ملخص
"في أي حرب طويلة تتطور أهداف طرفي الصراع"
لا شيء اسمه "عملية عسكرية خاصة" في حرب شاملة صار عمرها 17 شهراً، ولا شيء اسمه "هجوم مضاد" دخل شهره الثاني من دون نتائج حاسمة، فهما عملياً فشل مزدوج في "حرب لا يمكن ربحها" كما يرى صموئيل شارب من "راند" في مقال نشرته "فورين أفيرز"، لكن طرفي الحرب مصرّان على الاستمرار في القتال، من حيث يتصور كل منهما أنه قادر على إحراز النصر عسكرياً. الرئيس فلاديمير بوتين يراهن على تعب الغرب من تقديم المال والأسلحة إلى كييف ويأس الأوكرانيين، ويوحي أنه لن يتعب مهما تكن الخسائر المادية والبشرية، والرئيس فولوديمير زيلينسكي يؤكد أن جيشه قادر على استعادة كل الأرض التي احتلها الروس في دونباس شرقاً وجنوباً، وحتى في شبه جزيرة القرم، وكل محاولات الوساطة لوقف الحرب لم تحرز أي تقدم، زيلينسكي يرفض التفاوض قبل الانسحاب الكامل للروس، ولا يرى إمكان سلام مع روسيا ما دام بوتين في السلطة، وبوتين المتمسك بتحقيق أهدافه يسمح له التعديل الدستوري بتجديد رئاسته، حتى عام 2036، ويعرف أن الانسحاب هو نهايته، أما إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التي تقود "الناتو" في دعم أوكرانيا بكل شيء، فإنها "تتجنب رؤية نهاية اللعبة، وتركز على ما يمكن أن تفعله اليوم وغداً وفي الأسبوع المقبل لتقوية يد أوكرانيا إلى الحد الأقصى المتاح" كما يقول مستشار الأمن القومي جيك سوليفان.
لكن الهجوم الروسي الذي تحوّل عملياً مشكلة لروسيا وأوكرانيا صار مشكلة للعالم كله، مشكلة أمن غذائي، مشكلة تضخم وارتفاع أسعار، ومشكلة صراع استراتيجي وجيوسياسي، فالأحداث البارزة تقود إلى تحولات أساسية، سقوط الاتحاد السوفياتي أدى إلى موجة ديمقراطية عالية في بلدان عدة وليبرالية اقتصادية، بصرف النظر عن مبالغات فرانسيس فوكوياما حول "نهاية التاريخ" والتي أكدت الأحداث خطأها، لأن التاريخ لا ينتهي ما دامت الصراعات دائمة وإن تبدلت أسبابها وآلياتها، ظهور "القاعدة" ثم "داعش" وبقية التشكيلات الراديكالية الإرهابية فتح الطريق لأكبر استنفار أمني عالمي، وحرب أوكرانيا قادت إلى "عسكرة" أوروبا بعد عقود من الاسترخاء والرحلة المجانية في قطار الأمن الأميركي، كما إلى "عسكرة" العالم حتى الفقير الذي يشتري السلاح على حساب الخبز.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والمفارقات مذهلة، حرب تجمع ثلاثة مستويات، فهي، من حيث المفترض أن تكون نموذج الحرب في القرن الـ 21، تدور عبر الخنادق وفي الوحل والمواجهات بين أعداد ضخمة من العسكر ولها سجل كبير من الضحايا، بحيث تبدو مثل مشاهد "الحرب العالمية الأولى 1914 أو معركة ستالينغراد 1942" بحسب أستاذة التاريخ الدولي الفخرية في "أكسفورد" مارغريت ماكميلان مؤلفة "حرب: كيف شكّلنا الصراع" و"الحرب التي انهت سلاماً: 1914"، وهي تدار، مع ذلك، بتكنولوجيا القرن الـ 21 وأسلحته، وبين الخبراء من يتصور أن نهايتها ستكون على طريقة حرب كوريا في خمسينيات القرن الماضي، أي خط هدنة وفصل بين أوكرانيا و"روسيا الجديدة" الأوكرانية كما بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. جزء تحميه روسيا، وجزء تحميه أميركا، وليس هذا ما كان الهدف الحيوي في تصور بوتين لجهة سيطرته الكاملة على أوكرانيا وترتيب نواة المشروع الأوراسي بين روسيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا.
وكما لعب بالتاريخ والجغرافيا في الهجوم على أوكرانيا بحجة القضاء على "النازية الجديدة" ومنع تمدد "الناتو" إلى "الحديقة الخلفية" للكرملين، يلعب بهما عبر اتهام بولندا وليتوانيا بالعمل على "تأجيج الصراع لخدمة أطماع بضم أراض أوكرانية"، لا بل قال إن بولندا "حصلت على أراض واسعة بفضل ستالين"، وما حدث هو أن "الناتو" تمدد إلى حدود أخرى لروسيا مع فنلندا والسويد، وصارت أوكرانيا قريبة منه بدل مشروع الحياد الذي كان مطروحاً عشية الغزو.
و"القانون" الواقعي، بحسب مارغريت ماكميلان، هو أنه "في أي حرب طويلة تتطور أهداف طرفي الصراع"، وهذا ما يبدو واضحاً في حرب أوكرانيا، لكن التطور ليس دائماً نحو الأفضل.