Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا تغيرت ثقافة التسليف في المجتمعات الفقيرة؟

تزيد الحاجة إليها في زمن الاستهلاك المفرط وانتشار الرفاهية والكماليات

انسحاب الدول من الحياة الاقتصادية في زمن الرأسمالية أدى إلى تغول رأس المال على الفقراء أحياناً (أ ف ب)

ملخص

كثير من التعاملات المالية بين الأفراد تشير إلى انحطاط بعض القيم الأخلاقية التي كانت ملاذاً للفقير أو المقترض وضمانة للغني لاسترداد أمواله مما يعطي وجهاً مغايراً لثقافة التسليف في الوطن العربي.

معادلة اجتماعية صعبة ترتبط بتسليف النقود بين الأفراد في المجتمعات الفقيرة وغير المنتجة تحديداً، وتصنفها الدراسات الحديثة بأنها ليست سوى مخاطرة كبيرة تنتهي غالباً بعدم إرجاع مبلغ التسليف، وينتج منها آثار اجتماعية سلبية للغاية أحياناً، ومنها تحول الإنسان المقترض من صفة فرد في الأسرة أو صديق مقرب إلى شخص آخر منبوذ اجتماعياً ومتهرب من السداد ومواجهة الآخرين.

وضع يفرض نفسه ويتحول فيه المقرض، وفق عالم النفس المتخصص بالشؤون المالية والأكاديمي في جامعة كريتون نبراسكا، براد كلونتر، إلى "مسؤول قروض" مهمته تحصيل أمواله، لكن الصورة لم تكن هكذا دائماً، فالرصيد الأخلاقي، وفق الأكاديمي خليل سالم، كان أعلى لدى طرفي المعادلة الرئيسين وهما المقرض والمقترض، بخاصة في أوقات سابقة.

سالم الذي خاض هذه التجربة من خلال إقراض آخرين يمضي في تحليله بقوله "ليس مقبولاً من المقرض مراقبة كل تحركات المقترض لكي يتأكد من عدم تبذير أمواله، كما ليس مطلوباً من المقترض التقشف - المبالغ فيه - في كل جوانب حياته ليثبت للطرف الآخر احتياجه إلى المال".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويعتقد كثر أن هذه الثقافة تحديداً تسربت إلى المجتمع عبر سلوكيات شاذة مارستها بعض مؤسسات الإقراض التي تبحث عن الربح الفاحش. ويرى مجموعة من الأشخاص الذين عبروا عن رأيهم في هذا الأمر ومنهم المواطن الأردني أسامة حكم الذي عمل في دولة خليجية وعاطل عن العمل حالياً، أن هذه الثقافة تختلف أيضاً من بلد إلى بلد آخر، إذ تتشابه في البلدان النامية اقتصادياً مثل مصر والمغرب والأردن وغيرها، فيما لا تكون ملموسة للغاية في دول الخليج العربي أو أوروبا وبقية دول العالم الأكثر إنتاجية والأعلى دخلاً.

الاستهلاك المفرط

في زمن الاستهلاك المفرط وحياة الرفاهية والكماليات التي نعيشها تتغير ثقافة التسليف بين الأفراد في المجتمعات غير المنتجة تحديداً باستمرار نظراً إلى تغير ثقافة الاستهلاك. ويرى بعض المتخصصين أن السبب هو انتشار فكرة أن المقترض يستدين في هذا الزمن من أجل الكماليات وليس الأساسات كما كان سائداً في السابق، مع لفت الانتباه إلى أن هذه الثقافة مرشحة للتحول مع تغير الزمن وتعاقب العصور.

وتظهر الحاجة إلى تلك الثقافة في الوقت الحالي أكثر من أي وقت مضى لسببين رئيسين، هما انتشار مؤسسات المال والإقراض الخاصة تحديداً وتعدد ما تقدمه من تسهيلات مفرطة أحياناً تطاول آثارها هذه الثقافة المجتمعية الراسخة لكن بشكل سلبي، والسبب الثاني هو تردي المنظومة الأخلاقية التي يمكن التأريخ لها منذ اندلاع نظام الرأسمالية وانحسار أزمنة أخرى مثل زمن "النظرية التجارية" أو ما سمي اصطلاحاً في القرن الثامن عشر (المركنتيلية) والتي يشدد أنصارها وأشهرهم الوزير في عهد لويس الرابع عشر (جان باتيست كولبير - 1619) على ضرورة عدم ترك المؤسسات الكبرى والشركات متحكمة بالاقتصاد.

ليست خياراً أوروبياً

الأكاديمي خليل سالم، مواطن أردني يحمل الجنسية البريطانية ويقيم في واحدة من دول الخليج العربي حالياً، يحلل فكرة التسليف أو الاقتراض فيقول "إن هذه الثقافة سائدة بشكل كبير في المجتمع الأردني، لكنها لا تعد خياراً في المنطقة الأوروبية التي عشت بها أو ضمن الطبقات الاجتماعية التي اختلطت بها هناك".

وثقافة التسليف في بعض البلدان المتشابهة اجتماعياً وسياسياً، وفق أسامة حكم، تكاد تكون متطابقة في بلدان مثل الأردن ومصر والمغرب وجميع البلدان العربية النامية اقتصادياً، ما عدا دول الخليج، لأن ثقافة التسليف في البلدان النامية مرتبطة بظروف اقتصادية واجتماعية متشابهة، وتصدر تقريباً عن حالة سياسية واحدة.

ويؤمن سالم بأن التسليف في أوروبا بين الأفراد قد يكون قليلاً لأن البطاقات الائتمانية التي تصدرها المؤسسات المالية والمصارف تحل المشكلة ولا يوجد عقوبات مغلظة على المستلفين، بينما في دول الخليج هناك أيضاً ثقافة التسديد التي يتكفل بها أفراد وأحياناً الحكومات مما يقلل عبء هذه الظاهرة.

