ملخص
مجموعة أطباء سودانيين لجأوا إلى الاستفادة من تجربة كورونا في علاج المرضى عن بعد في ظل خروج 90 في المئة من المستشفيات عن الخدمة وصعوبة التنقل في الخرطوم.
كثيرون هم من كادوا يفقدون حياتهم أثناء بحثهم الوصول إلى مستشفى أو مركز صحي طلباً للعلاج في السودان، بعضهم تعرض للنهب، وآخرون من الحالات الحرجة قضوا في طريق رحلة البحث الصعبة عن مركز للعلاج مفتوح الأبواب، لتصبح مسافة الزمن بين الحياة والموت تفصلها فقط مدة الوصول إلى المستشفى.
ومثلما جعلت حرب الخرطوم في لحظة ما الوصول إلى المقابر لدفن الموتى مستحيلاً، بات الوصول إلى المشافي في كثير من الأحيان مماثلاً وأكثر صعوبة.
يروي المواطن السوداني (ع ك) أنه اصطحب والدته مريضة الضغط والسكري بسيارته الخاصة في محاولة الوصول إلى أقرب قسم للطوارئ الحية في منطقة بانت غرب بأم درمان، لكن عند إحدى نقاط الارتكاز خلف حي المهندسين الملتهب، استوقفهم جنود بزي "الدعم السريع"، وطلبوا منهم مغادرة السيارة وتسليم مفاتيحها، لكنهم عندما علموا أن بداخل العربة مسنة مريضة وبعد محاولات استعطاف عدة ورجاء استبدلوا بالعربة موتوراً ثلاثي العجلات (ركشة) على نفقتهم من أجل مواصلة رحلة البحث عن أقرب مستشفى لعلاج والدته وتم الاستيلاء على عربتهم.
مع هذا الواقع السوداني لجأ كثيرون إلى البدائل الشعبية والعشبية، بينما استهلك النزيف أرواح آخرين في رحلة البحث عن مشفى، رحلة هي في حد ذاتها مخاطرة كبيرة وسط الاشتباكات وفوضى القذائف والرصاص الطائش، ونهب نقاط الارتكاز.
محمود النعيم اصطحب والده أيضاً في منطقة الثورات بأم درمان متوجهاً إلى "مستشفى النو" الوحيد الذي ظل يعمل ولا يزال منذ بدء الحرب وحتى الآن، لكن لسوء حظهم استوقفتهم دورية ونهبت هاتف الوالد و250 ألف جنيه سوداني (420 دولاراً أميركياً) كانت هي مصاريف العلاج المتوقع.
وسط هذه الأخطار المتزايدة والمهددة لحياة المرضى سواء بقوا في منازلهم من دون علاج أو حاولوا الخروج بحثاً عن علاج، ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي مجموعات من الأطباء تضم عدداً كبيراً من الاختصاصيين والاستشاريين في تخصصات عدة لتقديم خدمة طبية عبر التواصل كعيادة افتراضية تمارس (التطبيب عن بعد)، كملاذ للمرضى الذين يصعب عليهم الوصول إلى مراكز الخدمة الطبية، في وقت تتناقص فيه أعداد المستشفيات والمؤسسات الصحية بعد خروج 90 في المئة منها عن الخدمة.
التطبيب عن بعد
يعتبر الطبيب صلاح برهان اختصاصي أمراض الصدر والباطنية ضمن فريق العيادات الافتراضية أنها خدمة للمرضى السودانيين ليس في الداخل فحسب بل من هم بالخارج أيضاً، بطبيعتها المفتوحة، وكل الأطباء المشاركين من مختلف التخصصات هم متطوعون لتقديم الخدمة مجاناً، إذ بإمكان المرضى الاتصال للتحدث مع الطبيب المطلوب مباشرة أو الحجز أو المقابلة "أونلاين" عبر مكالمات الفيديو.
يضيف برهان "فكرة (التطبيب عن بعد) هي محاولة جادة للتواصل مع المرضى بخاصة في زمن الحرب الذي يتعسر فيه مقابلة الطبيب بصورة مباشرة وبث شكواه، كما نحاول من خلالها أن ندعم المرضى معنوياً بمعرفة أعراض الأمراض التي يشتكون منها والتوصل للتشخيص والعلاج المناسبين".
يصف اختصاصي الصدر "التجربة بأنها مرضية لكن سوء شبكة الاتصالات وخدمة الإنترنت يصعب الأمر علينا، خصوصاً ونحن أنفسنا نزحنا من الخرطوم إلى الولايات"، مشيراً إلى أنه ومع حداثة التجربة والفكرة إلا أنها حظيت بقبول وإقبال كبير من المرضى وذويهم.
