ملخص
"حائط خامس" رواية أشخاص متعددي الهويات جمعهم الحب الشائك وفرقهم
في الرواية السابعة للشاعر والكاتب اللبناني عباس بيضون (1945) وهي بعنوان "حائط خامس" (دار نوفل)، يسلك سبيلاً آخر، وإن يكن غير متناقض مع مسالكه في رواياته السابقة، عنيتُ سبيل الرواية الأطروحة، أو القضية، على الطراز الذي أُرسي مع ألان روب-غرييه عبر تيار الرواية الجديدة، والذي أطلق حرية الكاتب في ابتكار الطرائق الأنسب له للسرد، أو الوصف، أو زاوية النظر أو القضية المطروحة، أو الفنون الأدبية المتداخلة مع السرد، وغيرها.
إطار زمني ومكاني
إذاً، يختار الكاتب أن يجعل الرواية متعددة الأصوات، بل متعددة وجهات النظر، كلّ منها تدلي برأيها، عبر أسلوب المناجاة أو المونولوغ الداخلي، في القضية المطروحة أو المستفادة من السرد الذي تتولاه كل شخصية على حدة، وبما يتعلّق بقسطها من القضية. ومفادها بأنّ خمس شخصيات من ديانتين مختلفتين، مسيحية وإسلامية، كانت تحيا في نوع من التعايش والتواصل في ما بين أفرادها، حتّى أن الشيخ عبدالرحمن الشاب أحبّ فتاة من جيرانه المسيحيين تدعى غريس، ولكنّ الأعراف السائدة لدى كلتا الجماعتين، كانت تحول دون لقائهما. ولئن كان الإطار المكاني، في الرواية، مجهولاً أو مرمّزاً بأنْ جعله الكاتب في مدينة "واصل"-وليس من مدينة في لبنان بهذا الاسم- فإنّه يمكن القارئ أن يحيله على إحدى المدن الجنوبية التي تنقّل إليها الكاتب، بين صور وصيدا وبيروت.
ويزداد وثوق القارئ بانطباعه حول الإطار المكاني، عبر ما يورده الكاتب بيضون عن زمن القص الواقعي، وهو بين منتصف السبعينيات من القرن العشرين، قبيل اندلاع الحرب الأهلية وبعد حادثة بوسطة عين الرمانة التي قضى فيها 27 فلسطينياً، في 13 أبريل (نيسان) من العام 1975 وحتى منتصف الثمانينيات. وهي تؤرّخ لتوتّر العلاقات بين بعض اللبنانيين، من الطائفة المسيحية، وبين الفلسطينيين وأنصارهم، واضطرار الجماعة الأولى إلى مغادرة أماكنها الأولى المختلطة، للالتحاق بجماعتهم الطائفية، بضواحي العاصمة بيروت.
معضلة لا عقدة
لكنّ الإشكالية بنظر الكاتب بيضون، على ما أدركت، لم تكن خصومات ناشئة من طبيعة تكوين الطوائف النهائي، وإنما كانت من الأعراف والصور النموذجية السابقة التي تكوّنها كلّ جماعة عن الأخرى، ويسعى الفرد عبثاً لتجاوزها، على نحو ما سعت غريس التي أحبّت الشيخ عبدالرحمن، وأحبّها الشيخ. ولكن حالت دون لقائهما أو زواجهما حيطان داخلية، ترسّخت في لا وعي كل منهما، على مدار سنوات العمر، بل قبل ولادتهما. هي جدران الارتياب، والتكوين الاجتماعي الصلب، والعصيّ على الاختراق، حتّى ولو ذهب الأفراد إلى أقصى ما أمكنهم في دفع هذين الجدارين أو هزّهما، على نحو ما فعلت "غريس" حين خاطرت بحياتها قاصدة الشيخ عبدالرحمن، هذا الشيخ الشاب والمنفتح على الجماعة المسيحية في الجوار. وأقدمت، بطيب خاطرها، على ممارسة الحب مع الشيخ، ومضت إلى سبيلها المرسوم لها، والذي خضعت له، في نهاية المطاف. وبعد أن نجحت في إبعاد الشيخ عنها بعد تعاظم أخطار الحرب، واتّضاح استحالة تأقلمها مع الخيار الأول، تزوّجت بأحد معارف أخيها، ويدعى بول، في نهاية المطاف.
ما يلاحظه القارئ لدى تتبّعه الشخصيات النموذجية الثلاث: الشيخ عبدالرحمن، وغريس، وأنطوان أنّ كلاّ منهم ينتمي إلى جماعة، أو على رأسها. فالشيخ عبدالرحمن الشاب لا يُسأل عن موقعه من جماعته، وكذلك غريس، فوالدها قسّ في الكنيسة الأرثوذكسية، وكلا القس والشيخ غالباً ما كانا يتلاقيان وعائلتاهما. أما أنطوان الذي بدا في أوّل الرواية لامنتمياً، وضائقاً في موقعه، تأثر بتحوّل والده من الشيوعية إلى الإيمان المسيحي، فالانضواء قسيساً في سلك الكنيسة البروتستانتية، فكان لا يزال منتمياً بالاسم إلى منظمة العمل الشيوعي. وإن تكن صيغ هذه الشخصيات النموذجية التي ابتكرها الكاتب بيضون لا تمثّل إلاّ فئة ضئيلة من المجتمع اللبناني، إبان السبعينيات من القرن العشرين، فإنّها تعكس نظرة المؤلّف إلى حركية المجتمع اللبناني قبيل الحرب الأهلية، وسرعة التحوّلات في انتماءات أفراده، والحرّية النسبية في ذلك التحوّل. طبعاً من دون أن يعني هذا الأمر إقراراً، من قبل القارئ، بواقعية هذه النمذجة أو بمدى هذه الواقعية، مع أنها تفي شرط الصدقية في الأدب.
ضغائن سبب التحولات
"الآنَ علمتُ بحادثة بوسطة عين الرمّانة. مذبحة أودت بـ 27 فلسطينياً، فعلها كتائبيون متطرّفون... لم يعد ممكناً تجاهل ذلك. الحائط الذي بيننا وبين بيت الشيخ أكثر من حاجز، ومن صباح غد لن يعود في إمكاننا تجاوزه حتّى بالخيال". ولئن بدا الشيخ عبدالرحمن ضابطاً انفعاله، مغلّباً حبّه الحقيقي لغريس، على رغم غيظه ممن قتلوا أخاه الصغير محمود في مذبحة السبت الأسود، ببيروت، حين أقام حزب يمينيّ لبنانيّ حاجزاً على الهوية وقتل العشرات من المسلمين من دون ذنب، سوى المرور في الوسط التجاري آنذاك، فإنّه ما لبث أن ضبط نفسه، وأمسك عن المضيّ بعيداً في حبّ غريس، ورضخ بدوره لمسعى المحيطين به لأجل تزويجه بفتاة من الجماعة نفسها.
والأمر نفسه ينطبق على أنطوان، الشاعر والشيوعي واللامنتمي، إذ حوّله مقتل أخيه رمزي الكتائبي في إحدى المعارك مع الفلسطينيين، إلى انتمائه الجماعي الأوّلي الذي رسمته ضغائن الحرب الأهلية المستعادة، فصار مقاتلاً، بدوره، في ميليشيات الكتائب، وعاد إلى علاقته مع سلوى، ومفكّراً في أخريات غيرها.
شخصيات وحوارات عميقة
ما الذي تكشفه دراسة الشخصيات الثلاث المحورية في الرواية، على ما يصوّرها الكاتب: الشيخ عبدالرحمن، وغريس، وأنطوان؟ أوّل ما تبيّنه القراءة المتأنّية لخطاب كلّ من هذه الشخصيات، أنّ كلاً منهم وإن أنجز استقلاله ونضجه، فإنه لا يني يتأمل في موقعه، وانتمائه، وجذوره، وطبيعة علاقاته مع الآخرين. وعلى سبيل المثال، ما كان الشيخ عبدالرحمن لينتظر رأياً يُملى عليه في موقفه المنفتح حيال الجماعة من غير دينه، أو في زياراته لجيرانه من الطائفة الأخرى، وفي علاقاته الأخوية مع القس، والد غريس، ومع أنطوان، زميل غريس في التعليم بالمدرسة الخاصة، بالجوار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومثله بدت غريس، ذات الشخصية المنفتحة والمكتملة، لا ترضى بأن يُملى عليها موقف أو تصرّف، حتّى لو كان الرأي صادراً من الوالدين، اللذين تمنّعا عن تنبيهها من أخطار علاقتها الحميمة بالشيخ عبدالرحمن، ولكنّهما امتنعا عن ذلك ليقينهما برجاحة عقل ابنتهما، ودرجة نضجها وقدرتها على تحمّل المسؤولية.
أما شخصية أنطوان النموذجية المركّبة، بدورها، فقد جعلها الكاتب عباس بيضون نتاجاً بيّنا لتذبذب والده الذي راكم في شخصه تحولات وتلوّنات كثيرة؛ إذ يروي أنطوان كيف أن والده كان شيوعياً في مستهل شبابه، قبل الزواج، وصار مؤمناً بل داعياً إلى الإيمان، وقسّا في الكنيسة البروتستانتية بعد أن كان كاثوليكياً. وبناء على ذلك، سوف يكون من البديهي أن يلحق الابن بنموذج والده، ويصير لامنتمياً بعد أن كان عضواً في منظمة العمل الشيوعي. بيد أنّ بُعداً آخر كان يميّزه من الشخصيتين الأخريين هو ثقافته الشعرية ونظرته إلى الوجود والعالم.
حتمية الجدران الاجتماعية
وبعامة، يمكن القول إنّ الكاتب عباس بيضون رسم لكلّ من شخصياته الثلاث بورتريهاً أو تكويناً فردياً شبه ناجز أو كامل، بحيث يتفوّق كلّ منهم على إطاره الاجتماعي أو يتجاوز بعضاً من حدوده، حتى ليظن أنه سيّد مصيره، أو يحلو له بأن يفعل ما يراه مناسباً لثقافة الانفتاح التي ربي عليها، وهو في إطاره المكانيّ الأول، في مدينة "واصل". غير أن الحرب الأهلية، المندلعة شراراتها بعيداً منهم، لا تلبث أن ترفع الجدران الاجتماعية الكأداء ما بينهم وبين الجماعات المختلفة ديناً عنهم، سواء في الزواج، أو السياسة، أو طرق العيش، أو النظرة إلى التربية، وغيرها، فيعودون أدراجهم إلى الأطر التقليدية المسبقة التي أُعدّت لهم ولأمثالهم.
مما لا شكّ فيه أن النسيج السردي الذي اختاره الكاتب بيضون، في الإكثار من وجهات النظر، بعدد الشخصيات التي تتمحور الأحداث حولها، أو تؤدّيها هذه الشخصيات الثلاث، أتاح لكلّ شخصية حرّية التعبير عن ذاتها بنوع من الديمقراطية النسبية، وبأريحية ظاهرة، من دون أن يهمل أيّ منهم الانخراط في مسار القصّ المحوري، بلوغاً إلى مآله الأخير؛ حتّى ليمكن القول إن هذه الأصوات المتناوبة كانت أشبه بعجلات ثلاث، وإن كانت تسير منفصلة إحداها عن الأخرى، فإنها ما برحت في سكّة السرد الوحيدة بالرواية إلى ختامها الطبيعي المفضي إلى الانفصال. وعليه، يشكّل أسلوب المناجاة، أو الحوار الداخلي بين الشخصية وذاتها خير وسيلة (لغوية) للإبانة عن المشاعر والانفعالات والقناعات، وهي حوافز حقيقية لأفعالها الدرامية، تبسطها بجرأة عالية أمام القارئ الذي قد يتأثّر بما تحمله من قضايا وما تطرحه من رؤى.