لا تختلف مسيرة الحياة عن مسيرة المذكرات التي يكتبها "محمد ملص- القنيطرة-1945" وكأنه يؤرخ لأفلامه كما يؤرخ لذاكرة. فمنذ تخرّجه في معهد فغيك بموسكو سبعينيات القرن الفائت (1974)، كان ابن الجولان السوري منسجماً مع سينما أدبية جعلته رائداً وطليعياً في ما سمي وقتذاك بتيار "سينما المؤلف". هذه السمات لن تجعل المخرج السوري بعيداً من الأدب حيث وضع عام 1976 روايته اليتيمة "إعلانات عن مدينة بقيت بعد الحرب"( دار ابن رشد- بيروت). من هنا ظل صاحب "أحلام المدينة" 1984 مخلصاً للسينما التي تجترح ذاكرتها بفعل الكتابة، مرةً عبر الأدب، ومرات عبر كتب تم تأليفها وتحريرها على فترات متباعدة، فكان منها مفكرات لأفلام خطها بدقة وحساسية مختلفة منها: "المنام- مفكرة فيلم" (الآداب بيروت- 1999) و "كتاب الليل" (دار كنعان- 2003) و"الكل في مكانه سيدي الضابط- مفكرة فيلم" (المدى- بيروت- 2003) و"وحشة الأبيض والأسود"( دار نينوى- دمشق- 2016).
جميعها حققها ملص عن تجربة فنية أنجزها إلى جانب العديد من أفلامه، لكنها في أحيانٍ كثيرة تبدو ليست مجرد "دفاتر مذكرات" لم تغادره يوماً، قبل سفره إلى موسكو وأثناء إقامته فيها، وبعد انتهاء دراسته والعودة إلى دمشق، أو حتى في أسفاره التي شغل فيها مديراً للعديد من لجان التحكيم السينمائية الدولية؛ بل هي في كتابة دائمة ربما تعكس رغبة دفينة لدى المخرج السينمائي في ترجمة عمره الشخصي إلى أفلام، ففي الوقت الذي يتعثر مشروعه السينمائي الجديد ولا يجد له تمويلاً "صفر- إحدى عشر" ترى المخرج السوري ينكب على أرشيفه الضخم، من أفلام ورشز ومذكرات ورسائل وصور، والذي كما أسلفنا يتيح له العمل على مستويات أعقد في كتابة قوامها عمل الذاكرة وقدرتها على أن تكون بمثابة "المونتير" الأول للأشرطة التي بقيت حبيسة مذكراته وأوراقه.
السيناريو الأدبي
هكذا لم يتأخر كتابه "قيس الزبيدي- الحياة قصاصات على الجدار" (دار هاشيت أنطوان- نوفل- بيروت) وفيه اعتمد ملص على تقنية السيناريو الأدبي في سرد واسترجاع ذكرياته مع المخرج العراقي المخضرم، منذ لقائه الأول به عام 1973 في صالة سينما الكندي الدمشقية أثناء عرض فيلمه "القنيطرة- 74" وكيف كان اسم الزبيدي واحداً من أبرز الأسماء التي تصدّرت المشهد أوائل سبعينيات القرن الفائت في مهرجان سينما الشباب 1972 بدمشق. الدورة التي طرحت للمرة الأولى شعار "السينما البديلة" كعنوان لمرحلة كان "ينظر روادها إلى الوراء بغضب"، لا سيما إزاء حال السينما العربية المتردي وقتذاك فنياً وجمالياً وفكرياً، وسيطرة النزعة التجارية على معظم نتاجها.
هكذا وجد ملص ضالته الفريدة في صداقة ما زالت جذوتها متوهجة حتى يومنا هذا، خصوصاً بعد عقد شراكة إبداعية مع الزبيدي الذي سيكون له دور حاسم في أهم أفلام محمد ملص ورفاق دربه، سواء منها التسجيلية أو الروائية، لعل أبرزها سيكون في "المنام- 1986" الشريط التسجيلي الذي سيجمع كل من ملص والزبيدي في بيت هذا الأخير بإحدى أحياء برلين الشرقية، وذلك بعد أن استطاع الصديقان الحصول على التمويل من تلفزيون ألمانيا الديمقراطية بطلب الزبيدي من دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية لإجراء المونتاج والعمليات الفنية على الفيلم الذي تم تصويره عام 1980. أي قبيل الاجتياح الإسرائيلي لبيروت 1982 وارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا بحق مئات النازحين الفلسطينيين العُزل المقيمين في هذين المخيمين.
