ملخص
صندوق بارد وأنفاس ملتهبة يعيدون الاعتبار لجهاو التكييف كأهم اختراعات البشر بعيداً من "أزمة البيئة".
تدق الأصابع دقاً هستيرياً على مواقع البيع "أون لاين". منصات مراجعة البضائع وتقييمها من قبل الجمهور تشهد إقبالاً منقطع النظير. سكان نصف الكرة الشمالي في حال بحث حثيث عن أفضل مبردات الهواء وأكثرها كفاءة. لو أمكن إطلاق مسمى على صيف 2023 فهو "صيف المبردات" بجدارة.
جدارة مبرد الهواء أو كفاءته لم تعد من الأمور التي تهم الطبقات المخملية في الدول النامية والحارة فقط. كما لم تعد حكراً على أشخاص بأعينهم في دول أوروبية لم تكن تعرف سوى أنظمة التدفئة حتى وقت قريب مضى.
صيف المبردات
لكن ما مضى من مواسم صيف ليس كصيف العام الحالي، وعلى الأرجح الأعوام التالية. من تكساس وجنوب غربي الولايات المتحدة الأميركية إلى البرتغال وإيطاليا وإسبانيا واليونان وقبرص وكذلك تونس والجزائر وليبيا ومصر والسعودية والعراق ولبنان والأردن وفلسطين وقائمة طويلة من الدول تشهد صيفاً غير مسبوق في حرارته، ولا مثيل له في الصهد. عمليات البحث عن وشراء جهاز تكييف أو مبرد هواء تشهد انتعاشاً وإقبالاً تجعله بحق "صيف المبردات".
الصيف الحالي ينعته الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بـ"الغليان المناخي العالمي" بعد انتهاء مرحلة "الاحترار"، ويصفه مدير خدمة "كوبرنيكوس" لمراقبة تغير المناخ كارلو بونتيمبو بـ"الاستثنائي ذي درجات الحرارة القياسية التي لم يبلغها العالم منذ ألف عام"، ولم يجد علماء أرصاد اسماً له أفضل من اسم الكلب ثلاثي الرأس المنوط به حراسة أبواب جهنم والتأكد من أن الأموات لا يبرحونها (بحسب الأساطير الإغريقية).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هو "الحر النار" و"جهنم الحمراء" و"الخانق" و"القاتل" و"المميت" كما يصفه الملايين ممن يعانون الأمرين: الحرارة وانهزام وسائل التبريد التقليدية من مراوح يدوية وكهربائية وشرب الماء والانغماس فيه وتمني انخفاض الدرجات وهبوب نسمة هواء.
صارت نسمة الهواء الوحيدة شبه المضمونة، حيث شبح احتمال انقطاع التيار الكهربائي، والأمل شبه الوحيد في أن تمضي عمليات التنفس شهيقاً وزفيراً أقرب ما تكون إلى الطبيعي، معلقين على جهاز التكييف.
خرج نصف الكرة الشمالي لتوه من شهري يونيو (حزيران) ويوليو (تموز) الأكثر حرارة على الإطلاق. موجات الحر الشديدة التي بدت متلاصقة الواحدة تلو الأخرى من دون فرصة انخفاض هنا أو هبوب نسمة رقيقة هناك لاستعادة الأنفاس وشحن الطاقات، تعرض ملايين الأرواح للخطر لفرط الحرارة كما تدفع شبكات الكهرباء لما بعد حدود طاقتها بكثير، إذ بات تشغيل جهاز التكييف لمن يملكه مسألة حياة أو موت، وشراء جهاز لمن لا يملكه سبيلاً للتنفس شهيقاً وزفيراً من دون الشعور بأن نهاية العالم قد اقتربت.
نصف الكرة في الفرن
العالم، أو بالأحرى نصف العالم الشمالي، يبدو كأن أحدهم قد وضعه في الفرن، بحسب وصف تقرير لوكالة الطاقة الدولية نشر قبل أيام تحت عنوان "الحفاظ على البرودة في عالم أكثر سخونة يستهلك مزيداً من الطاقة". اقتراب درجات الحرارة في الظل من الـ50 درجة مئوية في عديد من المناطق في نصف الكرة الشمالي أدى إلى زيادة رهيبة في الطلب على أجهزة التكييف.
تظهر بيانات الوكالة أن الحرارة الشديدة أدت إلى زيادة الطلب على مكيفات الهواء. وتشهد مبيعات أجهزة التكييف زيادة نسبتها 16 في المئة أسبوعياً. كما تشهد عمليات البحث عن الأجهزة المناسبة عبر الإنترنت زيادة نسبتها 25 في المئة مقارنة بهذا الوقت من العام الماضي.
