ملخص
عمارة روائية وقصصية هائلة وفقت بين الواقعية والتخييل والفلسفة والتاريخ والسخرية والبعد النفسي والفضاء الرعوي
في سلسلة "الكلاسيكيات" التي تنشرها فصلياً المجلة الأدبية الفرنسية "لير- ماغازين ليتيرير" والتي تعد بمثابة كتب مرجعية تهتم بالتراث الأدبي الفرنسي، كان العدد الجديد خاصاً بأحد أسياد الكتابة والرواية والمسرح والصحافة والنقد الأدبي أونوريه دو بلزاك (1799-1850) تحت عنوان "أوهام رؤيوي مفقودة". وفيه عاد بعض النقاد المهتمين بأدب بلزاك إلى دراسة نتاجه الذي تجاوز 90 رواية و173 قصة قصيرة، فضلاً عن نصوص مسرحية ومقالات صحافية وغيرها من النصوص نشرت جميعها بين عامي 1829-1855 باسم "الكوميديا الإنسانية"، وهي عبارة عن كوكبة من القصص والروايات صدرت في مجموعات سماها بلزاك "مشاهد" شملت "الحياة الخاصة" و"الحياة السياسية" و"الحياة الباريسية" و"الريفية" و"الفلسفية" وغيرها، وقد عزز الروائي الاتصال العضوي بينها من خلال استعانته بالشخصيات ذاتها. كان الهدف من هذه الاستعانة تأكيد ترابط الأحداث التي قد تبدو للوهلة الأولى منفصلة وإتاحة التوسع في سيرة الشخصية وبنيتها النفسية والاجتماعية ومساهمتها في سير الأحداث من حولها على مر الزمن. وقد وقع بلزاك في بداياته بعضاً منها بأسماء مستعارة.
ألقت هذه المقالات التي وقعها كل من ألكسي بروكا وكلود كوست ولور دومانس وإيفلين بلوك-دانو وروبير كوب وجان مونتونو وغيرهم، الضوء على تجربة أدبية فريدة تداخلت في مسرى حياة كاتبها الموسوم بالضائقة المالية والمغامرات النسائية. وقد راكم بلزاك في سبيل التخلص من ديونه والاستمرار في علاقاته العاطفية كتابة الروايات والقصص والمقالات، حتى بنى من دون أن يدري عمارة سردية هائلة، وضعته مع غوستاف فلوبير في مصاف كبار الروائيين وفي طليعة رواد الرواية الفرنسية الواقعية التي عكست كالمرآة الحياة كما هي، بلا تزييف أو مواربة، عبر معالجة قصص حياة الطبقة الوسطى أو الطبقة العاملة ومسائل العمل لقاء أجر والعلاقات الزوجية والصدامات الاجتماعية وغيرها من المواضيع، مصورة أحوال المجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر في الفترة الممتدة من 1815 حتى 1830.
وتتبعت هذه المقالات سيرة هذا المبدع الذي كانت حياته عبارة عن معاناة من الديون التي أثقلت كاهله بسبب الاستثمارات التي غامر بالقيام بها، إذ قضى عمره فاراً من دائنيه مختفياً وراء أسماء وهمية عائشاً في منازل مختلفة مع عديد من النساء من كل الأعمار قبل أن يتزوج عام 1850 من إيڤلينا هانسكا وهي أرستقراطية روسية من أصل بولوني ظل يتودد إليها لأكثر من سبعة عشر عاماً.
الصفة البلزاكية
في افتتاحية هذا العدد لاحظ رئيس التحرير ألكسي بروكا أن شعبية أي كاتب كلاسيكي تقاس أيضاً بالنعوت والصفات المختلفة المشتقة من اسمه. ففي اللغة الفرنسية تشير صفة "البلزاكية" ليس فقط إلى النسبة إلى بلزاك، بل أيضاً إلى العلاقات الغرامية الملتوية، كما تشير في مجال المؤلفات إلى السعة والغزارة وإلى الشخصيات المركبة والمعقدة في ملامحها الداخلية والخارجية. مما يعني أن نعت "البلزاكية" تعدى اسم صاحبه بحيث أصبح مع الوقت مرادفاً للدلالة على كل ما يشبه عالم بلزاك السردي في اعتراف صريح بأثر هذا الكاتب في الفكر والثقافة الفرنسية. وبلزاك هو سيد الرواية الفرنسية بلا منازع. قارب كل أنواعها من فلسفية وعاطفية وتاريخية ونفسية وهزلية وريفية وخيالية، الطويلة منها والقصيرة، لكنه برع بشكل خاص في سياق الرواية الواقعية، لا سيما مع روايتي "الأب غوريو" و"أوجيني غراندي".
في التمهيد الذي وضعه لـ"الكوميديا الإنسانية" أوضح هو نفسه أن مشروعه الروائي قائم على توثيق مختلف مظاهر الحياة وتحديد "الأنواع الاجتماعية" الموجودة في عصره، على طريقة الأحيائي بوفون الذي قام في القرن الثامن عشر بتحديد الأنواع الحيوانية المختلفة. ولاحظ بلزاك من خلال قراءاته لنصوص الأديب الاسكتلندي والتر سكوت أنه يمكن للرواية أن تحظى بقيمة فلسفية بسبب استكشافها الطبقات الاجتماعية المختلفة وحياة الأفراد الذين يؤلفونها من أجل "كتابة التاريخ الذي نسي كثير من المؤرخين كتابته"، أي تاريخ الأعراف والتقاليد والعادات والسلوكيات الإنسانية. وهذا ما دفع بكل من ماركس وإنجلس إلى إبداء إعجابهما بروايات هذا الكاتب العظيم. وقد وصل اهتمام ماركس بأعمال بلزاك حد الإشارة إلى رواياته في مؤلفه الشهير "رأس المال". كذلك فعل إنجلس حين قال إنه تعلم من بلزاك أكثر مما تعلم من خبراء الاقتصاد والإحصاء والتاريخ. ويقال إن ليون تروتسكي انصرف مرة باهتمام كبير إلى قراءة رواية لبلزاك بينما كان يحضر اجتماعاً للجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي، علماً أن بلزاك دافع عن الملكية وشرعية أسرة بوربون الفرنسية التي حكمت إمبراطورية أوروبية شملت شمال إسبانيا وممالك نابولي وصقلية وبارما، مما وضعه على الطرف النقيض لعمالقة آخرين معاصرين له أو لاحقين كفيكتور هوغو الذي كان جمهورياً ديمقراطياً.
مواجهة البرجوازية
رافق بلزاك تحولات المجتمع الفرنسي في عصره ووصف في رواياته، صعود الرأسمالية وانطلاق البرجوازية ومواجهتها للنبلاء في علاقة معقدة تتكون في الوقت عينه من الازدراء والمصالح المشتركة. ولأنه كان مهتماً بشكل خاص بالشخصيات السائرة نحو مصائرها، انتقى شخصياته من الواقع ثم حولها، بعد بحث ودراسة، إلى شخصيات روائية بث فيها الحياة، ثم حدد لها مسارها بدقة، بحيث أصبحت جميعها، بما فيها الشخصيات الثانوية كشخصية البوابة، على ما يقول بودلير، شخصيات فذة مركبة بعبقرية واضحة.
يعود مصدر الواقعية في كتابات بلزاك إلى وصفه الدقيق لأبطاله وللبيئة التي يعيشون فيها. فهو يؤمن أن "العمل الروائي العظيم يكمن في التفاصيل"، لذا نراه يسرف في وصف الشخصيات وهيئاتها وأماكن وجودها لاعتقاده أن الإغراق في نقل دقائق الأحداث والإسهاب في وصف الأبطال مهم لبث الروح في الرواية التي تتطلع إلى نقل صورة أمينة للوجود الإنساني كما هو على أرض الواقع. وبما أن الوجود الإنساني يترافق في كثير من الأحيان مع الحزن والتشاؤم والصراع والقهر والسقوط في الهاوية والابتذال أكثر مما مع الفرح والسعادة، ها هو ذا إميل زولا يطلق على بلزاك لقب "أبو الرواية الطبيعية"، مبرراً قوله بأن الرومانسيين ينظرون إلى العالم عبر عدسة ملونة، بينما ينظر إليه بلزاك عبر عدسة صافية لا لون لها.
