ملخص
عندما أطلقت لوحة فنية بديعة تياراً فلسفياً يحاول التصدي لعودة أفلاطون إلى فلورنسا
بين عامي 1611 و1612 رسم بيار – بول روبنز واحدة من أقوى لوحاته وأعمقها وإن تكن من أقلها استعراضية، على رغم مقاساتها اللافتة بالنسبة إلى كونها "بورتريه". واللوحة هي تلك المعروفة بـ"الفلاسفة الأربعة". غير أن الفنان هنا على عكس ما يحدث عادة بالنسبة إلى بورتريه يمثل أشخاصاً التقط الرسام ملامحهم ميدانياً، استند إلى الذاكرة وحدها تقريباً لتصوير اثنين من الشخصيات المرسومة فيما تنتمي شخصية ثالثة إلى صنف "البورتريه الذاتي" إضافة إلى وجود تمثال نصفي في فجوة الجدار الأيمن من المؤكد أنه يمثل رابع الفلاسفة الذين يعنيهم الرسام في عنوان لوحته. ففي نهاية الأمر حتى وإن كانت الشخصيات المرسومة مباشرة أربعاً فإن روبنز نفسه، الذي يشغل الجزء الأكبر من يسار اللوحة، لم يكن في الحقيقة كما لم يكن يعتبر نفسه فيلسوفاً فهو رسام. أما الأربعة المعنيين فإنما هو هنا مجرد شاهد على لقائهم وعلى مناقشاتهم ينظر اليهم من بعيد بإعجاب وربما بقدر من الحزن أيضاً. ولا شك أن الوقت حان هنا لتوضيح ما بدأنا به هذا الكلام لأنه بات يبدو غامضاً بعض الشيء.
معجزة الفن تجمع الأحياء والأموات
وسنوضح أولاً أن توصيف فلاسفة يتعلق بفيليب روبنز شقيق الرسام الجالس إلى يمينه، وكان قد رحل عن عالمنا قبل عام من إنجاز اللوحة، ويجلس من بعده بليبسيوس الفيلسوف الإنساني المعروف حينها، الذي كان قد مات قبل إنجاز اللوحة بستة أعوام. أما إلى يمين ليسبيوس في اللوحة فهناك الحقوقي يان فوفيريوس الحي الوحيد في الزمن الذي أنجز فيه روبنز لوحته، أما الفيلسوف الرابع على اعتبار أن فيليب شقيق روبنز وليسبيوس وفوفيريوس كانوا بالفعل فلاسفة، فها هو يطل على المجموعة بكل وقار واحترام بوصفه زعيمهم وسبقهم في الوجود لمئات السنين ومن هنا يوجد فقط من خلال تمثاله النصفي: وهو ليس سوى سينيكا الفيلسوف الرواقي العظيم، الذي يبدو واضحاً أن زملاءه الثلاثة إنما يتناقشون من حول أفكاره كما تدل على ذلك المجلدات المفتوحة أمام أنظارهم يشيرون إليها بأصابعهم وهم مستغرقون في النقاش والتأمل بهدوء لا يخلو من سمات تنتمي إلى النزعة السلوكية الرواقية، أما سمات الرسام الذي جعل من نفسه في اللوحة شاهداً متواضعاً ومجرد مستمع يحاول أن يفهم ما يدور حوله وكل ملامحه تنم عن تقديره العظيم للفلاسفة الأربعة المحيطين به وقد جعل من نفسه جمهوراً لهم، فهي تشير بالتحديد إلى رغبته في أن يخلدهم ويجمعهم عبر "معجزة الفن"، وقد بات من المستحيل عليهم أن يجتمعوا وقد فرقهم الموت. والحقيقة أن تأكيد تلك التفرقة يبدو واضحاً من خلال زهرات الزنبق الأربع الموضوعة في آنية ماء في فجوة الجدار الأيمن بالقرب من تمثال سينيكا النصفي وقد فتحت زهرتان من بين زهراتها الأربع، فيما لا تزال زهرتان أخريان متبرعمتين أي على قيد الحياة.