في العام الماضي، اعتقد سكان العمارة السكنية الشاهقة في حي المطرية الشعبي العريق (شرق القاهرة) أن مراوح أجهزة التكييف المثبتة في "منور" العمارة التي تنجم عنها حرارة، تزيد من حرارة الجو فتجعله لهيباً، أما هذا العام، وتحديداً منذ مطلع يوليو الماضي، فقد تضاعفت الأعداد وصارت الفجوات بين كل مروحة وأخرى متخمة بجهاز جديد.
عدد أجهزة التكييف في العالم بلغ 1،9 مليار عام 2020، وهو الرقم الذي قفز بالتأكيد قفزات متسارعة في الأعوام الثلاثة الماضية. وبحسب موقع "ستاتيستا" المتخصص في الأرقام والإحصاءات، فإن أغلب هذه الأجهزة ليس في عمارة المطرية أو حتى في مجموع شوارع إمبابة وبولاق وعين شمس وشبرا، وكل منها بمثابة تعداد دولة صغيرة. أغلب أجهزة تكييف العالم في الصين واليابان وكوريا الجنوبية وأميركا، لكن هذا التوزيع غير العادل في منح البشرية نسمة هواء عليلة في صيف قائظ يعد بمزيد من التغيير خلال السنوات القليلة المقبلة.
قبل أشهر قليلة توقعت وكالة الطاقة الدولية أن يصل عدد أجهزة التكييف في العالم إلى 5،5 مليار بحلول عام 2050، لكن رؤى العين وشعور الأجساد بالحرارة وقوائم المبيعات وطلبات التقسيط تقول إن التغيير بدأ وأن الأرقام تتصاعد، كما أن البحث عن أصل وفصل "الملاك العظيم المخلص" الذي اخترع التكييف يجري على قدم وساق.
ويليس كاريير والصهد
ساق التفكير العميق على خلفية الحرارة القائظة والضباب الناجم عن الصهد الصادر من أرضية محطة قطار بيتسبرغ في ولاية بنسلفانيا الأميركية مطلع القرن الماضي ويليس هافيلاند كاريير إلى أن في الإمكان ترطيب الهواء بتمريره عبر الماء لعمل ضباب. وهو ما من شأنه تصنيع هواء بكيمات معينة من الرطوبة. وفي خلال عام تمكن كاريير من إنجاز ابتكاره، وهو التحكم في الرطوبة مما يعد الخطوة الرئيسة الأولى لتبريد الهواء في العصر الحديث.
ربما كانت مصادفة، لكن كاريير تمكن من تصميم أول نظام تبريد هواء حديث في يوليو (تموز) من عام 1902، وهو أسخن أشهر العام في نصف الكرة الشمالي، ليكون هذا التاريخ بداية حقيقية لتحسين الطريقة التي عاش بها الملايين من البشر على مدار عقود سابقة. هذا الاختراع يكتسب حالياً عظمة فوق عظمته، وقيمة إضافة إلى قيمته، إذ باتت الملايين تنظر إليه باعتباره النفس المضيء في نهاية نفق الحرارة الخانقة القائظة القاتلة التي تضرب نصف الكرة الشمالي هذه الأيام.
كاريير ملقب عن حق بـ"أبي تكييف الهواء"، فالتصميم الذي ابتكره فتح الأبواب على مصاريعها أمام آلاف الصناعات التي تقوم عليها اقتصادات العالم، بدءاً بمصانع السيارات والأجهزة المنزلية، مروراً بشركات الأغذية والتعليب والتوريد والطائرات العابرة للقارات وخوادم الإنترنت، وانتهاء بالمراكز التجارية ودور السينما ملاذ الهاربين من نار الشارع إلى جنة التكييف المركزي ولو لسويعات قليلة.
هذه السويعات التي تمضيها ملايين الأسر في رحاب المراكز التجارية المغلقة ودور السينما المزودة بأنظمة التبريد المركزية، ثم تلحقها بسويعات أخرى تشغل خلالها أجهزة التكييف المنزلية – حال توافرها - تجعل صيفاً كالذي تمر به البشرية حالياً غير مميت بالضرورة.
ضرورة تركيب أجهزة تكييف ملايين البيوت لم تعد مسألة جدلية تقبل الموافقة وتتسع للاعتراض، بل صارت ضرورة حتمية. فحتى الأمس القريب، وقت أن كانت درجة الحرارة العظمى في شهري يوليو وأغسطس (آب) في القاهرة لا تتعدى 36 درجة مئوية، أو 35 درجة في الجزائر، أو 40 في بغداد، أو 30 في روما، أو 34 في أثينا، لم تكن أجهزة التكييف تنتشر انتشاراً كبيراً. بل ظلت هذه الأجهزة مرتبطة بعاملين على القدر نفسه من الأهمية: الأول درجات الحرارة، والثاني القدرة المادية.
دول ومدن عدة كانت مصنفة باعتبارها حارة أو شديدة الحرارة صيفاً، لكنها لم تكن يوماً معروفة بتلك البروزات الناتئة من كل شرفة وفي كل "منور". أما اليوم فإن الاستثناء هو تلك الشرفات والنوافذ الخالية من أجهزة التكييف. والاستثناءات هذا العام آخذة في التقلص، ولكن التقلص بثمنه. ففي ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تضرب أغلب الدول المضروبة بموجات الحرارة غير المسبوقة الحالية، يجد المواطنون أنفسهم بين نارين: نار حمل اقتصادي إضافي لا يتمثل فقط في اقتناء جهاز تكييف، بل في تأمين كلفة تشغيله عبر فاتورة كهرباء ملتهبة. أما النار الأخرى فهي تحمل نار الطقس. وبين النارين، نار الناس الذين يملكون والناس الذين لا يملكون.
تشير الوكالة الدولية للطاقة إلى أن الطلب يتزايد ويتسارع حالياً في الاقتصادات الناشئة والنامية لتمتلك الأسر أجهزة التكييف، لكن تظل نسبة الأسرة الممتلكة لها في العالم النامي أقل بكثير على رغم أنه قد يكون أكثر حرارة.
وبحسب الوكالة، فإن 90 في المئة من الأسر في أميركا واليابان تمتلك أجهزة تكييف، في حين لا تزيد النسبة على 15 في المئة في عديد من دول جنوب شرقي آسيا، وتنخفض إلى خمسة في المئة في الهند ودول أفريقيا. مشيرة إلى أن واحداً فقط بين كل 10 أشخاص من أصل 2،8 مليار شخص يعيشون في المناطق الأكثر سخونة في العالم لديهم القدرة على اقتناء جهاز تكييف أو حتى التمتع بخيارات التبريد الأخرى في بيوتهم.
طلب تاريخي
الطلب على أجهزة التكييف هذه الآونة تاريخي. ولعلها المرة الأولى التي يشعر فيها سكان الأرض (لا سيما النصف الشمالي) بشعار إحدى شركات المكيفات تصف به ابتكار ويليس كاريير بأنه "جلب الراحة للعالم".
لكن الراحة فيها بعد طبقي، وتظل الراحة المتمثلة في نسمة هواء باردة في صيف قائظ مرتبطة بالقدرة المادية. هل هو وضع ظالم يفتقد العدالة؟ نعم. وأمر عجيب يحتاج قدراً أكبر من المساواة؟ نعم. وإلى أن يحل الكوكب هذه المعضلة الأخلاقية أو المشكلة الإنسانية يظل جهاز التكييف مرتبطاً إلى حد كبير في الدول الأكثر احتياجاً له بسبب الطقس بالقدرة المادية والمكانة الاجتماعية.
العروسان اللذان تزوجا في شقة خالية من أجهزة التكييف في مصر أو الجزائر أو العراق أو الأردن أو لبنان يختلفان عن العروسين اللذين بدءا حياتهما سوياً بضمان المكيف حيث راحة الشهيق والزفير في الطقس مهما كان قائظاً.
في صيف قائظ كهذا، ولكن في منتصف التسعينيات، سادت أرجاء مصر حال من القلق والهلع. مرور مندوبي الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء على البيوت المصرية تحول من إحصاء لعدد السكان ونوع وعدد الأجهزة الكهربائية، وعلى رأسها الغسالة "فول أوتوماتيك" والتكييف، إلى موجات من الكر من قبل المندوبين والفر من جانب أصحاب البيوت ظناً منهم أن وجود غسالة أو جهاز تكييف أو كليهما يعني فرض ضرائب أو تحصيل رسوم أو حرمان من الدعم.
فحتى سنوات قريبة مضت، ظل جهاز التكييف في كثير من البيوت العربية مرتبطاً بمكانة اجتماعية ومرتبة اقتصادية تضعان صاحبهما في وضعية متميزة في الهرم الاجتماعي، لكن غليان المناخ وغضب الطبيعة وحقيقة أن العالم أصبح أكثر دفئاً بمقدار 1،5 درجة مئوية عما كان عليه في النصف الثاني من القرن الـ19، جعلت من اقتناء الجهاز أمراً عادياً بل ومطلوباً بشدة بالنسبة إلى الكافة.
"غضب مناخ، غليان أرض، سوء تصرف الدول الصناعية، ضعف موقف الدول الفقيرة، كل هذا في كفة، وهذا الصندوق في كفة أخرى، ربنا يديمها نعمة ويحفظها من الزوال"، هكذا يعلق رأفت حسين (50 سنة) الموظف العائد من عمله عائماً في بحر من العرق، ومعلقاً آماله على "هذا الصندوق" الذي يتوسط الجدار الرئيس في غرفة الجلوس. هذا الصندوق تدور حوله الأنظار وتعقد عليه الآمال، لكن إمكانية التشغيل وجدول التبريد وقرار البدء لا يملكها سوى رب البيت.
فمن فاتورة كهرباء تنافس حرارة الجو في الارتفاع، وسوء استخدام يعرض هذا الصندوق الثمين لعطب غير مرغوب به، وربما رغبة في التفاخر بين الأهل والجيران من الزوار مما قد يعرض الصندوق لخطر الحسد أو تمني زوال النعمة، يصر حسين على أن يكون وحده المتحكم في هذا الجهاز الذي كلفه في أول الصيف الحالي ما يعادل ثلاثة أشهر من راتبه، إضافة إلى 500 جنيه مصري (نحو 16 دولاراً أميركياً) هي عشر مرتبه، وذلك على هيئة أقساط شهرية لمدة عام بالتمام والكمال.
على صفيح ساخن
جهاز تكييف واحد في كل بيت يتعرض سكانه لموجات حرارة شديدة لا يتوقع أن تخفت أو تهدأ في السنوات المقبلة يعني أن مليار جهاز تكييف قادرة على إنقاذ حياة الملايين ورفع جودة حياتهم اليومية بشكل كبير، لكنها في الوقت نفسه قادرة على أن تضع الكوكب على صفيح ساخن جداً، وهو موضوع بالفعل على صفيح ملتهب بفعل التغير المناخي.
المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية فاتح بيرول يقول إن الطلب المتزايد على مكيفات الهواء هو أحد أكثر النقاط العمياء المهمة في ملف الطاقة حالياً. يتحدث بيرول عن ضرورة قيام حكومات العالم، لا سيما في الدول "الساخنة" أي الأكثر تعرضاً لموجات الحرارة القائظة ومن ثم استخدام أعداد متزايدة من مبردات الهواء، بخطوة بسيطة لكن حيوية، وهي وضع وتنفيذ معايير كفاءة أعلى وأفضل لتشغيل أنظمة التبريد. ويقول إن من المتوقع أن يتضاعف الطلب على الطاقة بسبب أجهزة التكييف ثلاث مرات بحلول عام 2050.
يصعب جداً لدرجة الاستحالة أن تناقش شخصاً يتنفس بالكاد ويتصبب عرقاً بفعل موجة حرارة غير مسبوقة في شأن الجوانب البيئية ومنظومة الكفاءة وسبل جعل أجهزة التكييف أكثر صداقة للبيئة وأعمق حفاظاً على درجات حرارة الكوكب. إنه نقاش عقيم حتى وإن ثبت بالحجة والبرهان والبحث والتوثيق أن أجهزة التكييف تصدر غازات ضارة بالبيئة وتسهم في الاحترار أكثر من ثاني أكسيد الكربون بمراحل.
المرحلة الحالية هي مرحلة تنصيب ويليس كاريير رجل العام وأيقونة الصيف، واعتبار ما ابتكره من لبنة هي الأولى والأهم في تبريد الهواء أعظم ابتكارات القرن، وذلك وفق أحكام الشعوب المكتوية بنيران الصيف.
عرض قائمة "أعظم ابتكارات القرن" على الأشخاص المتصببين عرقاً واللاهثين والمجهدين والمعطلة أذهانهم بفعل درجات الحرارة القاسية، تقابل بتجهم وتهكم. فبين السيارة الكهربائية والطائرة الدرون (المسيرة) والـ"آي باد" والـ"آي ووتش" والـ"آي فون"، تأتي الردود سريعاً: "آي كوول" هو الأهم. فماذا تفعل السيارة الكهربائية أو المسيرة الإلكترونية أو الساعات والهواتف والأجهزة الذكية إذا كان صاحبها "سيموت من الحر"؟