ملخص
المسؤول الأميركي السابق ستيفن سيمون في كتابه "الوهم الكبير" يضع سرداً لـ40 عاماً من الاشتباك في الشرق الأوسط ويتنبأ بأن تتلاشى المنطقة من أولويات الولايات المتحدة مستقبلاً.
لعلنا في هذه الأيام على أعتاب فتح جديد في الشرق الأوسط، فمنذ أيام قليلة كتب توماس فريدمان في "نيويورك تايمز" ـ بناءً على معلومات استقاها من حوار مع الرئيس الأميركي شخصياً داخل المكتب البيضوي ـ أن جو بايدن يدرس حالياً إمكانية أو استحالة إبرام اتفاق كبير لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، يتضمن أيضاً تحالفاً أمنياً بين الرياض وواشنطن ربما يكون في مستوى تحالف دول الناتو.
لن يكون هذا ـ في حال تحققه ـ نقطة تحول في العلاقة بين الرياض وتل أبيب، ولكنه سيكون دليلاً عملياً على تحول في السياسة الأميركية نفسها. فمنذ سنوات ونحن نرى دلائل واضحة على انسحاب القوة العظمى من منطقتنا التعيسة، وتضاؤل اهتمامها بها مقارنة بأخطار من قبيل المنافسة مع الصين أو الغزو الروسي لأوكرانيا.
ولعل هذا التراجع الأميركي بدأ مع الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي لم يستغل كل فرصة ممكنة لإيضاح اهتمامه المتزايد بشرق آسيا وتبرمه من الشرق الأوسط ومن فيه، ثم تأكدت الاستراتيجية الجديدة مع الرئيس السابق دونالد ترمب الذي بدا في أدائه على صعيد السياسة الخارجية في الشرق الأوسط بالذات تاجراً يبحث عن أكبر قدر ممكن من الربح بأقل قدر ممكن من الكلفة أكثر مما بدا سياسياً بعيد النظر، لكن ذلك التراجع، أو التراجع عن التراجع كما يبدو أخيراً جداً، ليس إلا أحدث المنعطفات في علاقة واشنطن بالمنطقة، وربما لم يحن الوقت بعد لأن نتنفس الصعداء ونمني أنفسنا بشرق أوسط بلا أي نفوذ أميركي.
صدر حديثاً في الولايات المتحدة كتاب يرصد الحكاية كاملة، أعني حكاية اشتباك إدارات الولايات المتحدة مع منطقة الشرق الأوسط منذ جيمي كارتر وحتى الآن. الكتاب عنوانه "الوهم الكبير: قيام وانهيار الطموح الأميركي في الشرق الأوسط" وهو من تأليف ستيفن سيمون، خبير السياسة الخارجية الأميركي المخضرم والموظف المرموق السابق في دوائر صنع القرار الأميركي المختلفة.
يكتب سيمون أن "الكتاب يتناول ضمنياً منحنى مسيرتي المهنية الذي يتصادف أنه يصور بدقة منحنى العمل الأميركي في الشرق الأوسط. لقد كانت أول مهمة لي وأنا موظف مدني شاب هي صياغة استراتيجية دبلوماسية لتيسير خطط إدارة ريغان للعمليات العسكرية في الشرق الأوسط، وكان آخر مناصبي الحكومية أن عملت مديراً رفيعاً في مجلس الأمن الوطني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وانتهيت في البيت الأبيض شاهداً على رفض أوباما الهجوم على إيران أو نشر قوات برية في سوريا".
فالكتاب إذاً شهادة مشارك في بعض الأحيان، ومطلع في معظم الأحيان، على رحلة أميركا مع الشرق الأوسط في العقود الأربعة الأخيرة، ومن هنا جدارته بالقراءة.
تاريخ لا يرحم
يصف أندرو إكسوم، عبر صحيفة "واشنطن بوست" في 20 أبريل (نيسان) الماضي، كتاب ستيفن سيمون بأنه "تاريخ لا يرحم" و"لا ينجو منه إلا القليلون"، فليس لدى أحد من الساسة الأميركيين ـ في رأي سيمون ـ سواء في إدارات الجمهوريين أم الديمقراطيين، ما يمكن أن يفخر به.