ويقول "ربما تكون ظاهرة التسليف بين الأفراد في المجتمعات المتقدمة موجودة في بلدان مثل الولايات المتحدة"، إذ تشير دراسات خاصة بجامعات ومراكز أبحاث إلى وجود تبعات اجتماعية تترتب على هذا السلوك الذي قد يؤدي في النهاية إلى فقدان أخ أو صديق مقرب بسبب تحول الأشخاص من أصحاب إلى مسؤولي قروض بغية تحصيل حقوقهم، فتضيع الصداقة وتتأثر علاقة الأخوة الوثيقة بسبب الاقتراض والمال.

احتقار المقترض

أخذت ظاهرة احتقار المقترض من قبل المجتمع في التنامي كذلك، وإن كان هناك علاقة بين الثقافة المضادة التي تنشرها بعض المؤسسات المالية التي تتعامل بالإقراض والتي تتمسك بضرورة اعتبار المقترض العاجز عن السداد في مقام المجرم الذي يسرق من أجل الحصول على الكماليات.

ولا تتوانى بعض المؤسسات المصرفية التي أصبح لديها أذرع قانونية وإعلامية قوية عن تحريض المجتمع على المقترض العاجز عن السداد، كي تبرر لنفسها إلحاق الأذى به أو حبسه أو إذلاله واستعباده، مستغلة حالة عجزه تلك على رغم علمها المسبق بأنها تتعامل مع إنسان يمر بضائقة مالية.

خليل الذي يعمل مدرساً في واحدة من جامعات الخليج العربي ويحمل درجة الدكتوراه في تخصص علمي لم يؤيد هذه الفكرة تماماً، قائلاً "الواقع يقول إن المؤسسات المالية التي تعمل في هذا المجال من مصلحتها تشجيع الناس على الاقتراض لتزيد أرباحها".

وربما يفسر ذلك موقف الأكاديمي سالم بأنه في حالة مروره بضائقة مالية فإنه يفضل الاتجاه إلى مؤسسات الإقراض حتى وإن كان برسوم إضافية وفوائد عالية جداً على اللجوء إلى أحد إخوته أو أصدقائه.

تردي الأخلاق

لعل كثيراً من التعاملات المالية بين الأفراد يميط اللثام عن انحطاط بعض القيم الأخلاقية التي كانت ملاذاً للفقير (المقترض)، وضمانة للغني لاسترداد أمواله، وذلك قبل أن يتعمق التفكير المادي البحت في المجتمع، وتشهد مواقع التواصل الاجتماعي جدلاً حول هذه الفكرة، ولكن مواقع إخبارية وازنة قدمت الموضوع بشكل علمي أكثر من غيرها، إذ تنشر دراسات وأبحاث معتمدة حول هذه الظاهرة.

يقول استطلاع رأي، أجراه مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي عام 2012، إنه "عندما يواجه شخص مصروفات لا يكون قادراً على تغطيتها على الفور فإن النهج الأكثر شيوعاً يكون اللجوء للاقتراض من صديق أو أحد أفراد الأسرة".

يشير الاستطلاع ذاته إلى أن الخيار الأول هو "الاستلاف" عبر بطاقة الائتمان ولو برسوم إضافية، مما يوضح أن الاقتراض سبب من أسباب الفضيحة الاجتماعية التي يتجنبها الجميع فيما تستفيد مؤسسات الإقراض من تلك الحالة دون غيرها من الجهات. وفي الأمثال الشعبية العربية يقولون "إذا أردت أن تخسر شخصاً عزيزاً... أقرضه مالاً"، لأن الاقتراض هنا ما هو إلا نهاية علاقة الأخوة والصداقة إجبارياً حتى لو أرجع المقترض المال.

محرمات اجتماعية

يقول مدير مركز الأمن المالي في جامعة ويسكونسن أميركا، جي مايكل كولينز "إذا أقرضت شخصاً سيكون مديناً لك سواء رد المال أم لا"، لأن "المال من المحرمات الاجتماعية التي نتجنب الحديث عنها" ونظراً إلى "الطبيعة الفضفاضة" لعلاقة الاستلاف من شخص في مقابل القيود المحددة والصارمة التي تضعها المؤسسات المالية على الشخص بغض النظر عن هويته.

ويعلق عالم النفس المتخصص بالشؤون المالية الأكاديمي في جامعة كريتون نبراسكا، براد كلونتر، على هذا الأمر بقوله "لم تعد مجرد صديق أو فرد من الأسرة بل تحولت فجأة إلى مسؤول قروض"، لذلك ينصح خبراء ماليون باستشارة شريك الحياة أو أفراد الأسرة قبل الإقدام على تسليف أحدهم خصوصاً إن كان من المعروفين بعدم قدرته على السداد.

ويوافق أسامة حكم على فكرة أن بعض مؤسسات الإقراض التي تعمل علناً وتروج لنفسها وأفكارها من خلال أذرع قانونية وإعلامية هي المستفيد المباشر من تردي القيم والأخلاق في المجتمعات غير المنتجة التي صار يشيع فيها نظرة احتقار وتجريم للمقترض.

أخيراً يقول الوزير الأهم في حكومة لويس الرابع عشر، جان باتيست كولبير (1619) ومن دعاة المذهب التجاري، إن الدولة القوية هي مفتاح الاقتصاد المحلي القوي، فيما أدى انسحاب الدول من الحياة الاقتصادية في زمن الرأسمالية بشكل غير مباشر إلى احتكار الشركات النشاط الاقتصادي وتغول رأس المال على الفقراء أحياناً.

المزيد من متابعات