تجربة ممتدة
في السياق ذاته يوضح المتخصص في طب الأسرة وأحد أطباء فريق العيادات الافتراضية، سامح محمد طلب، أن المبادرة بهذا العمل بدأت منذ ثاني أيام الحرب في 16 أبريل (نيسان) الماضي، لأن الفريق العامل كان شبه جاهز بحكم تجربته في العمل الممتدة لنحو عام ونصف العام أثناء إغلاقات جائحة كورونا، وهو مدرب تدريباً ممتازاً على التعامل عن بعد مع المرضى، كما له القدرة على استقبال المكالمات المباشرة أو من طريق رسائل "واتساب"، بحسب الجدول والأرقام الخاصة بكل تخصص مرضي من الأطباء الموجودين.
حول طبيعة عمل تلك المجموعات يشرح طلب "يتم تصنيف المكالمات والرسائل الواردة من المرضى إلى ثلاثة أنواع، فهناك الشكاوى المتعلقة بالإصابات المباشرة أثناء الحرب وهي التي نواجه فيها بعض الصعوبات باعتبار أن جروح الحرب من الأشياء الجديدة على الفريق من جهة التعامل مع حالات النزف والإصابات المباشرة و(الرائش) الذي يخترق ويستقر داخل الجسم وغيرها، لكن لدينا فريق آخر من كبار الاستشاريين لا يتلقى المكالمات المباشرة، يتم نقل شكاوى الحالات المعقدة له عبر مجموعة واتساب أخرى مرتبطة بالجميع، ثم ينقل عنهم للمريض الإرشادات التي عليه أن يتبعها في التعامل مع حالته وكل ما يجب عليه فعله".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بالنسبة إلى النوع الثاني من المكالمات والرسائل فهو يرتبط بما يمكن إطلاق عليه الأمراض المتعارف عليها أو العادية مثل الضغط والسكري والحمى، أما النوع الثالث فلا يخلو من صعوبة لارتباطه ببعض المسائل الإدارية، وهو يتعلق بتزويد المرضى بمعلومات عن المراكز الخدمية التي يطلبونها مثل الإرشاد إلى أقرب مركز لغسل الكلى لا يزال في الخدمة أو عناية مركزة، ويتم التعامل مع مثل هذه الحالات من خلال ممثل وزارة الصحة ضمن المجموعات، ويجرى يومياً تحديث البيانات الخاصة بالمراكز والصيدليات العاملة تحت غرفة الطوارئ الصحية وموقعها الجغرافي ومواعيد عملها والأدوية المتوفرة بالنسبة إلى الصيدليات.
ويرى أن تجربة التطبيب عن بعد أثبتت أنها مفيدة جداً في مثل ظروف الحرب الحالية وخففت كثيراً من الآلام والأعباء عن المرضى وأهاليهم وهم في بيوتهم، ولا تزال الغرفة تقدم خدماتها يومياً لأعداد مهولة من المرضى.
وتابع "هناك تزايد وضغط شديد من المكالمات والرسائل من المرضى داخل ولاية الخرطوم في ظل الحرب وصعوبة الحركة أو لعدم جود مراكز أو مستشفيات بالجوار، وما زلنا نتلقى يومياً آلاف المكالمات والرسائل والاتصالات، بدرجة يصعب متابعتها وتعقبها جميعاً في بعض الأحيان".
الولايات أيضاً
يلاحظ طبيب الأسرة سامح محمد طلب أنه مع ازدياد موجة النزوح من الخرطوم في الآونة الأخيرة بدأت المكالمات والرسائل تتناقص، لكن في المقابل بدأت الغرفة تتلقى مكالمات واتصالات من الولايات بخاصة تلك التي تأثرت بأعداد كبيرة من النازحين، مضيفاً "كنا نكتشف ذلك عند سؤال المريض عن موقعه، نتيجة الضغط على المراكز الصحية والمستشفيات هناك بسبب النزوح".
المواطنة منى عبدالجليل من الذين تمكنوا من الاستفادة من العلاج عن بعد، وصفت تلك التجربة بأنها كانت منقذة لوالدتها التي تعاني ارتفاعاً في الضغط والسكري وتعرضت لمضاعفات تمكنت من تجاوزها عبر التواصل مع الأطباء المتخصصين في مجموعة التطبيب عن بعد.
