Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما صنع فيلم عن حياة بيكاسو بما يشبه مجزرة فنية

لماذا لم تهتم السينما العالمية بتحقيق ما تحتاج إليه حياة الفنان الإسباني وفنه من أفلام ملائمة؟

مشهد من "العيش بعد بيكاسو" لجيمس آيفوري (موقع الفيلم)

ملخص

لماذا لم تهتم السينما العالمية بتحقيق ما تحتاج إليه حياة الفنان الإسباني وفنه من أفلام ملائمة؟

لعل أغرب ما في أمر رسام القرن العشرين بابلو بيكاسو أن الفن الأكبر في هذا القرن أي السينما لم يهتم به كما يجب كمياً إن لم يكن نوعياً. فالمرء حين يتذكر هيمنة هذا الفنان الإسباني الكبير على الحياة الفنية في القرن الماضي واهتمامه بكل أنواع الفنون، سيخيل إليه للوهلة الأولى أنه لو بحث الأمر ملياً سيجد نفسه أمام كم كبير من شرائط حققت في هذا البلد أو ذاك، ولا سيما في "وطني" الفنان الرئيسين، إسبانيا وفرنسا، تتناول فصولاً من حياته ومراحل من فنه ومشاهد من إبداعه ومغامراته، لكن المفاجأة التي سيجدها هذا المرء في انتظاره ستدهشه: ستدهشه بالأحرى قلة عدد الأفلام، ولا نتحدث هنا عن نوعية معينة، بل عن أفلام حتى بالمعنى الكمي للكلمة، ذلك أنه، على رغم ورود اسم بيكاسو وفصول من حياته والحياة المحيطة به في مئات النصوص والحكايات التاريخية وصولاً إلى سجلات المحاكم والسير المكتوبة له في عشرات اللغات، من الصعب في نهاية الأمر العثور على أكثر من أربعة أفلام يشغل بيكاسو مكانة أساسية فيها، بل ثمة فيلمان من بينها بالكاد تتناول حياة بيكاسو أو علاقته بفنه أو بالزمن الذي عاش فيه. ومن هنا ستكون الدهشة كبيرة بالنسبة إلى متسائل يقف أمام تقصير السينما في الدنو من الفنان الكبير.

غرابة صادمة

والأدهى من ذلك أن الفيلمين اللذين يمكن التوقف عندهما في نهاية الأمر يتسم كل منهما بغرابة صادمة في مجاله. وقبل هذا التوقف لا بأس من استعراض سريع للأفلام الأربعة التي نطلع بها إحصائياً. ولنذكر أول الأمر أقدم هذه الأفلام وأكثرها جدية وارتباطاً بفن بيكاسو وهو "سر بيكاسو" الفرنسي الوثائقي، تقريباً، الذي حققه هنري جورج كلوزو في عام 1956، ليشكل أول إطلالة حقيقية لبيكاسو من خلال السينما. ولسوف يحتاج الأمر إلى انتظار 22 سنة قبل أن يحقق السينمائي السويدي تاغي دانيلسون في عام 1978 فيلماً عنوانه "مغامرات بيكاسو" يتألف من مشاهد مخترعة معظمها يتسم بالغرائبية وناطق بعشر لغات، يتناول ما يفترض أنه غرابة شخصية الرسام من خلال لقاءات تجمعه بمجايليه - ومعظمها لقاءات لم تحصل في الواقع التاريخي أبداً - منها لقاء مع إرنست همنغواي لم يأت ذكره لدى أي من الاثنين. ومع ذلك سعى السينمائي إلى رسم صور من خلالها لشخصية بيكاسو وغرابة أطواره ونوعية عبقريته، قد يكون من المستحيل معارضتها حتى وإن تم تأكيد استحالة أن تكون مبنية على وقائع حقيقية.

روائي "لندني"

ومهما يكن من أمر فإن السينما عادت واحتاجت إلى الانتظار 22 سنة أخرى قبل أن يحقق الأميركي جيمس آيفوري، الذي كان يعمل ويعيش بين لندن وباريس ما يمكننا اعتباره الروائي الحقيقي الطويل والوحيد عن بيكاسو وهو "الحياة بعد بيكاسو". وهو الفيلم الذي سنتناوله مطولاً في الجزء الباقي من هذا الكلام على أية حال. علماً أن الفيلم السينمائي الأخير الذي حقق على حد علمنا عن بيكاسو حتى اليوم هو عمل إسباني عرض بنجاح كبير في عام 2012 بعنوان "عصابة بيكاسو"، لكن عيبه الأساسي في هذا المجال يكمن في كونه بالكاد يمكن أن يعتبر فيلماً عن... بيكاسو. هو بالأحرى فيلم بديع عن مجريات الحياة الفنية والثقافية عموماً في باريس بدايات القرن العشرين ولكن على خلفية حكاية تتعلق بالفن التشكيلي من دون أن يكون لبيكاسو علاقة حقيقية به. فالفيلم يتناول، في نهاية الأمر، سرقة لوحة ليوناردو دافنشي الشهيرة "موناليزا" من القاعة المعلقة فيها في متحف اللوفر. وهي سرقة شهيرة حدثت في عام 1911 واتهم بها الشاعر أبولينير، ومن هنا لم يكن وجود بيكاسو في الفيلم ناتجاً إلا عن معرفة أبولينير به، وكونه يعتبر نفسه جزءاً من عصابة تحيط ببيكاسو في وقت كان هذا لا يزال فيه شاباً طري العود بالكاد بدأ جمهور الفن الباريسي يسمع به وبفنه التكعيبي!

فيلم وحيد

إذاً؟... إذاً أمام هذا الواقع المفاجئ يحسن بنا هنا أن نتوجه إلى الوحيد بين هذه الأفلام الذي نعتبره فيلماً حقيقياً، استناداً إلى موضوعه وهوية مخرجه وربما أيضاً إلى الموهبة الكبيرة التي حركت أداء بطله أنطوني هوبكنز الذي كان حينها يخوض التجربة بعد الأخرى في مجال تأدية شخصيات القرن العشرين الكبرى على الشاشة: من "نيكسون" في فيلم من إخراج أوليفر ستون، إلى "هيتشكوك" في فيلم يتابع تصوير هذا الأخير فيلمه الرائع "الطيور" والصعوبات التي اعترضته حينها، مروراً طبعاً ببيكاسو على طريقة جيمس آيفوري من إنتاج إسماعيل مرشانت منتجه المبدع، والأهم من ذلك عن سيناريو كتبته مبدعته الأثيرة روث براور جابفالا، في اقتباس عن كتاب وضعته امرأة بيكاسو الأخيرة فرانسواز جيلو عن حياتها معه ومعاصرتها له آخر أيامه. وفي الحقيقة أن الفيلم جاء مدهشاً في شكله وموضوعه وفي أداءاته الفنية. فيلم بيكاسوي بامتياز ومع ذلك أتى متسماً بعيب أساسي كان من شأنه أن يدمره تماماً لولا القدرة الإبداعية لمنتجه ومخرجه. وكمن العيب في أنه أتى فيلماً عن فنان رسم ألوف اللوحات وابتكر مئات المواضيع وماشى حراكات القرن العشرين الفنية والاجتماعية وحتى السياسية، في لوحاته ورسومه، ومع ذلك منع القضاء صناع الفيلم من أن يصوروا في أي من مشاهده أي لوحة حقيقية من إنتاج الرسام صاحب العلاقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أسباب غامضة!

والحقيقة أن ذلك المنع لم يأت صدفة بل تم بناءً على طلب فرانسواز جيلو التي بعد أن وافقت أول الأمر على تحويل آيفوري حكاية حياتها مع بيكاسو كما كتبتها بنفسها، إلى فيلم يصور في الأماكن التي شهدت حكايتهما معاً، وبعد أن قرأت السيناريو وأعلنت موافقتها عليه وقبضت المبالغ المتفق عليها قررت أنها تعارض استكمال الفيلم. لماذا؟ هي لم تجب بل اعتصمت بالتكتم وحبست نفسها في الفيلا التي تعيش فيها في الجنوب الفرنسي لاجئة إلى صمت عجيب، لكنها كانت قد وقعت عقداً يلزمها الموافقة على كل ما تم تصويره حتى ذلك الوقت، ويمنعها تحت طائلة الملاحقة القضائية من توقيف استكمال الفيلم. فاستجابت لكن عقلها تمخض عن حيلة جديدة تمكنها من عرقلة الفيلم. قررت أن من حقها باعتبارها القيمة على الإرث الفني لرجلها الراحل أن تمنع تصوير أي من لوحاته في أي من مشاهد الفيلم ولو عبوراً وعرضاً. تبين للقضاء أن مطلبها يشكل سابقة لا يمكن تجاهلها بخاصة أن ليس ثمة في العقد الموقع معها ما ينص على عكس ما تطالب به. وإن كان ينص في الوقت نفسه على أن على الجهات المنتجة ألا تحيط تصويرها الفيلم بأية ضجة ترويجية أو دعائية "لأن ذلك قد يسيء إلى سمعة ومكانة الفنان الراحل"، وهكذا إذاً اضطر المخرج آيفوري إلى استكمال تصوير الفيلم وسط صمت شديد في انتظار الخطوات التالية، وجد نفسه من الناحية القانونية قادراً على أن يستقدم فنانين عهد إليهم بتقليد عدد لا بأس به من لوحات بيكاسو لاستخدامها في تصوير الفيلم، على أساس أن ذلك "التزوير" المعترف به لا يتم لدوافع تجارية ربحية بل لحاجات إبداعية. ومن هنا كان ذلك المصير المدهش الذي آلت إليه كل اللوحات التي استخدمت في الفيلم: فهي كانت تدمر تماماً في حضور الموثقين العدليين ما إن يتم تصويرها، في نوع من "مجزرة فنية طاولت أكثر من 200 لوحة من هذا النوع". ومهما يكن من أمر هنا، لا بأس في السياق نفسه من التذكير للمناسبة بـ"مجزرة فنية" مشابهة أخرى تتعلق بالفيلم الكبير الآخر عن بيكاسو الذي تحدثنا عنه أول هذا الكلام: "سر بيكاسو" لكلوزو. فهناك أيضاً طاول التدمير اللوحة التي صور المخرج "بطله" طوال مشاهد الفيلم وهو يرسمها، باعتبار أن رسمها هو موضوع الفيلم، ثم ما إن انتهى تصوير ذلك الفيلم حتى جرى تدمير اللوحة وهو أمر كان متفقاً عليه منذ البداية بين السينمائي والفنان على أية حال!

المزيد من ثقافة