من الرقيق إلى الميليشيات... هكذا تطورت ظاهرة الاستعباد

بين الرقيق (العبيد) الذين عرفوا في الماضي عبر أعمال السخرة، وما يلعبه المرتزقة في عصرنا الحاضر قواسم مشتركة ترجع إلى العصور الوسطى، ولا تقتصر عند وظائفهم بالمجتمعات القديمة واستغلالهم لدى الأثرياء والملاك في البيوت والإقطاعيات، ليمتد بها الأثر إلى النطاق السياسي والقيام بأدوار سياسية مهمة في تغيير ممالك وصناعة ملوك وخلق دول، فما أوجه تلك المقارنة؟

طرأ خلال الآونة الأخيرة الحديث عن ميليشيات المرتزقة الذين يتم استخدامهم في عديد من الدول والكيانات الاقتصادية لتحقيق أهداف مشروعة وغير مشروعة. واستغلت شركات عسكرية خاصة عابرة للحدود الأزمات التي تعيشها بعض الدول في تفعيل هذه الميليشيات بأبعاد شتى.

يرجع مصطلح (ميليشيا) في الأدبيات إلى اللاتينية القديمة (Miles or milit)، التي تعني "الرجل المسلح أو المحارب لقاء أجر". وتماثل جيوش ميليشيات المرتزقة واقع استغلال العبيد على عهود ماضية، وإن كان الفرق بين أحرار يوظفون وعبيد يسخرون، إلا أن التسخير واحد في إرادة الملاك في "بلاك ووتر" أو"فاغنر" أو"بلاك شيلد".

تجارة العبيد

تجارة العبيد عرفت عبر الأزمان وكانت سائدة في روما أيام الإمبراطورية الرومانية (27 ق م- 476م) وقامت على أكتاف العبيد بنايات حضارات قديمة.

تشير الدراسات إلى وجود أدلة على أن الرق سبق السجلات التاريخية المكتوبة، وكان موجوداً في عديد من الثقافات. نحو عام 3500 قبل الميلاد كانوا يشكلون جانباً من الحضارة السومرية في بلاد ما بين النهرين الواقعة بين نهري دجلة والفرات، وهي من أولى الحضارات التي عرفها الإنسان.

في القرون الوسطى مثلت منطقة القرن الأفريقي إحدى بؤر الرقيق، "والعصور الوسطي هي فترة ما بين العصور القديمة والعصور الحديثة"، ويطلق عليها اسم العصور المظلمة لغياب حقل العلم والمعرفة، امتدت من نحو القرن الخامس الميلادي إلى القرن الحادي عشر الميلادي.

كانت منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا واحدة من أهم البقاع التي مورست فيها تجارة العبيد منذ تلك الفترة، وكانت ظاهرة الرق والاسترقاق شيئاً مألوفاً عند أهل الحبشة، كما مورست في ممالك الزيلع (الصوماليين).

يشير المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل إلى أن "العبودية ظلت مستوطنة في أفريقيا وجزء من بنية الحياة اليومية، وجاء الرق بأشكال مختلفة في المجتمعات، كان هناك عبيد المحاكم، وعبيد يعملون في الأرض، وفي المصانع، وعبيد أدرجوا في الجيوش الأميرية".

شعوب البانتو

كانت تجارة العبيد عند العرب في جنوب شرقي أفريقيا (عبر المحيط الهندي) إحدى التجارات النشطة. وكان يتم جلب العبيد وفق الروايات التاريخية من شعوب البانتو "الزنج"، الذين عاشوا على امتداد ساحل أفريقيا الشرقي، وظلوا ينقلونهم باتجاه الشمال عبر الصحراء الكبرى والمحيط الهندي على مدى قرون إلى الشرق الأوسط وبلاد فارس، ولكل الدول على المحيط الهندي.

وعلى عهود إسلامية متقدمة جند الخلفاء الأمويون والعباسيون عديداً من العبيد الزنج كمحاربين في جيوشهم لتقوية دولهم وزيادة نفوذهم.

يروي ابن بطوطة، الذي زار مملكة "مالي" الأفريقية القديمة في أواسط القرن الرابع عشر، أن السكان المحليين تنافسوا مع بعضهم بعضاً بعدد العبيد والخدم الذين امتلكوهم، كما أنهم قدموا له بذاته عبداً صبياً كهدية ترحيبية.

تؤكد مصادر القرن الخامس عشر ممارسة الأوروبيين تجارة العبيد الأفارقة، وكيف كانوا يرسلونهم قسراً إلى العالم الجديد (أميركا) ليفلحوا الأراضي، وتشير الوقائع التاريخية الموثقة إلى أنه تم تصدير ما يقرب من 12 مليون أفريقي إلى الأميركتين والجزر في المحيط الأطلسي والهادئ ولم يصل منهم إلا نحو ثمانية ملايين، بينما فقد البقية نتيجة موتهم أو رميهم أحياء في البحر.

