ملخص
إبراهيم البجلاتي يروي قصصها الغريبة على ضوء الفساد السياسي
يهيمن جرّاح مسالك بولية مثقف، على السرد بضمير المتكلم في رواية "كلب المعمل" (دار المحروسة) للمصري إبراهيم البجلاتي، مركزاً على علاقته بالكلاب منذ أن عضه أحدُها وهو طفل، إلى أن بات يجري عليها تجارب ويطمح إلى وضع كتاب يتضمن "تاريخاً مختصراً" لها، على غرار كتاب "والتقى الإنسان بالكلب" لكونراد لورنز(1903- 1989). وكأن يخامره شعور بأنه مثل الكلب: " ضائع بين عالمين". والكلب الذي يشير إليه عنوان الرواية، هو مُلتَقَط من الشارع، ويجري عليه السارد تجارب لاختبار طريقة لصنع مثانة بديلة لعلاج من يعانون من تورم سرطاني في هذا الموضع الحيوي من جسد الإنسان والحيوان على السواء. وتتولد من علاقته الغريبة بهذا الكلب بالذات، مشاعر وأفكار خاصة جداً، فضلاً عما سيتكشف خلال سنوات عمله طبيباً، والمقترن بسعيه للحصول على درجة الدكتوراه، من فسادٍ - انطلق مع تطبيق الانفتاح الاقتصادي وصعود الأصولية الدينية في عهد السادات - ينخر في منظومة طبية / أكاديمية، لطالما تغنى الإعلام الرسمي بريادتها وتطورها. ويمتد السرد ليشمل علاقة السارد بمدينة المنصورة (شمال مصر) التي ولد ونشأ فيها، وتأملاته بشأن ما شهدته من تغييرات ثقافية وعمرانية؛ بدءاً من سبعينيات القرن الماضي، شوَّهت هويتها التي تشكلت على مدى نحو ألف عام. وما حدث للمدينة حدث للمهنة نفسها التي صنعت من خلالها سمعة طيبة تجاوزت الحيز المحلي، وأقصد مهنة الطب عموماً وجراحات الكلى والمسالك البولية، بصفة خاصة.
ارتباط قديم
العلاقة الأولى تدفعه إلى تتبع تاريخ ارتباط الإنسان بالكلب؛ ليلاحظ أنه بدأ قبل 14 ألف سنة قبل الميلاد، متجسداً في ولاء الثاني للأول مادام يوفر له الطعام والمأوى. ويخلص في أحد المونولوغات إلى أنه "لم تكن طاعة الكلب سوى تعبير بريء عن عجزه ومحبته، لكنها كانت محبة بلا خطة، أوقفت دماغه عن العمل، فصار دماغه أصغر، وصار تابعاً ألصق، وصار خاضعاً أكثر، ثم عبداً جوَّعوه وهو الذي يسحب لهم الطرائد، فإذا جاعوا هم وعز الصيد ذبحوه وأكلوه وصنعوا من فرائه مئزرا ونعالاً". ويمكن اعتبار أن هذا السياق هو ما حكم علاقة السارد برؤسائه في العمل وأساتذته في السلك الأكاديمي المرتبط بتخصصه الطبي، لجهة تحكمهم في مسار طموحه المهني على الرغم من نبوغه الواضح، مما يجعله يفكر جدياً في الهجرة. وهذا ربما يعادله أنّ لو كان للكلب عقل مثل عقل سيده، لاختار العودة إلى البرية والخلاص من ذل الاستئناس هذا.
السارد وهو نفسه بطل الرواية، ونلاحظ أنه – من دون أن نعرف له اسماً - يتأمل في جزء كبير من متن هذا العمل، رحلة استئناس الكلاب، فيرى أنه قادر على تأليف "تاريخ مختصر للكلب"، "منذ بدايته كزبّال، وحتى نهايته كخلٍ وفي مصلوب على طاولة العمليات، على حد تعبير السارد، الذي يلتقي مع الكاتب في أنه مثله، حاصل على الماجستير من مركز لجراحة الكلى والمسالك البولية في جامعة المنصورة، يعتبر الأهم من نوعه في الشرق الأوسط. وانتماء السارد إلى ذلك المركز في شكل نهائي هو رهن بإرادة مديره، وهو جرَّاح شهير يلقبونه بـ "الباشا"، ولهذا لدلالته الواضحة لارتباط هذا اللقب بالإقطاعيين الذين كان بمقدور من يرغب منهم، التحكم في مصائر من يخضعون لسطوته، من عمال ومزارعين وموظفين في شكل عام. لم يسمح له "الباشا" الملقب أيضاً بـ "رئيس جمهورية المسالك البولية"، بالعمل الدائم في المركز. سمح له فقط بإتمام بحثه لنيل الماجستير، وبعدها طلب منه الرحيل. وعندما لاحت له فكرة يمكن أن تقوم عليها أطروحته للدكتوراه ذهب مجدداً إلى "الباشا"، فعامله بعنجهيته المعهودة: "راح يقلب في الأوراق التي تركتُها له، وكان من الواضح أنه تفحصها من قبل. ثم قال بلهجة آمرة: إعمل دي. وأشار إلى الرسم الأساسي بقلمه الأحمر. نفخ دخان سيجارته بقوة وهو يقول: تيجي هنا كل يوم، تمر على المعمل وتشوف، ولما تلاقي عندهم وقت فاضي ويقولوا إنك ممكن تشتغل تيجي هنا وتقولّي. يلا... وقتك خلص" ص 355.
ثم ما لبث أن جاءته الموافقة على العمل لمدة سنة في مستشفى في فرنسا، وهو لا يزال يجرب مع الكلب طريقة لصنع مثانة بديلة من جزء من أمعائه... "أفزعني الحزنُ الذي رأيتُه في عينيه، فنهضتُ من مكاني مهرولاً، كمَن أصابه مسّ، وخرجتُ من المعمل عائداً إلى المستشفى العام. لماذا تمتلئ عيناه بكل هذا الحزن؟ وهل تحزن الكلاب أصلاً؟ وإذا كانت عيناه حزينتين بالفعل، فما سر هذا الحزن؟ هل تشعر الكلاب بالظلم؟ أم أنني أتوهم؟ هل حزنه هذا هو السبب في صمته العميق الدائم؟ كان بإمكاني أن ألمح حزناً في عيون الكلاب كلها. الشرس منها والهادئ والقبيح. كلاب المعمل كلها لها عيون حزينة. كنتُ كمن وقع على كشف ما، كشف غامض، لا بد من فك غموضه".
رغب في الهجرة إلى فرنسا متأسياً بصديقه طبيب أمراض النساء والتوليد "أمير لبيب ويصا". لكن الأخير اتخذ قرار الهجرة في ظل تصاعد شعور الأقباط عموماً بالتهديد، حتى أنه لم يعد يجرؤ على وضع صورة كبيرة لمار جرجس، في شرفة شقة أسرته في حي توريل، وهو من الأحياء الراقية سابقاً في مدينة المنصورة، فيما هاجر شقيقه إلى أستراليا.
بين حاضر وماض
وهكذا وزَّع بطل الرواية وقته بين كلب المعمل في المنصورة، ودروس تعلم اللغة الفرنسية في القاهرة، متكئاً على راتب ضئيل، وعلى إقامته "المجانية" في بيت أبيه وأمه... "مازالتْ شوارعُ توريل تحتفظ ببعض من جمالها القديم، لكن وصلتْها أكوام الزبالة مثل بقية الشوارع، وتكاثرت فيها الحفر والخرائب المعروضة للبيع. كانت هناك فيلات وكانت لها حدائق تعشق المشي بقربها. كان هنا بشر مختلفون كأنهم جالية من عرق مختلف، وكأنهم كلهم رحلوا، وكأن بنا رغبة في طمس وجودهم ومحو ما تبقى من أثر لهم" ص 300، 301. أما قصر الشناوي - المطل على النيل – "بلونه الأبيض، وتماثيله العارية"، فنجد السارد وقد "وقف متأملاً راقصات الفلامنكو بثيابهن الملوَّنة على زجاج نوافذه العالية": "يا إلهي، كانت هنا "غاردينيا"، أين ذهبت؟". فيما "بيت القاضي" المكوَّن من أربعة طوابق عالية، "شجرة الصبار أمامه تطاوله في الارتفاع، وتتماهى خضرتها العجيبة مع خضرة اللبلاب الهابط من السماءعلى شق البيت الأيسر، ومع الجهنميات بزهورها الحمراء صاعدة من الأرض زاحفة على شقه الأيمن".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويلاحظ استغراق السارد في تفاصيل كثيرة على طريقة اليوميات والمذكرات، ما أثقل السرد، فجاءت الرواية في 428 صفحة من القطع الوسط، لتنتهي بأن يجرب "الباشا" طريقة "المثانة البديلة"، على طفلة، فتفشل العملية، رغم أنه كان يعلم أن تجارب المعمل في هذا الصدد كانت لا تزال في حاجة إلى المزيد من الوقت، وإلى إزالة العراقيل البيروقراطية التي كان هو نفسه يتفنن في وضعها أمام السارد الواقع تحت سطوته، وقوع الكلب تحت سطوة صاحبه. الدفن في محرقة هو مصير كل كلب يخضع لتجارب المعمل، وكأنه من النفايات الطبية، لكنها قبل بلوغ ذلك المصير الحتمي كانت تعرف - بحسب ملاحظة السارد – "ما هو الظلم وتشعر به وتعاني أيضا من عذاب الانتظار". أما تجاربه التي كان يأمل أن تمهد لحصوله على الدكتوراه، فقد "أفسدت، هي لم تكتمل حتى أقول إنها فشلت، وهي أيضاً لم تفسد. التجربة أفسدت، فمن الذي أفسدها: أنا بعجزي وقلة خبرتي، أم الباشا بتسلطه العلمي وجبروته؟". ويخلص وهو يستعد للسفر إلى فرنسا، إلى أن "الفشل ليس سيئاً تماماً، بل يمكن أن يكون حلاً من الحلول".