Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كتاب "هوية مربكة" يطرح مشكلة الانتماء المزدوج

 الفرنسي اللبناني بول عودة تخلى عن عالم المال واختار طريق الفلسفة 

لوحة للرسام السوري شفيق رضوان (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

الفرنسي اللبناني بول عودة تخلى عن عالم المال واختار طريق الفلسفة

بول عودة فيلسوف فرنسي لبناني معروف في فرنسا والعالم الفرنكوفوني، ويعدّ من أبرز الفلاسفة الجدد اليوم، وله مؤلفات مهمة في حقول فلسفية متعددة، بعضها نال شهرة وأكسبه مرتبة متقدمة في الوسط الفرنسي. نشأ بول وسط أسرة ثرية، لكنه عندما أنهى دراسته الثانوية، إختار طريق الفلسفة تخصصاً أكاديمياً، فلمع وانصرف إلى التأليف والنشاط الفلسفي، مفترقاً عن سبيل والده المصرفي المعروف ريمون عودة الذي أسس مصرفاً شهيراً مع أسرته. ترك بول عودة عالم المال والتجارة وانصرف إلى الكتابة الفلسفية والتأمل، فألف كتبا مهمة، عميقة وذات بعد منهجي، علاوة على كتب ذات طابع  فلسفي إبداعي. وعيّن عودة مسؤولاً عن سلسلة الكتب الفلسفية في المنشورات الجامعية الفرنسية التي تعدّ من أبر الدور الفلسفية. هنا قراءة في كتاب بول عودة الجديد "هوية مربكة" الصادر بالفرسية عن دار ستوك في باريس.

سيرة ذاتية فلسفية

هناك كتب ننتظرها بشغف كمن ينتظر النتيجة النهائية لمباراة حاسمة بين فارسين خاضا أشرس المعارك وقد حان أوان تصفية الحساب بينهما، ككتاب الفيلسوف بول عوده المسمّى "هوية مربكة".

ما أن نبدأ بقراءة الكتاب حتى يمتنع علينا التوقف ولو لبرهة. فتَحتَ ظاهرِ رواية سيرته الذاتية، يعالج بول عوده موضوعًا راهنًا بامتياز، عنيت موضوع الهوية والانتماء، هو المولود في بيروت لعائلة بورجوازية لبنانية قرّرت في بداية الحرب الأهلية التي اندلعت منتصف سبعينيات القرن الماضي مغادرة لبنان والاستقرار نهائيًا في فرنسا، ولم يكن الصبي قد أتمّ بعد الحادية عشرة من عمره.

يروي الكتاب بصدق وحميمية تفاصيل الإقامة والاندماج الكليّ في المجتمع والثقافة الفرنسية والحصول على الجنسية، وعلاقة الكاتب السلبية بلغة وثقافة وذكريات بلده الأم الذي لا يذكر الكثير عنه، واجتهاده في حب البلد الذي تبناه، محاولاً أن يكون فرنسيًا أكثر من الفرنسيين، وأن يقتلع كل صلة بينه وبين بلد الأرز. لكن ذكر بيروت كمكان الولادة على بطاقة الهوية وجواز السفر الفرنسي ظل يلاحقه في كل مكان، ولعله قد عاد بقوة كمحرّكٍ لسؤال العلاقة بالجذور وتشكّل الهوية والصراعات النفسيّة التي ألمّت به على مدى نصف قرن. فرغم  الكتب العديدة التي نشرها وبلوغه من العمر عتيًا، ظل بول عوده محتفظًا بحساسية المراهق الذي لا يستسيغ ردّه إلى جذوريته اللبنانية، البلد الذي، بحسب قوله، يحب أن يظهرَ بمظهرِ الضحية، بينما هو في الواقع مسؤولٌ عن الفوضى التي تلتهمه والفسادُ الذي يضرب طبقته السياسية. غير أن نعته بالفرنسي-اللبناني، وهو بالفعل كذلك لأنه يحمل جنسية البلدين، يؤلمه. فهو يحب أن يُنظر إليه كما يريد، بوصفه فرنسيًا صرفًا. لكن الفرنسيون أنفسهم غالبًا ما يذكرون عن غير قصد ودون أدنى سوء نية انتمائه المزدوج ويعيدونه، كما سائر المجنسين، إلى جذورية أراد محوها، كما لو أنه لم ينجح أبدًا في تكوين هوية فرنسية، ويدفعون به إلى التأمل في سؤال الانتماء والهوية، علمًا أن لبنان محبوب في فرنسا والنظرة إلى مواطنيه نظرة إيجابية.

سؤال الهوية

 حين نقارن كتاب بول عوده "هوية مربكة" بالعديد من المؤلفات التي طرحت سؤال الهوية، نجده أكثر إثارة للاهتمام لأصالته وصدقه وابتعاده عن التنظير والتركيز على التجربة الشخصية بوصفها مسرح التنازع بين هويتين منفصلتين، لا بل متناقضتين في وجه من الوجوه.