يسهب ملص في وصف دقيق لطبيعة الحياة التي عاشها مع الزبيدي مضيفاً له في بيته ببرلين الشرقية، والظروف التي كان كل منهما يعيشاها، والنقاشات المطولة عن طبيعة السينما التي كانا يبحثان عنها.
وفي نقلة زمنية يصبح "قيس الزبيدي" شخصية في سيناريو هذا الكتاب تحت عنوان: "صورة شخصية رسمها قيس لنفسه" وهنا نتعرف إلى مسقط رأس المخرج العراقي الذي ولد في حي الجسر العتيق- حي الحيدر خانة ببغداد عام 1939، وكيف عاش طفولة ممزقة بين بيت أبيه وزوجته، وبين أمه التي سيلتقي بها في دمشق بعد غياب، وذلك بعد سنوات طويلة لعودته من دراسة السينما في ألمانيا، وكيف كان لخاله الشيوعي المولع بالمسرح دوراً في تعريفه على يوسف العاني وسامي عبد الحميد، وعلى المونتير محمد شكري جميل، وكيف ساهم هذا الأخير في تعريفه على ألف باء فن المونتاج السينمائي، وعلى إرساله لألمانيا في ما بعد من قبل الحزب الشيوعي العراقي، حيث تخرج بدراسة نظرية أجراها الزبيدي لطرق مونتاج فيلم "طفولة إيفان" لتاركوفسكي.
تقطيع سينمائي
ينقلنا الكتاب بسلاسة التقطيع أو الديكوباج السينمائي إلى السنوات الطويلة التي قضاها الزبيدي في دمشق، سارداً قصة عمله مع أبرز المخرجين السوريين، سواء في كتابة السيناريو أو المونتاج أو التعاون الفني، حيث بدأ المخرج العراقي هذه المسيرة بتحرير فيلم "إكليل من شوك" لنبيل المالح، وبدعوة من مروان المؤذن مدير عام مؤسسة السينما آنذاك، ليتوج هذا التعاون في فيلم "رجال تحت الشمس- 1970" والتي عمل فيها الزبيدي كاتباً للسيناريو ومونتيراً معاً، مع كل من محمد شاهين ونبيل المالح ومروان المؤذن، ليعمل بعدها كمونتير في الفيلم التسجيلي "الحياة اليومية في قرية سورية" مع كل من الراحلين سعدالله ونوس وعمر أميرالاي، وصولاً إلى عمله مع كل من وديع يوسف في فيلم "رقص شعبي" ومع خالد حمادة عمل الزبيدي على فيلميه "شموس صغيرة" و"السكين" ومع المخرج العراقي قاسم حوَل فيلمه "اليد"، ومع الأردني عدنان مدانات في فيلميه "التكية السليمانية" و"لحن لعدة فصول"، لينجز مع اللبناني كريستيان غازي فيلمه التجريبي "مئة وجه ليوم واحد".
تجارب عدة يتناولها الكتاب الذي استقى الزبيدي فن المونتاج فيها من معرفته العميقة بمسرح برتولد بريخت، وكيف وظّف الملحمية البريختية في البنية التسجيلية للفيلم، لا سيما سيناريو فيلم "المغامرة" الذي كتبه مع سعدالله ونوس عن مسرحيته "مغامرة رأس المملوك جابر" حيث يكشف لنا ملص أسباب توقف هذه التجربة في ظل إدارة حميد مرعي لمؤسسة السينما، وإقالة هذا الأخير لأسباب أمنية وسياسية من منصبه، ليتوقف عمل الزبيدي مع المؤسسة، وليكتفي وقتها بكتابة سيناريوات لأفلام من دون أن يضع اسمه عليها، لافتاً إلى التشويه الذي طال فيلم "المغامرة" على يدي مخرجه محمد شاهين وإقحام مشهد النهاية من حرب 1973، مما خالف برأي الزبيدي الجوهر الفكري والفني للمسرحية التي استند إليها هذا الشريط.
