه بوصفنا فنانين وكتاباً ومثقفين وكمجتمع كامل، في هذه الفترة فترة الحرب يفوق ما تعلمناه في أكثر من عقود سنوات".

وعلى رغم أن هذا الزخم الإبداعي والثقافي، لم يشمل مدن إقليم دارفور والداخلة أيضاً في دائرة الحرب الحالية، إلا أن بخيت يلفت إلى أن حرب إقليم دارفور التي بدأت منذ عام 2003، أسهمت في إنتاج وعي كبير في المجتمع الدارفوري سابقاً. يقول بخيت: "تجد الشباب داخل معسكرات النازحين في دارفور يطلعون على الكتب ويناقشونها، وخلق ذلك جيلاً رصيناً يفكر في قضاياه بطريقة واضحة". ويضيف: "هناك شعوب مضت في طريق الوعي بذاتها من دون خوض حروب، لكن يبدو أننا كسودانيين لا نتعلم إلا بأصعب الطرق". ويتوقع بخيت ازدهاراً أكثف مما حدث للمدن المضيفة للنازحين، لكنه يتمنى ألا يكون ذلك موقتاً.  

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة