Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحيل وليم فريدكين "مشعوذ" السينما الأميركية

لمع اسمه خلال الثورة في هوليوود التي كان من شأنها التحرر من قبضة الاستوديوهات

المخرج السينمائي الأميركي وليم فريدكين (صفحة المخرج - فيسبوك)

ملخص

لمع اسمه خلال الثورة في هوليوود التي كان من شأنها التحرر من قبضة الاستوديوهات

من النادر ان نسمع عن رحيل سينمائي لم يعرض فيلمه الأخير بعد، لا بل سيشارك به في مهرجان كبير بعد أقل من شهر. هذا ما حدث مع المخرج الأميركي الكبير وليم فريدكين (1935 - 2023)، الذي انتشر خبر وفاته أمس وهو يستعد للكشف عن تفاصيل عمله الجديد، "محكمة تمرد كاين العسكرية"، الذي سنراه في الدورة المقبلة من مهرجان البندقية السينمائي. يأتي جديد فريدكين بعد 12 سنة من الغياب عن الإخراج (باستثناء وثائقي أنجزه عن طرد الأرواح)، على رغم أننا كنا نراه طوال تلك الفترة في المهرجانات، متحدثاً عن أعماله السابقة وماضيه الحافل الذي أثمر 20 فيلماً روائياً طويلاً أنجزها بين 1967 و2023، بعضها عادي وبعضها الآخر من روائع الفن السابع، من دون أن ننسى أنه بدأ مسيرته بوثائقي “الشعب ضد بول كرامب” (1962) عن رجل محكوم بالإعدام.  

خلال جولاته المتكررة على المهرجانات، سواء في "كان" أو "ليون" أو "كارلوفي فاري" أو "البندقية"، تسنى لي لقاء المخرج الكبير مرات عدة. جمعتني به دروسه السينمائية أو حوارات خاصة، وكان دائماً متعطشاً للحديث عن تجربته المديدة والغنية بحماسة شاب في العشرينيات، بيد أن أكثر ما لفتني فيه هو حبه للاستماع إلى آراء الآخرين في شأنه، على رغم اقترابه من الثمانينيات (في ذلك الوقت)، وإنجازه عدة أفلام تعد علامات مضيئة في فضاء السينما، كان لا يزال يهتم بما يقال عن أعماله، أياً كان القائل.  

الثورة السينمائية

لمع اسم فريدكين خلال الثورة السينمائية في "هوليوود" أواخر الستينيات التي كان من شأنها تحرير السينما من قبضة الاستوديوهات وبث دم جديد في شرايينها. أشهر الأسماء التي صنعت هذا التيار الذي عرف بـ"هوليوود الجديدة": مارتن سكورسيزي، وفرنسيس فورد كوبولا، وستيفن سبيلبرغ، وبراين دبالما، وجورج لوكاس، وغيرهم. لكل واحد من هؤلاء فيلم أو أكثر، أسهم في التغيير المنشود. لعب فيلم فريدكين الروائي الخامس، “الرابط الفرنسي” (1971)، بطولة جين هاكمان وفرناندو راي وروي شايدر، دوراً بارزاً في احداث قطيعة مع السينما الهوليوودية القديمة، لأسباب عديدة، أهمها استلهامه من الواقع، إذ إن كاتب السيناريو إرنست تيديمان استوحى الأحداث من تحقيق بوليسي عن شبكة تجارة مخدرات كانت تأتي بكميات كبيرة من الهيرويين من جنوب فرنسا لبيعها في أميركا. حقق الفيلم إيرادات عالية في شباك التذاكر، وفاز بخمس جوائز "أوسكار"، من بينها "أفضل مخرج" لفريدكين. في عام 2005، دخل الفيلم محفوظات مكتبة الكونغرس الأميركي، وذلك لـ"أهميته الثقافية والتاريخية والجمالية". 

لا يمكن الحديث عن هذا الفيلم من دون ذكر مشهد المطاردة في شوارع بروكلين النيويوركية مع جين هاكمان خلف المقود، إذ يعتبره كثر أهم مشهد مطاردة في تاريخ السينما. وفي هذا الصدد، كتب السيناريست جوزف ماكبرايد على صفحته: "قال لي (المخرج الأميركي) هاورد هوكس إنه صارح فريدكين بأن أفلامه الأولى رديئة، ناصحاً إياه بإنجاز فيلم مطاردة يكون أفضل من أي فيلم مطاردة أُنجِز سابقاً، وهذا ما فعله. سألت فريدكين لاحقاً إذا كانت المعلومة صح، فأجاب بالطبع، ثم أضاف أن كل أعماله قبل أن يلتقي بهوكس لم تكن سوى استمناء".  