ظلت أميركا تستخدم هؤلاء العبيد في الحقول والمزارع الشاسعة، وقسم آخر منهم يستخدمون في البيوت ومن هنا جاءت تسمية عبيد الحقول (Field Slaves) وعبيد البيوت (المنازل) (House Slaves)، وظل الاستخدامان إلى ما قبل إعلان تحرير العبيد الذي أصدره الرئيس أبراهام لنكولن في 1 يناير (كانون الثاني) 1863.

كان البرتغاليون يمارسون النخاسة ويرسلون للبرتغال سنوياً ما بين 700 – 800 عبد من مراكز تجميع العبيد على الساحل الغربي لأفريقيا وكانوا يخطفونهم من بين ذويهم في أواسط أفريقيا. وفي القرن 16 مارست إسبانيا تجارة العبيد التي كانت تدفع بهم قسراً من أفريقيا لمستعمراتها في المناطق الاستوائية بأميركا اللاتينية.

ممالك الطراز

في كتابه "العلاقات السياسية بين مسلمي الزيلع ونصارى الحبشة" يقول رجب محمد عبدالحليم إن "بلاد الزيلع والحبشة تعرف الآن في ما يسمى منطقة القرن الأفريقي وتضم دول إثيوبيا (بما فيها إريتريا) والصومال وجيبوتي. وطبيعي أن هذه الأسماء لم تكن معروفة في القرون الوسطى، فقد كان هناك ما يعرف عند العرب والمسلمين باسم الحبشة، وهناك بلاد الزيلع. قال القلقشندي إن بلاد الزيلع هي البلاد المقابلة لبر اليمن على أعلى بحر القلزم (البحر الأحمر) وما يتصل به من بحر الهند (المحيط الهندي)، وكانت تضم تسع ممالك هي: مملكة أوفات، وسلطنة عدل، ومملكة فطجار، ومملكة دوارو، ومملكة بالي، وداره، وشو، وهدية وشرخة ويعبر عنها بممالك الطراز الإسلامي، لأنها على جانب البحر كالطراز".

يضيف عبدالحليم "والزيالعة أو الصوماليون مغايرون ومتميزون عما حولهم، سواء من ناحية اللغة أو الدين أو العادات والتقاليد، فهم جميعاً مسلمون، وتجمعهم وحدة الأصل والتاريخ. وإن كان هناك اختلافات داخلية في ما بين فصائلهم وجماعاتهم، فهناك قبائل الصومال، وقبائل العفار (الدناكل)، وقبائل الجالا (الأرومو)، والجماعات العربية".

تجنيد العبيد

تشير المصادر إلى "حقيقة التنافس بين الأحباش والزيالعة"، وتقول إن "الأحباش بطبعهم يتعصبون لدينهم تعصباً شديداً ويمقتون ما عداه من الأديان والمذاهب، وظهرت هذه الروح في حروب متصلة بين الأحباش وممالك الزيلع استخدم فيها تجنيد العبيد لتحقيق غايات سياسية". وتورد الروايات أن "ظاهرة الرق كانت شيئاً مألوفاً عند الأحباش بمنطقة القرن الأفريقي، فشعب أمهرا كان يستعبد الألوف من الشعوب الحبشية الأخرى، وكانت الكنيسة الحبشية تشجع ذلك".

ويلفت عبدالحليم إلى أن "ملوك الحبشة كانوا يستعينون بعصابات (الشفتا) وبتجار الرقيق في حربهم ضد المسلمين، فكانت تلك العصابات تقوم بمهمتها وتعيث في الأرض فساداً".

ويروي الحميري أحد كتاب القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) أن "عملية اقتناص الرقيق لم تقتصر على عصابات (الشفتا) بل تعدتها إلى الأهالي أنفسهم، وأن بعض القرى الحبشية كان أهلها يسرقون أبناء بعضهم بعضاً ويبيعونهم إلى التجار الذين يصلون بهم إلى مصر عن طريق البر والبحر".

ويفيد السخاوي بأن "بعض ملوك الحبشة كانوا يستعينون بتجار الرقيق في سفاراتهم أو وفودهم إلى الدول الأخرى وفي ضرب المسلمين بمنطقة القرن الأفريقي".

يوضح عبدالحليم "أرسل ملك الحبشة زرء يعقوب وفداً إلى مصر عام 1444م في عهد السلطان جقمق، وكان يصحب هذا الوفد تاجر الرقيق عبدالرحمن الذي كان معه أكثر من مئتي رأس من الرقيق، ولما لم تفلح تلك البعثة الدبلوماسية في تحقيق أهدافها استعان الملك الحبشي زرء يعقوب بهذا التاجر بتجنيد عبيده في قتل سلطان سلطنة (عدل الإسلامية) شهاب الدين أحمد بدلاي بن سعد الدين، وأرى المندوب القادم من مصر بأم عينه جثة سلطان مملكة عدل، كي ينقل إلى سلطان مصر الحقيقة".

