ملخص
سفينة "بيبي ستوكهولم" تشكل جزءاً من الاستراتيجيات السياسية التي تهدف إلى تحويل الانتباه عن التحدي العالمي الأوسع نطاقاً، والمتمثل في ارتفاع معدلات الهجرة في مختلف أنحاء العالم: عوامة إيواء طالبي اللجوء في بريطانيا استجابة غير كافية لمعضلة عالمية
يبدو واضحاً أن عوامة إيواء المهاجرين "بيبي ستوكهولم" Bibby Stockholm في المملكة المتحدة - التي ستستوعب في نهاية المطاف قرابة 500 طالب لجوء - لن تحدث فارقاً ملموساً على مستوى معالجة أزمة الهجرة. فالرقم المعني يظل متواضعاً مقارنة بنحو 45 ألف مهاجر غير شرعي عبروا "القنال الإنجليزي" إلى بريطانيا في العام الماضي.
وكما يقول البعض، فإن الظروف على متن هذا المركب هي قاتمة، لكن من غير المرجح أن تكون مروعة بما يكفي، لتشكل رادعاً كبيراً لأي شخص يريد الفرار للنجاة بحياته، أو حتى لمهاجرين اقتصاديين يبحثون عن عمل وفرصة لتغيير حياتهم. فالاحتمالات بالنسبة إلى شخص يبحر من الساحل الفرنسي على متن زورق صغير، أن ينتهي به المطاف على سفينة عصرية راسية قبالة ساحل دورسيت، تظل ضئيلة جداً.
اقرأ المزيد
- إجلاء "شائن" لآلاف اللاجئين الأفغان من فنادق بريطانيا
- بريطانيا تستعد لزيادة توافد اللاجئين عبر المانش بنصب الخيم
- في بريطانيا: "فضيحة" العوائق البيروقراطية تفصل اللاجئين عن أسرهم
- لندن تضع طالبي لجوء في سفينة راسية... وتنديد بـ "سجن عائم"
- الحكومة البريطانية "تتلاعب بالبيانات" لتقليص تراكم طلبات اللجوء بعد شطب آلاف منها
وفي الواقع، يمكن قول الشيء نفسه عن المخططات الحكومية الأخرى المختلفة لإيواء قرابة 74 ألف شخص سبق أن دخلوا إلى البلاد، وهم ينتظرون البت في وضعهم. إن الخيارات المتاحة كالثكنات العسكرية السابقة، ومستوطنات الخيام الموقتة، والترحيل إلى رواندا، أو كما يشاع الآن، إلى جزيرة أسانسيون الواقعة في وسط المحيط الأطلسي، جميعها غير مناسبة على الإطلاق. وتدل جميع المؤشرات على حكومة يائسة، تبدو وكأنها تتخذ إجراء أياً كان، بغض النظر عن مدى نجاعته.
حتى إذا تم جمع مختلف هذه الخيارات، فإن التدابير ستتمكن من استيعاب الوافدين على متن قوارب صغيرة لمدة أسبوع أو شهر في أحسن الأحوال. ومع ذلك، فمن المسلم به على نطاق واسع أن هذه المبادرات محدودة النطاق وغير الإنسانية في كثير من الأحيان، ليست الحل للتحديات وللقضايا الأكبر حجماً التي ستطرحها الهجرة الجماعية في العقود المقبلة. ويعد الوضع الراهن بمثابة نذير بداية الأزمة، لا نهايتها. ويعزى ذلك إلى حال عدم الاستقرار الجيوسياسي، وتزايد التفاوتات الاقتصادية والآثار التدرجية والعميقة لمشكلة تغير المناخ.
بطبيعة الحال، حظيت عوامة "بيبي ستوكهولم" بكثير من الاهتمام، مع تركيز شديد على الظروف الموجودة على متنها التي تخضع لتدقيق شديد. فالكتلة الرمادية الضخمة لتلك السفينة العائمة، تمثل رمزاً كئيباً ومؤلماً لأوجه القصور الوطنية، إن لم يكن وصمة عار. وفيما تدعي الحكومة البريطانية أن استيعاب الأشخاص على متن العوامة هو أكثر فاعلية من حيث الكلفة، من نقلهم إلى فنادق، فهي ترفض الكشف عن الحجم المتوقع لهذا التوفير المالي. يضاف إلى ذلك، إخفاق وزارة الداخلية التي تعثرت في وضع إرشادات الملاءمة الخاصة المتعلقة بيوم استقبال أول المهاجرين غير المحظوظين على العوامة، الذين سيقيمون على متنها. وسيتم استخدام السفينة بضعف سعتها المخطط لها، بحيث سيتعين على النزلاء تشارك مقصورات ضيقة. وبحسب "اندبندنت"، فستكون لكل فرد في المتوسط، مساحة معيشة أقل من مساحة مواقف السيارات العادية، حتى عند أخذ المناطق المشتركة والمساحات الخارجية في الحسبان.