والواقع أن أونوريه دو بلزاك اعتنى في رواياته وقصصه بأمرين: الجانب المظلم الكامن في الطبيعة البشرية، و"التأثير الفاسد للطبقات الوسطى والعليا في المجتمع". وهذان الأمران لم يستلزما منه على سبيل البحث والتقصي أكثر من الخروج إلى الشارع ومراقبة الناس ومجريات حياتهم ليعود بالمواد المطلوبة لكتابة رواياته. ويقول دارسو بلزاك إن نظرته إلى الوجود الإنساني تغيرت عبر الزمن، إذ انتقلت من اليأس إزاء ظلمة الحياة إلى نوع من التضامن معها. وهذا واضح في واحدة من أهم رواياته وهي "جلد الأحزان"، التي عكس بلزاك فيها صورة متشائمة للواقع وسط قدر هائل من الدمار والفوضى. غير أنه في روايات لاحقة مثل "أوهام ضائعة" فاض في التعبير عن تعاطفه مع المعذبين والمسحوقين الذين همشهم المجتمع وأفقدهم القدرة على المساهمة الإيجابية في تقدمه. ويبدو أن هذا التغير في نظرته إلى الوجود تأتى من قناعته بأن الرواية هي "أفضل تعبير عن الديمقراطية الأدبية" لكونها "تكتب للجميع بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها القارئ".
سيرة كاتب
وأونوريه دو بلزاك المولود عام 1799 في وسط فرنسا، وتحديداً في مدينة تور على ضفاف نهر اللوار، لعائلة متوسطة الحال، من أب هو برنار- فرنسوا بلسا الذي غير اسم عائلته إلى بلزاك، وآن-شارلوت سالمبيه، الأم التي تصغر زوجها بـ32 سنة، والتي عرفت باهتمامها بالتنويم المغناطيسي أكثر من اهتمامها بابنها وابنتها لور، شقيقة بلزاك الوحيدة والتي ستصبح أيضاً أديبة، وإن لم تصب مثله قدراً كبيراً من الشهرة والنجاح، هو كاتب وروائي ذائع الصيت ولو دخل عالم الكتابة بهدف جني المال وبناء القصور، ولم يفكر يوماً أنه سيصبح أديباً عالمياً.
بدأ بلزاك دراسته في ثانوية مدينة ڤاندوم، حيث لاحت تباشير موهبته واهتمامه بالقراءة النهمة للكتب الأدبية والفلسفية، لا سيما مؤلفات ديكارت ومالبرانش. في العشرين من عمره وضع مع مجموعة من الأصدقاء قصصاً وقعها بأسماء مستعارة، كان من أبرزها تراجيديا شعرية سياسية لم يتمكن من نشرها بعنوان "كرومويل". فيها نقل مجازاً من خلال شخصية القائد العسكري والسياسي الإنجليزي المراوغ الذي واجه الملك شارل الأول، أحداث الثورة الفرنسية والعصر النابليوني، محاولاً المقابلة ما بين قيم النظام السياسي القديم وعالم ما بعد الثورة وسخريته البورجوازية، كما حاول ترجمة مؤلفات الفيلسوف الهولندي سبينوزا من اللاتينية إلى الفرنسية.
في هذه الفترة من حياته انتقل بلزاك إلى العيش في باريس حيث كتب أيضاً أعمالاً أكثر نضجاً مثل "وريثة بيراغ" و"جان-لويس" و"المئوية" و"كاهن الأردين" وقصصاً أخرى كثيرة، مما فتح أمامه أفق علاقة غير متكافئة مع بعض سيدات الصالونات الأدبية، اللاتي أقام معهن علاقات عاطفية وكتب لهن نصوصاً غزلية، على رغم دخوله مجال دراسة الحقوق وعمله في مكتب أحد المحامين ومتابعته بعض الدروس في جامعة السوربون وكتابته كماً هائلاً من القصص التجارية ودخوله عالم النشر والطباعة والمكتبات.
هكذا بدأت علاقته بالكونتيسة دابرانتس وبالسيدة دو بيرني، التي مدته بالمال ودفعته إلى كتابة مزيد من القصص. إلا أن عمل بلزاك في مجال النشر والطباعة لم يدم طويلاً، علماً أن قلمه السيال ظل يفيض، إذ نشر "الثوار الملكيون" و"فيزيولوجيا الزواج" التي حققت نجاحاً باهراً، و"منزل الهر المداهن" و"إكسير الخلود" وغيرها من القصص والروايات، كما شارك في كتابة روايات مسلسلة نشرتها تباعاً بعض الصحف السياسية. وعلى رغم بعض الهنات والعيوب التي شابت بعض كتاباته المبكرة والتي نشرها باسم هوراس سان-أوبان، فإن كل نصوص بلزاك احتوت وفقاً لقراءة أندريه موروا، بذور رواياته المستقبلية.
عبقرية أدبية
أمام غزارة إنتاجه راجت في الأوساط الأدبية الفرنسية آنذاك شائعة جنونه وتقمصه روحاً أدبية عبقرية سمحت له بهذا التدفق الخلاق. غير أنه بعد نشره رائعته "أوجيني غراندي" التي حملت له بعض المال والشهرة، تابع بلزاك نشر أعمال أخرى أكثر إتقاناً كـ"سيرافيتا" التي عكست اهتمامه بكتابات العالم والفيلسوف والصوفي السويدي عمانوئيل سويدنبورغ، و"الشوان" وهي رواية تاريخية عن فلاحي مقاطعة برتاني الذين شاركوا في تمرد ضد فرنسا الثورية عام 1799، و"الأب غوريو" الثري الساكن في نزل الأرملة فوكير، إلى جانب ڤوتران وطالب الحقوق أوجين دو راستينياك المنحدر من أسرة ريفية متواضعة والمنبهر بالحياة الباريسية والذي سرعان ما ترك مقاعد الدراسة في محاولة للدخول في المجتمع الراقي من طريق الزواج والقتل والسرقة والبحث عن المال والسلطة مهما كلف الثمن وغيرها من الروايات. وكثيراً ما تحدث بلزاك على هامش كتاباته عن المهمة النبيلة الملقاة على كاهل الكاتب، الذي يستحق بحسبه تسلم زمام السلطة بالمعنى الفكري، فناضل بكل ما أوتي من قوة من أجل احترام حقوق النشر وأسهم في تأسيس جمعية أهل الآداب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن نضالاته وأعماله الصحافية كمحرر ورئيس تحرير لم تمنعه من مواصلة الكتابة الروائية والمغامرات العاطفية التي قادته ذات يوم إلى التعرف إلى الكونتيسة إيڤلينا هانسكا البولونية الثرية ذات الثقافة الفرنسية، التي سرعان ما أصبحت عشيقته والتي كان لها أثر كبير في حياته، وقد ظل يبادلها الرسائل بانتظام على مدى 13 سنة، لكنه كان غير قادر على الزواج منها بسبب كم من المسائل القانونية المرتبطة بإرث زوجها الذي كان يكبرها بأعوام عديدة. وقد رافقها بلزاك في أسفار طويلة حتى الإقامة معها في أوكرانيا، من دون أن يمنعه ذلك من إصدار الروايات وكتابة المقالات التي دافع فيها عن أعماله وعن عدم تعارضها مع الأخلاق العامة كما في الرسالة التي وجهها إلى هيبوليت كاستيل.
كان هوس بلزاك بالكتابة كبيراً، مما دفع بعديد من دارسيه إلى التساؤل عن كيفية تمكنه من وضع هذا الكم الهائل من الكتب والمقالات في حياته القصيرة نسبياً، والذي ظل بعضها طي أوراقه التي لم تنشر. ولعل الإجابة عن هذا السؤال تكمن أولاً في عبقرية الروائي. وهذا ما سعت إلى تبيانه عشرات الكتب التي تناولت حياة بلزاك ونتاجه بالدرس والتحليل.
تلفتنا مقالات هذا العدد الجميل، لا سيما تلك التي حاولت الإحاطة بمسرى حياته من خلال أسئلة ثمانية أو تلك التي حاولت البحث عن راهنية فكره وأهميته بالنسبة إلى الإنسان المعاصر كالحوار الذي أجرته أوريلي مارسيرو مع تيتيو لوكوك حول كتابها المعنون" أنا وأونوريه" الذي تروي فيه زيارتها ذات يوم منزل بلزاك وأثر قراءة مؤلفاته في حياتها ومعنى النجاح في القرن الحادي والعشرين وغيرها من المقالات والدراسات القيمة، مما يجعل من هذا العدد، الذي لا بد من اقتنائه في مكتبة كل مهتم بالأدب الفرنسي بعامة وأدب بلزاك بخاصة، مرجعاً مهماً في فهم الكتابة البلزاكية الفذة.