ملخص
مناطق في العاصمة السودانية تعرضت لقصف مما أدى إلى سقوط مدنيين لكن كل طرف يتبرأ ويتهم الآخر بالوقوف وراء تلك الضربات غير الإنسانية.
بينما تتواصل وتستعر حدة الاشتباكات بين طرفي النزاع بالسودان في ظل تطور نوعي تشهده المعارك ودخول أسلحة جديدة على الخط، على رأسها الطائرات المسيرة التي بدا استخدامها لافتاً في مسرح العمليات على نحو متفاوت بين الجيش وقوات "الدعم السريع"، تتزايد مخاوف من ارتفاع أعداد الضحايا المدنيين وموجات الفارين من القتال.
فرار يقف خلفه القصف الجوي والمدفعي المتبادل بين الطرفين، في وقت ظل فيه كل طرف يتبرأ من دماء الضحايا المدنيين ودك الأحياء السكنية على رؤوس سكانها، ليبقى السؤال "من إذاً يقف وراء ذلك القصف العشوائي المأسوي؟".
دماء ودعاية
بدخول الحرب في السودان يومها التسعين تحول القصف العشوائي وضحاياه من المدنيين إلى قصف من نوع آخر، بعد أن أضحت دماء الأبرياء هي المادة التي تتغذى عليها الحرب الإعلامية بين الطرفين المتقاتلين، والمداد الذي تكتب به بيانات الإدانة في سياق حملات الدعاية النفسية المضادة للآخر، ومحور الاتهامات المتبادلة بينهما.
شكل القصف العشوائي أحد أبرز أوجه الأخطار والمخاوف في العاصمة، لتسببه في سقوط العشرات من الضحايا المدنيين، على غرار ما حدث بمنطقة أم بدة في أم درمان وراح ضحيته 21 مدنياً، ثم بات محوراً لبيانات الاتهام المتبادلة من طرفي القتال، وسارع كل منهما إلى تحميل الآخر مسؤولية سقوط هذا العدد الكبير من الضحايا، ودانته الأمم المتحدة نفسها، على رغم نفي وتبرؤ الطرفين من ضلوعهما في تلك الحادثة الدامية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على الأرض ارتفعت وتيرة شراسة المعارك بين الطرفين بعد استيلاء "الدعم السريع" على المعسكر الرئيس لقوات شرطة الاحتياطي المركزي جنوب الخرطوم، وهو ما اعتبره الجيش انسحاباً مدروساً، نتيجة ظهور الطيران المسير على مسرح العمليات من الجانبين، كتطور نوعي زاد من وتيرة القصف الجوي الذي ينذر بسقوط مزيد من الضحايا المدنيين، لكن هذا التصعيد والتطور في أدوات وتكتيكات المعارك لم يمكن أي من الطرفين من تحقيق نصر حاسم على الآخر.
في الأثناء بدأ الجيش عمليات تمشيط برية واسعة بواسطة قوات النخبة من فرق العمل الخاصة الميدانية المسنودة جوياً، بدأت في مدينة أم درمان وشملت أحياء مدن العاصمة السودانية الأخرى في كل من الخرطوم والخرطوم بحري، تزامناً مع تواصل القصف المدفعي الثقيل من قبل الجانبين.
إدانات متبادلة
دانت قوات "الدعم السريع" في بيان لها ما وصفته بـ"الهجوم البربري الذي نفذته قوات الانقلابيين على مواطني مربع 22 دار السلام بمنطقة أم بدة في أم درمان وراح ضحيته أكثر من 31 من المدنيين وإصابة العشرات وهدم المنازل على من بداخلها".
واعتبرت الحادثة ضمن ما تسميه بـ"القصف الممنهج والمتكرر بالطائرات الحربية على الأبرياء في عدد من الأحياء السكنية غرب أم درمان، وجريمة نكراء في حق الإنسانية ومخالفة لمبادئ الدين الإسلامي، وكل الأعراف والمواثيق الدولية"، مطالبة "الفاعلين المحليين والدوليين برصدها وتوثيقها، متهمة من تسميهم بالفلول وكتائب الظل الإرهابية للنظام المباد بانتهاج سياسة الأرض المحروقة".