بعد "الرابط الفرنسي"، اتجه فريدكين إلى سينما مختلفة تماماً، فكان "الإكزورسيست" (1973) الذي يبقى أشهر أفلامه وأكثرها شعبيةً. الكاتب وليم بيتر بلاتي (من أصل لبناني - توفي في عام 2017) وضع بنفسه السيناريو المقتبس من روايته التي صدرت قبل عامين (وبيع منها 13 مليون نسخة فقط في الولايات المتحدة وترجمت إلى 18 لغة)، عن قصة حقيقية لصبي خلبه شيطان (تحول إلى فتاة في الرواية)، مما توجب اللجوء إلى طاردي أرواح. ماكس فون سيدو وإيلين برستين وليندا بلير تولوا بطولة هذا الفيلم الصادم الذي يتعذر تصنيفه، فتحول مع الزمن إلى إحدى كلاسيكيات السينما، وقد حل ثالثاً في قائمة أكثر الأفلام رعباً التي وضعها معهد الفيلم الأميركي. أما الإيرادات، فتجاوزت كل التوقعات. 

حكايات أفلام

لا تحصى الحكايات المرتبطة بتصوير الفيلم، والأفضل مشاهدتها على "يوتيوب" لأخذ فكرة شاملة عن الأجواء المهيمنة على البلاتو، خصوصاً عند تصوير مشاهد طرد الأرواح، مع التذكير أن على أصحاب وصاحبات القلوب الضعيفة الامتناع عن ذلك. قبل تولي فريدكين الإخراج، كانت عرضت عملية أفلمة الرواية على عدد من السينمائيين، من بينهم ستانلي كوبريك وآرثر بن وجون كاسافيتيس، لكن وليم بيتر بلاتي اقترح اسم فريدكين الخارج للتو من نجاح "الرابط الفرنسي"، فأُسنِد الإخراج مقابل نصف مليون دولار وعشرة في المئة على الإيرادات. شهد الفيلم أجزاء عدة، بعضها يعود إلى أصل الحكاية (أي ما حدث قبل الجزء الأول)، لكن فريدكين نكرها كلها، معتبراً كل هذه الأجزاء هراء بهراء، حتى من دون أن يشاهدها، وذلك على رغم أن البعض يحاجج أن الجزء الثاني من "الإكزورسيست" الذي أخرجه جون بورمان عمل مهم، بل يتفوق على الأول. 

فيلمه التالي، "المشعوذ"، كرسه فنان مؤلف مهتم بتعقيدات الذات البشرية، وهو فيلم فريدكين المفضل عند عديد من السينيفيليين. تطلب عقوداً كي يخرج من الهامش الذي بقي فيه طويلاً إلى الضوء، لكن في النهاية نال ما يستحقه، وذلك بفضل كتابات بعض الفضوليين ومصححي أخطاء التاريخ. عند خروجه في عام 1977، تعرض الفيلم لفشل جماهيري ذريع، إذ تزامن عرضه في الصالات مع عرض "حرب النجوم" لجورج لوكاس، فسحقه الأخير. هذا الإخفاق التجاري المصحوب بآراء نقدية سلبية، ترك إحساساً بالمرارة عند مخرجنا الكبير، حد أنه كان يستمتع عندما يسمع إطراءات في شأنه، ولو بعد مرور أربعة عقود على إنتاجه.

في هذا الفيلم، أعاد فريدكين اقتباس رواية جورج أرنو، مرة جديدة بعد الفرنسي الكبير هنري جورج كلوزو الذي كان أفلمها في عام 1953 في فيلم بديع بعنوان "أجر الخوف” (عنوان الرواية). قدم فريدكين نسخة مختلفة عن الفيلم الفرنسي الشهير ولم يكن يعتبره "إعادة صناعة"، إنما عودة إلى الأصل الأدبي. أما المقطع الأسطوري الذي دفع فنه إلى الذروة، فهو عبور الشاحنة الجسر المترهل تحت العواصف والمطر. كان المخرج يعتبر أن "هذا الفيلم استعارة لعالمنا الحالي"، بحيث أن أربعة رجال غرباء كل واحد منهم يكره الآخر، مضطرون على التعايش، وهذا هو الشرط الوحيد كي لا تنفجر بهم الشاحنة.

كثيرة هي حكايات فريدكين عن المشكلات التي اعترضته وهو يصور هذا الفيلم. روى قائلاً: "كنت مجنوناً عندما أنجزته. كان التصوير منتهى الخطورة. عدد من العاملين، ومن بينهم أنا، أصيب بالملاريا. آخرون تفشت فيهم الغنغرينا. جرى التصوير في أماكن خطرة جداً. اليوم، لن أخوض مغامرة كهذه. لا أحد يقبل خوضها. حالياً، يتيح الكمبيتور إتمام مشاهد كهذه. نحن أتممنا كل شيء من دون اللجوء إلى أي خدعة بصرية. كل شيء تراه في الفيلم حقيقي. مشهد الجسر كان آخر مشهد نصوره قبل الذهاب لتصوير المشهد الأخير في نيو مكسيكو. هنا بدأ البطل الذي يضطلع بدوره روي شايدر في الانزلاق إلى الجنون، وأعتقد أن هذه كانت حالتي أيضاً. كنت أمتلك السلطة المطلقة لفعل ما أريد، ولكن بصراحة اعتقدت مراراً أن التصوير لن ينتهي ولن يكون في مقدورنا إنهاء الفيلم".

دخل فريدكين حقبة الثمانينيات بفيلم لا يزال منبوذاً إلى اليوم على رغم أنه أعيد إليه الاعتبار: "كروزينغ" (1980)، اقتباس لرواية جيرارد ووكر، صحافي في "نيويورك تايمز". تجري أحداث الفيلم في نيويورك ويتيح غوصاً استثنائياً في العالم السفلي للمثلية الجنسية والسادو-مازوشية حيث آل باتشينو يلعب دور شرطي (ستيف برنز) يتسلل إلى مجتمع المثليين لكشف ملابسات جريمتين تعتقد قيادة الشرطة بأن مرتكبهما واحد. لضرورات التحقيق ومن أجل الخروج بنتائج مرضية توفر له فرصة الارتقاء إلى المناصب العليا، يبدأ ستيف في ارتياد نوادي المثليين، لكن في غضون ذلك ترتكب جريمتان إضافيتان. أثار الفيلم غضب آل باتشينو (لم يلتزم فريدكين السيناريو الأصلي بل عدله كثيراً خلال التصوير)، أما المثليون الذين كانوا طوال التصوير يتظاهرون ضده، فرفضوا هذه الصورة عنهم التي تربط نشاطهم الجنسي بالجريمة. إلا أن النظرة إلى الفيلم الذي اعتبر آنذاك "هوموفوبياً"، تبدلت مع الوقت، وبات اليوم يعد من الكلاسيكيات، وله ناد من المعجبين منهم كوانتن تارانتينو. هذا من دون أن ننسى أن فريدكين كان اقتطع منه نحو 40 دقيقة كي لا يقع ضمن التصنيف الذي يعتبره بورنوغرافياً. 

"أن تعيش وتموت في لوس أنجليس" (1985) إحدى قمم الفن الفريدكيني. صحيح لم ينل التقدير النقدي والترحيب الجماهيري الذي كان يستحقه حينها، لكن هناك مَن لاحظ أهميته مع مرور الوقت، كما الحال مع معظم إنتاجاته. يتمحور الفيلم على ريتشارد تشانس المهووس بتعقب المزور ريك ماسترز. سيخرج تشانس على القانون للقبض على هذا الرجل وتصفية حسابه معه. غني عن القول إن كل شيء سينتهي في حمام من الدم. الفيلم يستند إلى رواية عميل سري سابق يدعى جيرالد بيتييفيتش. فيلم غير مساوم في رؤيته للواقع ونقله له، يحمل بصمة فريدكين في النحو الذي يصور فيه العنف ويؤسلبه، وينظر إليه اليوم كوثيقة تروي الكثير عن حقبة الثمانينيات في أميركا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في العقدين الماضيين، أخرج فريدكين عدداً من الأفلام المتنوعة، لكن كان من الواضح أن "تاريخه أصبح خلفه"، وهذا شأن عديد من السينمائيين الذين يعجزون عن تكرار التجارب الناجحة بالإيقاع نفسه.  

يقول إن ثلاثة علموه السينما: أورسون ولز الذي يروي في مقابلة أنه لا يقبل أن يدرج أي من عناوين أفلامه في جملة واحدة مع "المواطن كاين"؛ ألفرد هيتشكوك الذي عرفه في بداياته و"الموجة الفرنسية الجديدة" التي تزوج أحد أجمل رومزها (جانّ مورو) من 1977 إلى 1979.  

اعترف فريدكين أن لديه دائماً إحساساً بأن أحدهم سيطرق بابه قائلاً له: "هيا يا وليم، انتهى كل شيء!”. أمضى حياته بهذا الشعور. مع ذلك، عاش 87 سنة، وعلى نطاق واسع جداً، فناً وتجارب إنسانية.  

اقرأ المزيد

المزيد من سينما