صحبة مختارة حول سينيكا
واضح هنا أن جمع بيار – بول روبنز لهذه الصحبة من حول تمثال سينيكا لا يأتي اعتباطاً، فهو كان قبل أشهر قد فقد أخاه الذي كان هو من اعتاد أن يجمعه بالآخرين وها هو على سبيل الذكرى بالتأكيد يتولى عقد الجلسة التي يبدو أن عقدها بين الحين والآخر كان معتادا عندما كان الجميع أحياء، وكان يلذ للرسام وقد راح يتفتح على الفكر الفلسفي، دون أن يتوغل فيه ويجعله من صلب اهتماماته، كان يلذ له أن يحضر الجلسات التي لم تعد ممكنة الآن ومن هنا ها هو يسخر قدرته الفنية وذاكرته المدهشة لإعادة إحيائها ولو مرة واحدة تخفيفاً من لوعته والفراغ الذي تركه غيابها في حياته للوهلة الأولى على الأقل، وحسبنا في اللوحة أن نتأمل في ملامح الرسام ونظرته الحزينة حتى ندرك هذا، لكن من الضروري كذلك أن نقارن بين نظرة فوفوريوس المحدقة بكل اهتمام وحيوية إلى تفاصيل الجلسة، كما إلى يديه اللتين تشيران إلى اندماج ما في حوار حقيقي، وبين نظرتي ليبسيوس وفيليب الفارغتين الخاليتين من الحياة وكأن الرسام (الذي رسم أخاه أصلاً من الذاكرة ورسم ليبسيوس ذا النزعة الإنسانية انطلاقا من لوحة كان رسمها له أبراهام جانسن قبل ذلك بست سنوات) أراد أن يؤكد موتهما الذي وضع حداً لتلك الجلسات التي كثيراً ما كانت تشغل باله وتعمق تفكيره، وها هو الآن يعبر عن حنينه لها، لكنه يعبر أيضاً عن احترامه لموت أخيه من خلال تلك النبتة التي جعلها تعلو رأسه ملتفة على عمود النافذة التي تطل على مشهد واضح لمنطقة بالاتينا في إيطاليا، حيث كان آل روبنز وأصدقاؤهم يعيشون بين الحين والآخر خلال زياراتهم المشتركة إلى ذلك البلد، وحيث لا تزال اللوحة التي يبلغ عرضها نحو 140 سم وارتفاعها أكثر قليلاً من 161 سم، معلقة منذ زمن بعيد في متحف بالاتينا في فلورنسا.
في مواجهة فلورنسا "الأفلاطونية"
إذاً ما لدينا في هذه اللوحة إنما هو تسجيل تاريخي لتلك الجلسات الفلسفية التي كان بيار – بول شاهداً عليها، وتكريم لذكرى الراحلين الكبيرين من جلساء تلك اللقاءات، غير أن حضور التمثال النصفي لسينيكا وهو مستقر في عليائه يسمو عليهم جميعاً، سرعان ما سيخبرنا بأن اللوحة لم تكن بالطبع على مثل تلك البراءة والحيادية. وقبل أن نوضح هذا قد يكون من المفيد أن نشير إلى أن التمثال النصفي هو في الأصل نسخة من تمثال قديم لسينيكا كان يملكه المثقف التنويري فولفيو أورسيني الذي كان حافظ مكتبة الكاردينل الذي لم يكن يقل عنه تنويراً، الكساندر فارنيزي ويحتفظ به في مكتبة هذا الأخير في روما. ومن المعروف أن بيار – بول روبنز قد اشترى هذه النسخة من التمثال ليضعها في غرفة الاجتماعات في بيته، ولكن ليس للزينة بالطبع بل للتعبير عن موقف واضح من النزعة الإنسانية الرواقية الجديدة التي كانت تعتمد كتابات وأفكار سينيكا التي كانت تعد نوعاً من "رواقية – جديدة" من الواضح أن الرسام روبنز إنما أراد أن يخبرنا في هذه اللوحة أن جلساءه ورفاق أخيه الراحل كانوا ينتمون إليها، بمعنى أن الموقع المهيمن المعطى هنا لتمثال سينيكا، يسمح لنا كما يقول عدد من الباحثين وكاتبي سيرة روبنز ومحللي أعماله، بالافتراض بأن ثمة هنا دعوة صريحة إلى الفكر الرواقي، وربما على الضد من الفكر الأفلاطوني الذي كانت تتصاعد الدعوة إليه في فلورنسا في الوقت نفسه تحت رعاية آل مديتشي وبرئاسة المفكرين الإنسانيين الذين أقطعهم زعماء فلورنسا هؤلاء ضيعة غير بعيدة من فلورنسا، حيث كانوا حين يلتقون بعضهم بعضاً يلقون التحية المتبادلة البعض: "أفلاطون عاد... حقاً عاد!".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دعوة فلسفية تسبق نهضة باريسية
صحيح أن روبنز ورفاقه لم يبلغوا ذلك المستوى من الحماسة لعودة سينيكا، فهم رواقيون ومن سمات الرواقية أنها هادئة ومن هنا ذلك الهدوء الذي يخيم على اللوحة، ومتواضعة ومن هنا طبعاً التواضع الذي نلمحه في سمات "الفلاسفة الأربعة"، ولكن بخاصة في سمات "جمهورهم" المخلص والمحب، ومليئة بالحنين إلى الغائبين مؤمنة بأنهم يعيشون على رغم كل شيء دائماً بيننا، ومن هنا أخيراً هذه المبادرة الفنية التي تمكن بها بيار – بول روبنز (1577 – 1640)، من جمعهم عبرها أحياءً وأمواتاً تحت رعاية سينيكا الكبير الذي كان أفلاطونهم الخاص، وما نعنيه هنا بالتالي هو أن هذه اللوحة يمكن أن تعد في نهاية الأمر بياناً فلسفياً، إذ مكنت روبنز من أن يستبق في "دعوته الفلسفية" تلك النهضة التي ستحتاج إلى عقود أخرى من السنين قبل أن تنطلق في باريس هذه المرة معيدة الفكر الرواقي وسلوكياته الأخلاقية إلى الحياة من جديد بشكل لم يكن من الممكن توقعه إلا لأولئك الذين تبحروا حقاً حينها في هذا الإنجاز الفني الذي حققه روبنز بوصفه إنجازاً فلسفياً...