لكن وفي المقابل أصدر الجيش السوداني بياناً شديد اللهجة اتهم فيه "الميليشيات المتمردة بأنها درجت على قصف المناطق السكنية بالمدفعية والصواريخ تزامناً مع تحليق طائراته الحربية في محاولة لإلصاق تهمة استهداف المواطنين المدنيين بالجيش زوراً وبهتاناً".
وصف الناطق الرسمي باسم الجيش "بيان الدعم السريع بالكذب والتضليل الإعلامي المستمر الذي تنتهجه الميليشيات المتمردة بغرض تغطية انتهاكاتها وجرائمها المتواصلة بحق المدنيين"، منوهاً بأن "القوات الجوية لم تتعامل مع أي أهداف معادية في مدينة أم درمان ولم تنفذ أي غارة جوية في المناطق المشار إليها بأم درمان، متهماً الميليشيات بأنها ظلت ترتكب القتل والنهب والاستيلاء على ممتلكات المواطنين وانتهاك أعراضهم".
وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قد دان بشدة الغارات الجوية التي تسببت في مقتل ذلك العدد الكبير من المدنيين وجرحت وأصابت العشرات منهم في أم درمان، منتقداً التجاهل التام للقانون الإنساني وقانون حقوق الإنسان. وحض طرفي القتال على الامتثال لالتزاماتهما القانونية تجاه حماية المدنيين وتمكين العمل الإنساني.
أخطاء فنية
في السياق، يستبعد المتحدث الأسبق باسم الجيش السوداني، الضابط المتقاعد الصوارمي خالد سعد، أن يكون هناك قصف مقصود لذاته يستهدف ضرب تجمعات ومساكن المدنيين، لكنه غالباً ما يكون ناتجاً عن خطأ في التصويب أو عدم الدقة في التعامل مع الأهداف المعنية المعادية بالنسبة إلى كل طرف، وهو ما يستغله كل طرف في الوقت نفسه في إطار الحرب النفسية بينهما ويحاول من خلاله إثبات براءته من جريمة قصف المدنيين.
يضيف "القصف الذي يقع على المدنيين دائماً يتم بطريقة عشوائية من غير أن يكون المقصود منها المواطنين على وجه التحديد، بمعنى أن القصف المتبادل بين الطرفين المتحاربين في حرب المدن والشوارع والأحياء السكنية التي تشهدها الخرطوم غالباً ما يؤدي إلى سقوط ضحايا وسط المدنيين".
يردف "من خلال مشاهداتي العديدة وجدت أن المدنيين دائماً ما يكونون ضحايا للقصف العشوائي أو غير المركز، إذ من غير المنطقي أن تقتل قوات (الدعم السريع) المدنيين بشكل متعمد من دون أي سبب، لكنه يمكن أن يستهدف أموالهم ومساكنهم وسياراتهم ليستفيد منها بشكل أو بآخر سواء في العمليات القتالية أو غيرها، وكذلك بالنسبة إلى الجيش لا يمكن أن يستهدف المدنيين بشكل مباشر من دون أسباب واضحة".
الطيران والمدفعية
المتحدث الأسبق باسم الجيش السودان أشار إلى أن عدم امتلاك قوات "الدعم السريع" سلاحاً للطيران الحربي والمقاتلات على غرار الجيش ليس كافياً لإبعاد التهمة عنه، إذ إنه يمتلك مدفعية بعيدة المدى يمكنها أن تقوم بعمليات القصف نفسها.
وأضاف "الصواريخ أرض/ أرض التي يمتلكها لها القدرة على إرسال القذائف الصاروخية من على بعد ما بين سبعة إلى عشرة كيلومترات، وهذا القصف قد ينتج منه أيضاً خطأ في التصويب أو الإحداثيات، قد يصيب الأحياء السكنية والمدنيين".