كما ذكر المريض يوسف أبوالخير أن ابنه فشل أكثر من مرة في الوصول به إلى أحد المراكز الصحية نتيجة القتال المحتدم في الشوارع المحيطة، لكنه حصل بواسطة أحد أصدقائه على أرقام لمجموعة من الأطباء تعرض خدماتها افتراضياً، وتمكن من التواصل معهم، وحصل منهم على الإرشادات اللازمة بخصوص استخدامات الأدوية السابقة وبدائلها المتاحة.
وعبرت المفوضية القومية لحقوق الإنسان في السودان عن قلقها وانزعاجها في شأن تقارير الجهات الصحية، التي تشير إلى انهيار النظام الصحي وخروج معظم المستشفيات والمراكز الصحية عن الخدمة، مما يترتب عليه استمرار المعاناة وصعوبة حصول المرضى والجرحى على الخدمات الصحية، بخاصة الذين يعانون أمراضاً مزمنة.
وطالب بيان للمفوضية طرفي النزاع بسرعة التوافق على ممرات آمنة لسيارات الإسعاف وتمكين الجهات الصحية والمنظمات ذات الصلة من إنشاء مستشفيات ميدانية بالأحياء لمجابهة حالات الطوارئ الصحية.
أخطار وإجراءات
كانت منظمة الصحة العالمية كشفت عن توقف ثلثي المرافق الصحية والمستشفيات في مناطق النزاع في السودان، بينما تمنع الهجمات المتكررة على المرافق الصحية وسيارات الإسعاف المرضى من الوصول إلى المراكز الصحية، في ظل مواجهة أصحاب الأمراض المزمنة تحديات كبيرة في الوصول إلى الرعاية في ظل توقف خدمات الرعاية الحرجة في المستشفيات.
بدورها كشفت وزارة الصحة الاتحادية عن حزمة إجراءات لحل مشكلة شح الدواء التي ضربت البلاد خلال فترة الحرب، على رغم المجهودات المبذولة، بخاصة الأدوية المنقذة للحياة، بتوفير دعم عاجل 3.5 مليون دولار لسد الفجوة الدوائية لنقص الأدوية المنقذة للحياة.
أكد اجتماع موسع برئاسة وزير الصحة الاتحادي المكلف هيثم محمد إبراهيم، ضم وزارات المالية ورئيس اللجنة الصحية اللوجيستية، وصندوق إمدادات الدواء، وقيادات وزارة المالية، ببورتسودان، أن الأولوية للصحة على رغم الوضع الحالي في البلاد.
طمأن رئيس اللجنة الصحية اللوجيستية، خليل محمد إبراهيم، الأطباء بالتزام وزارة المالية بتوفير ميزانيات لتسيير أعمال وزارة الصحة الاتحادية في الطوارئ بالمستشفيات، ومراكز الكلى والأورام، لتوفير الخدمات فيها واستمرار مجانية العلاج للمواطنين، إضافة إلى خطوات وضع اللبنات الأساسية لإنهاء مشكلة وفرة الأدوية.
منظمة (أطباء بلا حدود) شكت بدورها من صعوبة حصول كوادرها العاملة على التأشيرات إلا من مدينة بورتسودان البعيدة على ساحل البحر الأحمر الشرقي، كما ظلت تنتظر منذ أكثر من شهرين الحصول على تأشيرات للجراحين والممرضين وتخصصات أخرى.
وناشدت المنظمة السلطات السودانية استعجال منح تأشيرات لأطباء وكوادر طبية أجنبية يعملون معها لكي تتمكن من مواصلة تقديم الدعم لآخر المستشفيات العاملة في البلاد، بعد أن تسببت الحرب في خروج 90 في المئة من المؤسسات العلاجية والصحية من الخدمة.
كما كشفت مسؤولة عمليات الإغاثة بالمنظمة كلير نيكوليه عن أن تأشيرات عديد من كوادرها المقدمة للخدمة الصحية في المستشفى التركي بالخرطوم على وشك الانتهاء، وعليهم مغادرة البلاد.
من جانبها رجحت منظمة الصحة العالمية أن يزيد تفاقم الأزمة الصحية التي وصلت إلى مستويات خطرة للغاية بالسودان، مع تضاؤل فرص السلام، في وقت خرج فيه أكثر من ثلثي المستشفيات عن الخدمة وسط تقارير عن استمرار تعرض المرافق الصحية للهجمات.
واندلعت معارك شرسة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، منتصف أبريل الماضي، تسببت في نزوح أكثر من أربعة ملايين شخص، 71 في المئة منهم من العاصمة الخرطوم، لجأ بعضهم داخلياً إلى الولايات وفر آخرون إلى دول الجوار الحدودية، كما طاول الدمار الهائل البنى التحتية وشل القطاع الصحي بنسبة أكثر من 90 في المئة.