وفي حين أن الأفراد ستكون لديهم حرية التنقل والخروج، من خلال توفير خدمة حافلات إلى بلدة ويموث، إلا أن الوضع هو أشبه بأجواء مراكز احتجاز، يعمل فيها أفراد أمن على مدار الساعة، كأنهم في سجن شبه مفتوح، ومن بينهم عناصر لديهم خلفية عسكرية ومدربون للتعامل مع مجموعة من السيناريوهات، بما في ذلك النزاعات والمشاحنات المحتملة. كذلك، من المرجح أن تؤدي التوترات بين مجموعات مكتظة ويائسة تم اختيار أفرادها بشكل عشوائي ورغماً عن إرادتهم، إلى حالات من العنف واضطرابات خطرة، على غرار الحوادث التي تقع في مراكز الاحتجاز العادية الموجودة على البر البريطاني.
هذه السفينة الغريبة ليست فقط غير مناسبة للتعامل مع مهمة ذات طابع ملح، لكنها أيضاً تسهم في تشويه تصوراتنا. فهي تشكل جزءاً من السياسات الاستعراضية، وليست مقنعة على الإطلاق. لا بل أسوأ من ذلك، إن عيبها الرئيس ينبع من دورها في تشتيت الانتباه. وستشهد السنوات والعقود المقبلة هجرات بشرية ضخمة تمتد عبر القارات على نطاق غير مسبوق في تاريخ البشرية، إضافة إلى ذلك، فإن النزاعات والصراعات الداخلية وظهور الجماعات الإرهابية مثل "القاعدة" وتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وتزايد ظاهرة إزالة الغابات، والطقس القاسي، وارتفاع مستوى سطح البحر بسبب تغير المناخ - كل هذه العوامل ستدفع بالناس إلى ترك ديارهم نحو المجهول.
تجدر الإشارة هنا إلى أن انتهاء الحرب الباردة لم يسفر في النهاية عن تغيير مسار التاريخ. ففي أوروبا، أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى أكبر دفق للهجرة نحو الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتسبب الاضطراب المستمر في مناطق عدة من العالم، من منطقة الساحل عبر "القرن الأفريقي" مروراً بسوريا والعراق وإيران وحتى أفغانستان، إلى تدمير مدن وتحطيم دول، وتشريد الملايين من الأشخاص. وأفرز الصراع في جنوب السودان، على سبيل المثال، نحو مليوني لاجئ، منهم مليون توجهوا إلى دول مجاورة مثل أوغندا، التي هي غير مهيأة لاستيعاب هذا العدد الكبير من النازحين.
ومن سمات هذه الأزمات المعاصرة أن العبء الأكبر من تأثيرها ينعكس على البلدان المجاورة الأكثر فقراً، كتأثر الأردن بتدفق اللاجئين السوريين، واستيعاب بنغلاديش أفراداً من شعب الروهينغا فروا من الاضطهاد في ميانمار، والتحديات التي واجهتها كولومبيا جراء تدفق الفنزويليين. ولجأت بعض دول الغرب إلى طرق مختلفة لمعالجة هذه القضايا: فالولايات المتحدة حاولت نصب جدار (على حدودها مع المكسيك)، فيما كثفت دول أوروبا دورياتها في البحر الأبيض المتوسط، ونقلت أستراليا مهاجرين محتملين إلى كمبوديا البعيدة.
وعلى رغم بعض النجاح المحدود الذي حققته هذه المحاولات التكتيكية، فإن هذه الأساليب لم تقيد حركة الناس بشكل فعال، ولا يمكنها تحقيق ذلك بشكل واقعي. لا يزال المستقبل غير مؤكد، فمن يستطيع أن يجزم بما يمكن أن تجلبه حرب في تايوان، أو انهيار أنظمة مثل آيات الله، ناهيك ببعض التوغلات الاستطلاعية المحتملة التي قد يقوم بها وكلاء للرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أراضي دول "حلف شمال الأطلسي" (ناتو).
لا يمكن لبريطانيا أن تفعل أكثر مما يقوم به جيرانها في مواجهة مثل هذه الهجرة الطويلة الأمد. صحيح أن "القنال الإنجليزي" يؤمن لها نوعاً من الحاجز الطبيعي، لكن التاريخ الحديث أظهر مدى عقم العقبات الجغرافية التقليدية. في المقابل لا يمكن للاقتصادات المتحضرة والمفتوحة أن تتبنى نهجاً مشابهاً لنهج كوريا الشمالية على سبيل المثال، التي تغلق حدودها بإحكام، والمعزولة وراء سياسة "صفر هجرة". من هنا يتعين على المملكة المتحدة، كما على دول الغرب ككل، التفكير بعمق في كيفية الوفاء بمسؤولياتها الأخلاقية والقانونية في توفير ملاذ لأولئك الذين يواجهون الاضطهاد، في وقت أن أرقام الهجرة قد تثبت أن عدد الأفراد الذين يلتمسون اللجوء قد يصل قريباً إلى مستويات غير مسبوقة، بما يتجاوز بكثير ما كان يمكن تخيله قبل عقد أو عقدين من الزمن.
هذا لا يعني أنه يجب تجاهل الالتزامات المنصوص عليها في اتفاقات حقوق الإنسان، لأن هذه الاتفاقات تضمن وتحمي الحقوق الأساسية لكل من المواطنين البريطانيين، وأولئك الذين يرغبون في إعادة توطين أنفسهم. إنها بدلاً من ذلك، دعوة إلى الاعتراف بفداحة حجم الهجرة الجماعية، والسعي إلى التوصل إلى اتفاق جماعي على طريقة مواجهة بريطانيا لهذا التحدي.
© The Independent