على الصعيد ذاته يؤكد المحلل الأمني في مركز الدراسات الدولية اللواء دكتور أمين إسماعيل مجذوب، أن استخدام الطائرات الحربية والمسيرات يبدو فعالاً في تدمير عدد كبير جداً من المقار والمباني التي تتحصن بداخلها قوات "الدعم السريع"، وله القدرة على مطاردة وردع المركبات القتالية، لكنه ينطوي على خطورة كبيرة لاحتمال تسببه في خسائر مادية وبشرية كبيرة عند استخدامه داخل المناطق السكنية.
أوضح مجذوب أن دخول السلاح الجوي أرض المعركة كان مبكراً منذ اللحظات الأولى للاشتباكات، وأسهم بفاعلية في قصف وتدمير مواقع ومعسكرات ومقار السيطرة والقيادة التي كانت تتحصن فيها قوات "حميدتي" في أطراف العاصمة، موضحاً أن خروج معظم القوات إلى المناطق الطرفية يجعل استهدافها من الجو أكثر سهولة، بينما تتركز المواجهات في المناطق المأهولة باستخدام العربات المسلحة المتحركة كما في حرب المدن والشوارع دائماً.
تنويع الأسلحة والتكتيكات
المحلل الأمني في مركز الدراسات الدولية أقر بصعوبة التكهن بمآلات ونتائج حرب المدن والشوارع التي يلجأ فيها كل من الطرفين إلى تنويع استخدام الأسلحة أو اللجوء إلى تكتيكات مختلفة، وفقاً لتطور مسار المعارك، متوقعاً أن تستمر مشاركة الطيران الحربي ضمن المعارك بغرض حسم أي تهديدات جدية قد تطرأ وفق التقديرات الخاصة التي يراها الجيش السوداني، مع ضرورة توخي الدقة والحذر بالنسبة إلى الأهداف النوعية المنتقاة.
وينبه إلى أن استخدام المقاتلات الحربية بأنواعها المختلفة والأسلحة المدفعية الثقيلة والقصف الصاروخي ضمن حرب المدن والشوارع، يشكل خطراً مباشراً على المدنيين والبنى التحتية، لافتاً إلى أن الضربات الجوية في هذا النوع من الحروب غالباً ما تستخدم كسلاح أخير لحسم التهديدات الجادة للمواقع والمناطق الحيوية والحساسة، لكن فعاليته المثلى تتجلى بشكل أفضل في المناطق المفتوحة والمواقع الدفاعية والطرق العابرة.
الجوع والقذائف
خلفت المعارك والقتال المحتدم في الخرطوم ومدن عدة أخرى في ولايات كردفان ودارفور والنيل الأزرق، وضعاً إنسانياً كارثياً، فيما يعيش الموجودون حتى الآن من السكان في العاصمة، لأسباب مختلفة، أوضاعاً إنسانية متفاقمة في ظل عدم توفر خدمات الكهرباء والمياه وبدء نفاد المؤن الغذائية في المتاجر والبيوت.
ظروف تهدد الأسر السودانية في الداخل بشبح الجوع وهم محاصرون داخل منازلهم، تحت رحمة القصف العشوائي الجوي والمدفعي الثقيل المتبادل، مما يزيد من أعداد الضحايا من المدنيين، ويدفع بمزيد من سكان الخرطوم إلى الفرار هرباً من القذائف الثقيلة العشوائية.
واندلعت الحرب السودانية بين الجيش وقوات الدعم السريع، منذ 15 أبريل (نيسان) الماضي، على رغم تفاقم خسائرها البشرية والمادية وتسببها في موجة نزوح وتشريد ملايين المواطنين بصورة ما زالت مستمرة، سرعان ما تمددت نيران الحرب إلى إقليم دارفور، ثم جنوب كردفان وإقليم النيل الأزرق، مهددة بجر البلاد إلى أتون حرب أهلية طويلة وشاملة قد تزعزع استقرار المنطقة بأكملها، فضلاً عما خلفته من أزمة إنسانية كارثية جعلت نصف السودانيين في حاجة ماسة إلى معونات غذائية عاجلة.