يكتب إكسوم أنه إلى حد ما طرف في الكتاب الذي يعرضه قائلاً، "فلقد عملت وكيلاً لوزارة الدفاع لشؤون سياسة الشرق الأوسط لمدة عامين. ولم أعمل قط مع سيمون، لكنني أعرف كثيراً من الذين يتناولهم الكتاب بدرجات متفاوتة من النقد. بعض هؤلاء قرأوا مسودات أولية للكتاب، بحسب ما يخبرنا سيمون وتساءلوا ـ مثلما تساءل باحثون وصحافيون مرموقون استطلع المؤلف آراءهم في كتابه ـ عما لو كان المؤلف قد أفرط في قسوته. وهؤلاء القراء بحسب ما يعترف الكاتب صراحة، يوعزون أحكام الكتاب السلبية إلى وضوح الرؤية بأثر رجعي".
يضيف أن مشكلة كتاب "الوهم الكبير" تكمن في أنه "كثيراً ما يقع في مثل الفخ الذي أحبط إدارات أميركية متتابعة، وهو فخ المغالاة في تقدير أهمية أفعالنا حقاً. لقد كان للتدخلات الأميركية في الشرق الأوسط في بعض الأحيان آثار هائلة في مصائر الشعوب هناك، وأبرز تلك الحالات غزو العراق في عام 2003، لكن أموراً كثيرة مثيرة للاهتمام تحدث في المنطقة أيضاً والأميركيون غير حاضرين، وهذه الأمور ـ ومنها القومية العربية والتيارات المختلفة من الإسلام السياسي والأيديولوجيات الصهيونية المتنافسة ـ أهم من معظم النقاشات التي تجري في (غرفة العمليات) الأميركية"، وذلك لأن "قرابة 400 مليون من العرب والإسرائيليين والأكراد وجماعات أخرى يعيشون في المنطقة، لكن الكاتب بتركيزه شبه الحصري على أفعال الأميركيين ينفي عملياً دور أبناء المنطقة في خلق مصيرهم".
فهل هذا مأخذ حقيقي على الكتاب أم أن أندرو إكسوم ـ الذي خدم في حربي الكويت وأفغانستان مع الفرقة العاشرة وفي العراق مع الفوج الـ75 ـ كان يطمع فقط في توزيع المسؤولية، واللوم بالتبعية، على آخرين؟ مهما تكن الإجابة فإن إكسوم يمضي فيقول إن تركيز سيمون لم ينصب على أفعال الأميركيين وحسب، بل اختص من الأميركيين أنفسهم فئة دون غيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"الوهم الكبير" يركز أساساً على أفعال الجناح التنفيذي وتتناول فصوله الإدارات الأميركية المتعاقبة، ولا يكاد يعرض لدور الكونغرس، وكذلك لأدوار الوزارات والهيئات التي لم يعمل فيها سيمون بنفسه، في حين أن الكونغرس، بصرف النظر عن سيطرته على الأموال، هو الذي يصوغ ويضبط سياسة الشرق الأوسط بطرق مختلفة ـ من قبيل مطالبته الولايات المتحدة بالحفاظ على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل على الأعداء المحتملين في المنطقة.
ثم يستدرك إكسوم قائلاً "لكن لعل أحكامي أنا الآخر مفرطة القسوة، فهذا كتاب منير، مكتوب بذكاء فارق وناجم عن اطلاع واسع"، وليس غريباً أن يكون كذلك وقد عمل مؤلفه مع إدارتي بيل كلينتون وباراك أوباما عضواً في مجلس الأمن الوطني "الذي يبدو أحياناً وكأنه مركز الكون" على حد وصفه.
أولويات أميركا البعيدة
أما الرئيس السابق للاستخبارات البريطانية جون سويرز فكتب بدوره على صفحات صحيفة "فايننشال تايمز" في 16 أبريل الماضي، أن الشرق الأوسط بدا سمة أساسية في السياسة الخارجية الأميركية على مدى العقود القليلة الماضية، لدرجة أننا "ننسى أن رؤساء أميركيين منذ ترومان وحتى نيكسون لم يهتموا بالمنطقة إلا قليلاً. وباستثناء حربي 1967 و1973 بين العرب وإسرائيل، كانت أولويات أميركا بعيدة عن المنطقة، لكن ذلك تغير مع جيمي كارتر الذي حقق نجاحاً واحداً كبيراً في السياسة الخارجية هو وساطته في اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، كما حقق فشلاً أكبر بعدم تحريكه ساكناً عند سقوط نظام الشاه في إيران ثم تعرضه بعد ذلك لمذلة احتلال السفارة الأميركية التي ربما حرمته من ولاية ثانية في البيت الأبيض... فانجذب خلفاؤه منذ ريغان وحتى اليوم إلى الشرق الأوسط باعتباره أرض الفرص والخطر".
يقول سويرز "في سرد بارع لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة على مدى 45 عاماً، يعتمد ستيفن سيمون على مسيرته المهنية في وزارة الخارجية وفي مجلس الأمن الوطني خلال إدارتي كلينتون وأوباما، فقد أتاحت له هذه المسيرة أن يرى من الداخل ويصف تفاصيل كثير من الإخفاقات، بدءاً بتدخل ريغان الكارثي في لبنان وحتى نتائج غزو جورج دبليو بوش للعراق عام 2003 واستجابة باراك أوباما المضطربة للربيع العربي. والكتاب يصدر في وقت مناسب تماماً، يشهد تراجع الولايات المتحدة في المنطقة وصعود لاعبين آخرين ـ روسيا والصين".
ويضيف "يشير الوهم الكبير المقصود في عنوان الكتاب إلى فرض الأفكار الأميركية المتعلقة بالحرية والمجتمع على واقع الشرق الأوسط غير المتناغم مع هذه الأفكار. تبدأ القصة بمحاولة ريغان دعم أهداف إسرائيل في لبنان بعد غزو عام 1982، وهذا هو النموذج الأول الذي يدلل به سيمون على تخبط الخطط القائمة على نوايا وردية".
يشير جون سويرز إلى أن "ضمان أمن إسرائيل كان نقطة مستمرة على مدى الإدارات الأميركية، أما محاولات البحث عن حل للقضية الفلسطينية فكانت دائمة في مقام متأخر، وكلها فشلت. ويطرح سيمون ـ وهو نفسه يهودي ـ السؤال الحساس عما إذا كان الفريق الذي قاد السياسة الأميركية تجاه القضية الإسرائيلية الفلسطينية على مدى الإدارات الأميركية المختلفة ـ وهو فريق مؤلف غالباً من يهود ـ كان أشد التزاماً بأهداف إسرائيل فأعجزه ذلك عن التوصل إلى نتيجة".
والعراق بالطبع حاضر على مدى الكتاب. يكتب جون سويرز أن "سيمون يتحدى الرأي السائد بأن حرب جورج بوش لإخراج القوات العراقية من الكويت عام 1991 كانت ناجحة. ويشكك في أن قرار اللجوء إلى حل عسكري كان قراراً صائباً، كما يعتقد سيمون أن عدم إتمام بعض المهام في العراق هو الذي جعل حرب العراق الثانية أمراً محتوماً".
ويكاد غزو العراق يمثل في الكتاب ـ كما في السياسة الخارجية الأميركية كلها ـ علامة فارقة للتدخل الأميركي في الشرق الأوسط، إذ حاول بعده كل من باراك أوباما ودونالد ترمب وجو بايدن، كل بطريقته، أن يحجموا اشتباكهم بالمنطقة.
مآخذ على الأميركيين
لا يكاد سيمون يترك قضية اشتبكت معها الإدارات الأميركية في المنطقة إلا ويجد فيها مآخذ على الأميركيين، ابتداء برد الفعل العنيف المغالى فيه على هجمات 11 سبتمبر وما منيت به الولايات المتحدة في حربي أفغانستان والعراق من خسائر بشرية كبيرة فضلاً عن الأموال الطائلة، ثم ارتباك باراك أوباما حيال ما يسمى الربيع العربي وجسامة أضرار خياراته ـ على اختلافها ـ في حالتي ليبيا (إذ أسهم في إطاحة شريك في مكافحة الإرهاب) وسوريا (التي لم يسهم فيها بالقدر نفسه في إطاحة نظام الأسد)، ثم نكوص دونالد ترمب عن الصفقة النووية الإيرانية ـ وهي نجاح أوباما الوحيد في المنطقة.