يروي محمد ملص عن الجهد الذي بذله المخرج العراقي في تأسيس النادي السينمائي بدمشق، والدور الذي لعبه مع كل من عمر أميرالاي وأسامة محمد ونبيل المالح إضافة لملص بتقديم أفلام الموجة الجديدة بألمانيا لجمهور ذلك النادي، من مثل أفلام فاسبندر وفيم فندرز وهيرتزوغ، ليعمل بعدها الزبيدي مع دائرة السينما في التلفزيون السوري، مفتتحاً بفيلمه الوثائقي "بعيداً عن الوطن- 1969" وفيه يروي عن أطفال من فلسطين من لاجئي 48 ونازحي 67 في مخيم السبينة قرب دمشق، وذلك عبر لغة سينمائية تعاملت مع مفهوم الزمن واللقطة والتتابع الزمني فيها بشكل جديد وغير مسبوق في تطوير النظرة للفيلم التسجيلي، وكيف استطاع هذا الفيلم تقديم قراءته للواقع بعيداً من الأفلام الموصى عليها، أو تلك الأشرطة ذات النزعة الإعلامية المباشرة، مما جعل الزبيدي يتصدر الأفلام التسجيلية التي حققها السينمائيون في سورية، فكان أن حقق الزبيدي بعدها كل من أفلامه "الزيارة- روائي- 1970" و"شهادة الأطفال في زمن الحرب- تسجيلي- 1972" ليحقق بعدها فيلماً تجريبياً عن أعمال لثمانية فنانين تشكيليين من أجيال مختلفة بعنوان "زائد ألوان- 1972" وكان الفنانون المشاركون هم: فاتح المدرس، نذير نبعة، خزيمة علواني، الياس الزيات، لؤي كيالي، نصير شورى، محمود حماد، ونعيم إسماعيل.
يستطلع "الكتاب- السيناريو" علامات فارقة من حياة الزبيدي، متوقفاً عند فيلمه الروائي اليتيم "اليازرلي- 1973" والذي نقل عبره المخرج العراقي مشاهد من طفولته التي عاشها في حي الأعظمية ببغداد، مقتبساً شريطه عن قصة "على الأكياس" لحنا مينه والتي كتب لها السيناريو بنفسه. الفيلم الذي يعتبره الزبيدي بمثابة بيان في اللغة البصرية للسينما العربية، وطموحاً تشكيلياً لوسيلة السرد السينمائي المختلف عن أفلام تلك الحقبة في السينما العربية.
قدم المخرج العراقي أغزر أفلامه في المنحى التسجيلي، لكن أبرزها كان عن فلسطين التي تجسدت في أشرطته الوثائقية بعيداً من الفهم السطحي للقضية، وما كان يتم إنتاجه في تلك الفترة من الأفلام ذات الطابع التعبوي، ليحقق في هذا السياق أفلاماً من مثل: "وطن الأسلاك الشائكة- 1980" و"مواجهة- 1983" و "ملف مجزرة- 1984" و"فلسطين... سجل شعب- 1985"، حيث اعتمد الزبيدي في هذا الأخير على مقابلات مصوّرة مع شخصيات وقادة فلسطينيين من مثل عزت دروزة ونمر المعري، فكان هذا الشريط الوثائقي الطويل "110 دقيقة" تسجيلياً نادراً اعتمد على تقديم قراءة للواقع الفلسطيني من أوائل القرن العشرين وحتى سبعينياته، اتكأ على وثائق بصرية نادرة، مسبوكة في سياق سيناريو بصري محكم الصنعة، مترافق مع قراءة تاريخية بصوت الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد، حيث كتب له التعليق والمقدمة المؤرخ الفلسطيني إميل توما، وساهم في إغنائه الاستفادة من أرشيفات عالمية نادرة عن القضية الفلسطينية عرضها الفيلم للمرة الأولى، مما أعطاه قيمة تحليلية وعلمية بعيداً من الصراخ وتمثيل دور الضحية كما كان سائداً في مثل هذه النوعية من الأفلام.