وتشير المصادر إلى أن معظم البعثات التي أرسلها ملوك الحبشة إلى سلاطين العرب تضم بين ما تحمل من هدايا لهؤلاء السلاطين العدد الوفير من العبيد والجواري الأحباش. مثال ذلك ما أرسله ملك الحبشة يجبياصيون إلى سلطان مصر المنصور قلاون عام 689ه/1290م مما جرت به العادة من العبيد والجواري.

وتدل هذه الحقائق على الدور الذي ظل يلعبه الرقيق، سواء في شكل عصابات تحرض على فعل سياسي بقتل ملك أو شن حرب، أو تغيير نظام، أو إضعاف دولة أو إزالة سلطنة. وعلى المستوى الدبلوماسي كان للعبيد والجواري تأثير سياسي في بعض الحكام.

الطموح السياسي

يقول الباحث السياسي محمد المكي إسحاق إن "الطموح السياسي يظل هو المحرك لجميع أشكال الأفعال في مختلف الأزمنة والعهود، سواء عصرنا الحديث أو غيره، ولا حرج عند بعض السياسيين من اتباع بدعة الغاية تبرر الوسيلة. والعصر الحاضر لا يمثل سوى تكرار لظروف وتحديات تتدافع بواقع محرك القوى والهيمنة التي توسعت فيها الأطماع بجانب الوسائل. ضمن التطور الذي يشهده العالم".

ويضيف "ففي العصر الحديث وبما يشهده من وسائل شتى تقوم ميليشيات المرتزقة بأعمال في غاية الخطورة من أجل تغيير أنظمة أو فرض واقع سياسي جديد كما حدث في مالي وبوركينا فاسو، وتشهد الآن عديد من الدول مثل أوكرانيا وليبيا والسودان وجمهورية أفريقيا الوسطى وزيمبابوي وأنغولا ومدغشقر وغينيا وموزمبيق وجمهورية الكونغو الديمقراطية ظروفاً وصراعات تلعب فيها هذه القوى أدواراً رئيسة. تتعدد الغايات الاستعمارية الحديثة في طموحات الهيمنة السياسية الكاملة، أو استغلال ثروات الدول والشعوب بوضع اليد عنوة، أو باتفاقيات مشتركة ذات أوصاف استعمارية تستغل فيها الدول الضعيفة".

ويقول "بينما يحسب البعض أن الشيوعية التي نبذها العالم قد انتهت إلا أن ما تبقى من شعاراتها الشريرة المخضبة بالكراهية والدماء لا تزال تردد" يؤكد أن "هذه الشعارات تطبق حرفياً الآن لدى جيوش المرتزقة الحاليين مثل فاغنر وغيرها".

جهد عالمي

يصف إسحاق ما يحدث في عالم اليوم عبر الجيوش غير النظامية وسيل الميليشيات بأنه "ينم عن تحقيق أهداف يمثل فيها المال والثروة غاية لا حيد في الوصول إليها بأبشع الوسائل من غزو وقتل وتشريد للآمنين، يمارسها نمط من البشر نزعت من قلوبهم الرحمة والإنسانية لتمتلئ حقداً لا يصده وازع دين أو أخلاق".

ويضيف "العبيد على عهود ماضية لم يكن يحجزهم عن تنفيذ الأعمال التي يحملون عليها إدراك سوى تنفيذ أوامر سادتهم مرغمين، ومن هنا يتشابه الواقع، وإن كان واقع حال العبيد هو الأخف مما ترتكبه ميليشيات المرتزقة الحاليين من جرائم في حق الشعوب والأبرياء".

ويشير إسحاق إلى "ضرورة الحد من أعمال هذه الجيوش غير النظامية بجهد عالمي تقوده جهات واعية، سواء دول أو منظمات إنسانية، كما ينبغي على الأمم المتحدة والجهات الدولية الفاعلة أن تلتفت بوازع الإنسانية إلى قانون دولي يمنع منعاً قاطعاً إنشاء هذه النوعية من الجيوش أو يضع لها مواثيق تلتزمها وتحد من انحرافاتها وجرائمها". 

في الماضي، كانت حلقات الحديد توضع على رقاب الرقيق، وتربط الأرجل مشدودة بالحبال، أما مرتزقة الحاضر (فاغنر، بلاك ووتر، الدعم السريع) فيتم إغراؤهم بالمال لتنفيذ الأوامر، والجوع والطموح مرد الأمر.

قالت غفيرة (حارسة) أحد البيوت في حي كافوري الراقي بالخرطوم بحري إنها كانت تخدم "الدعم السريع" في البيت الذي دخلوه عنوة بعد طرد أهله، وقد وعدوها بتسجيل البيت (العمارة) لصالحها وأعطوها صكاً مختوماً بذلك.