وحتى الاتفاقات الإبراهيمية يرى سيمون أنها كانت "بسيطة غير مصقولة وذات أغراض تجارية". ولا يعرف القارئ إزاء هذا السرد للأخطاء والخطايا الأميركية إن كانت غاية سيمون من تاريخه هذا أن يسهم في تحسين تعامل الولايات المتحدة مع قضايا المنطقة أم أنه يسهم في إثناء بلده عن الاشتباك مع المنطقة برمتها.
فالحقيقة أن مستوى اشتباك الولايات المتحدة مع منطقة الشرق الأوسط ـ بل ومستوى دعمها لإسرائيل ـ يمثل في الآونة الأخيرة قضية مطروحة للنقاش في الداخل الأميركي. ولعل أحدث ما صادفنا في ذلك مقال الباحث غريغ بريدي زميل أول في مركز ناشونال إنتريست "موقع ناشونال إنتريست ـ 25 يوليو (تموز) الماضي"، الذي كتب أن شكوى بعض الأنظمة العربية من "انسحاب" الولايات المتحدة من المنطقة إنما "تكذبها الحقائق. فلم تزل واشنطن المتحدة تحتفظ بوجود بحري قوي في الخليج العربي، ولا تزال لديها أصول جوية كبيرة على البر في المنطقة، بجانب معدات مثبتة مسبقاً لقوات برية. وهذا وإن يكن تقليلاً كبيراً وواضحاً عن المستويات السابقة لحقبة ما بعد 11 سبتمبر فإن من الممكن مقارنته بالمستويات المعروفة في تسعينيات القرن الماضي في أعقاب حرب الخليج الأولى عام 1991، وهو أعلى كثيراً من مستويات أصول القيادة المركزية في مسرح العمليات التي كانت سائدة في الثمانينيات. فالولايات المتحدة لا تنسحب من الأمن الإقليمي لكنها بالأحرى ترجع إلى مستوى أكثر طبيعية".
يكتب جون سويرز أن "ستيفن سيمون يتنبأ بأن يتلاشى الشرق الأوسط من أولويات الولايات المتحدة، تماماً كما حدث لأميركا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا في سبعينيات القرن الماضي. ولست واثقاً من هذا. فمثلما حدث لآل باتشينو في الجزء الثالث من فيلم (العراب)، في الوقت الذي تتصور فيه أميركا أنها خارجة من الشرق الأوسط، تتآمر الأحداث لإرجاعها سيرتها الأولى".
سرد وسيرة
يكتب ستيفن سيمون أن (الوهم الكبير) فضلاً عن "كونه سرداً لـ40 عاماً من الاشتباك في الشرق الأوسط فإنه أيضاً سيرة ذاتية، وإن تكن سيرة يختفي راويها إلى حد كبير عن الأنظار". ولعل هذا الوصف يصدق على كثير من قراء الكتاب أيضاً. صحيح أننا لم نشارك في اجتماعات الغرف المغلقة، ولم نطلع إلا على أقل القليل مما جرى فيها في كل مرة بدا فيها أن الشرق الأوسط ينقلب رأساً على عقب، لكننا نحن الذين ينقلب على رؤوسهم الشرق الأوسط كلما انقلب أو أوشك على الانقلاب، ومن هنا قد تشعر بأن هذا الكتاب بمثابة سيرة لجانب من حياتك، جانب عشناه فعلاً، ولم تزل تزدحم رؤوسنا بذكرياته بل أشباحه، لدرجة أن يستشعر المرء شيئاً من الغرابة كلما كتب كاتب عن هذا الكتاب فوصفه بالتاريخ! فهذا بالنسبة إلينا، هنا في بلاد الشرق الأوسط، لم يزل الحاضر المعيش، لا نحتاج عند دراسته إلى الرجوع إلى الوثائق والملفات، بحسب البعض منا تنشيط ذاكرته، وبحسب البعض الآخر النظر إلى صور مكللة بالسواد في غرف بيته، بل بحسب بعضنا أن يكتفي بتحسس ندوبه.
العنوان: Grand Delusion: The Rise and Fall of American Ambition in the Middle East
تأليف: Steven Simon
الناشر: Penguin Press