عام 1996 سوف يعود كل من الصديقين للعمل معاً في برلين على مونتاج "رشز- RACHES" فيلم تسجيلي جديد لملص بعنوان "حلب مقامات المسّرة" عن المنشد الحلبي صبري مدلل، حيث سيأتي هذا اللقاء مختلفاً بعد انهيار سور برلين، وزوال دعم ألمانيا الديمقراطية للزبيدي الذي خاض مع ملص مغامرة مونتاج ذهني للفيلم، ومن دون وجود معدات فنية لديهما بسبب غياب التمويل، حيث اكتفيا بجهاز تلفزيون لعرض المواد المصوّرة، إضافةً لقارئ أشرطة (VHS). هذه التجربة كانت مجازفة بالنسبة للشريكين لكنها كانت تطرح تحدياً كبيراً على مخرجين يمكن لهما مشاهدة الفيلم في المخيلة، حتى قبل أن ينجزاه على أشرطة صوت وصورة.
عالم القصاصات
يوماً فيوماً كانت القصاصات الملونة التي يلصقها الزبيدي على جدار بيته كملاحظات مونتاجية وكترتيب للقطات وأوقات قصها، تصبح عالماً ذهنياً وبناء أفقياً وعضوياً للمونتاج الذي حاكى الزبيدي فيه فيلم "لون الرمان" للمخرج الروسي- الأرمني بارادجانوف، مستذكراً حياته في دمشق ومغادرته لها بعد التضييق الذي عانى منه هناك إذ يقول "لقد حاولت أن تكون دمشق مكاني الأول بعيداً من الوطن، لكنها بقيت المكان الثاني، وحين سقطت برلين الاشتراكية سقط معها مكاني الأول، وصارت الثاني. في السينما قضيت العمر كله في السينما التسجيلية التي كانت خياري الثاني وليس الأول. هكذا بقي الأول مفقوداً دائماً، لأعيش في الثاني أبداً!".
حوارات عدة يطرحها الكتاب، والتي كان ملص قد نشر منها فصلاً سابقاً في كتابه "مذاق البلح- رفوف- 2010" تحت عنوان "سينمائيون في البيجامات" عنوان المفكرة التي اعتمدها صاحب "باب المقام" مقتبساً من عنوان الفيلم الألماني "طيارون في البيجامات" للمخرجين التسجيليين شويمان وهاينوفسكي اللذين تناولا في هذا الشريط عصر المستنقعات الفيتنامية التي كانت تصطاد الطيارين الأميركيين وتحولهم إلى أسرى في البيجامات! بعد ذلك يكشف ملص عن قصة فيلم "البحث عن عائدة- 1999" وقصة توقفه بعد عدم موافقة بطلته الممثلة التونسية جليلة بكار على صيغة المونتاج النهائي الذي حققه ملص مع الزبيدي "رفضت جليلة الاستمرار في دوبلاج صوتها على المشاهد التي قمت بتصويرها، كما رفضت الانتظار لمشاهدة الفيلم بنسخته النهائية، وطلبت تقديم النص الذي أدته على سطح الباخرة المدمرة قرب شواطئ بنزرت بلا نقصان، لقد ظلت أسيرة تصورها المسرحي، وكأنه الكتاب المقدس، كانت تستند في موقفها هذا كمنتجة مشاركة للفيلم، ولها الحق في القرار النهائي، فاحتلني آنذاك رد الفعل والمفاجأة، وشعرتُ بضيق التفكير وسطحيته، والصدمة لهذا التصور للقراءة السينمائية، لشخصية ثقافية ذات تجربة عريقة، وممثلة كبيرة ومهمة على هذا النحو، فراودتني الحماقة، فقررت إيقاف العمل، عاد قيس إلى برلين وعدتُ أنا إلى دمشق".
في الكتاب أيضاً مقالات وشهادات من نقاد سينمائيين بارزين على نحو شهادة للناقد الفلسطيني الراحل بشار إبراهيم، والناقد الفلسطيني فيصل دراج، والناقد السوري الراحل سعيد مراد، كما هناك حوار مطوّل أجراه ملص مع الزبيدي في برلين، ويقول إنه يمتلك مادة مصورة له، مما يجعل "الحياة قصاصات على الجدار" مادة خصبة وكثيفة معرفياً لفنان لا يزال يعتقد عبر نصف قرن من ممارسة مهن سينمائية عدة أبرزها المونتاج، أن "الرجل صوت والمرأة صورة".