 وبول عوده المتخصص بفكر جان جاك روسو ورومان غاري وتوماس برناهارد والمهتم بكتابات لاكان وسارتر،  والآتي إلى إشكالية الهوية من خلفية فلسفية، لا يتوانى في معالجته لهذه المسألة عن السير على خطى جان بول سارتر في تحليلاته النفسية المتعلقة بالسادية-المازوشية وكره الذات والنظرة إلى الوجود والماهية، المتناثرة، هنا وثمة، على تتالي صفحات "الوجود والعدم" و"الكلمات"، أو على تتالي صفحات المقالات النقدية التي تناولت نصوص وقصائد فلوبير وبودلير ومالارميه وجينيه وغيرهم من الكتّاب والشعراء. وها هو ذا، على غرار الفيلسوف الوجودي، يموضع سؤال الهوية على مفترق تجربتين إنسانيتين يعتبرهما متكاملتين وغير منفصلتين، تجربة حب الذات وتجربة الشعور بالخجل.

ولئن كان بوسع هاتين التجربتين النفسيتين أن تؤثرا بحسبه على أي شخص تقريبًا، فإن تأثيرهما سيكون أكثر ألمًا وشراسة على الأفراد الذين يعيشون تمزقًا بين ثقافتين وتاريخين متمايزين، أحدهما ينبع من ماضٍ عائلي سحيق انتمى إلى بلد الحضارة الفينيقة، لكن هذا البلد، الذي يحمل أيضًا هويته، عاش في تاريخه الحديث انعطافةً طائفية مشينًة، غدا من جرّائها محتضرًا، يتخبّط بآفات الفساد والتصارع والاقتتال وتشنجات الفكر الأحادي الاستئثاري والعشائرية المتعطشة إلى الدماء التي تهرق بلا توقف منذ سنين، والآخر، أي تاريخ فرنسا الجمهورية، الذي يتغذى من أعماق الفلسفة والفن والعلوم والجمال والأساطير الأدبية، كما حاكتها أحلام الطفولة منذ أن بدأ الصبي المشرقي يتعرّف على الثقافة والحضارة الفرنسية ويواظب على قراءة الكتب التي خطها كبار أهل الأدب والفكر.

وإذ يستنطق بول عوده عوارض الاضطراب البنيوي في ذاته، مترصدًا عمق الخلل الذي يعتريه، فهو يسمي بصراحة ما بعدها صراحة الأشياء بأسمائها، ويفصح عن المشاعر الوجدانية المتناقضة التي تلمّ به، متخذًا من أسلوب الواقعية النقدية سبيلاً لرصد حاله ولمعاينة تغيّراته الذاتية فيما يتعلق بمسألة الهوية. هذا ما يطلق عليه عوده تسمية "متلازمة المجنّس" أي الشعور بالضيق الذي يصيب جميع المجنسين الجدد الذين يخشون ألا يتم استيعابهم في وطنهم الجديد وأن ينظر إليهم مواطنو البلد "الأصليين" نظرة سلبية، كأن يتم إعادتهم على الرغم منهم إلى الانغلاق في هوية الأجداد الذي أرادوا الهروب منها بأي ثمن، وهي في حالة عوده نفسه الهوية اللبنانية والعربية والبورجوازية والمسيحية الانضمامية الكاثوليكية.

في أحد مقاطع الكتاب، يقارن عوده نفسه بتايلور بطل فيلم "كوكب القرود" الذي قام بدوره الممثل الأميركي  الشهير شارلتون هيستون والذي يظهر في المشهد الأخير مترجلاً عن حصانه مصابًا بنوبة من الغضب العارم إزاء أنقاض تمثال الحرية الغائص في ما كان يعرف قبلاً بنهر هدسون، مدركًا أنه على الأرض وليس على كوكبٍ آخر وأن بشرًا مثله مسؤولون عن الدمار والكارثة التي حلّت بالأرض وليس القرود القاسية. ما يعني أن بول عوده يتماهى بإحاسيس واضطراب بطل الفيلم، وهي مزيج متداخل من الشعور المتأرجح بين اليأس والخجل، يعيشه، كلما نجح الماضي الذي ظل منزويًا في ركن من أركان نفسه، في التحرك رغمًا عنه، معلنًا أنه لم يندثر بعد، مساهمًا بمعنى ما في توعكه وتشنج وعيه والالتباس في هويته التي يعمل على تشكيلها بفضل "معموديتة" الفرنسية والأكاديمية والعلمانية، علمًا أن الهوية هي معطى غير ثابت، تتغير بتغير الوضعيات.   وبول عوده، الأستاذ الجامعي والقارئ النهم لنصوص المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان، المعروف بتأويلاته لنظرية سيغموند فرويد ومساهمته في التعريف بالتحليل النفسي الفرويدي في فرنسا في الثلاثينيات من هذا القرن، وبالتغيير العميق الذي أحدثه ليس في مفاهيم التحليل النفسي ومناهجه فحسب، بل أيضًا في معالجته لمسألة الهويّة الشخصيّة ومشكلات التواصل، ينهل من معين هذا الأخير في تفسير هويته، انطلاقًا من علاقته بجسده ولون عينيه الزرقاوين والتي يطابق لونهما شعوره بهويته الفرنسية، وعلاقته باسمه وشهرته والتي يمكن أن تعطي الانطباع بأنه من جذور إيطالية أو رومانية. لكنه مولود في بيروت وجذوره لبنانية. وهذا ما يشعر به داخل نفسه وما يحاول طمسه في تناقضات وجدانيّة على خلاف صورته الخارجيّة، التي يبدو من خلالها كائنًا يتّسم بالثّبات.

فعلى غرار لاكان يعترف بول عوده أنه لا يمكن للهويات القومية أو الدينية أو التاريخية أو الاجتماعية أن تتبلور إلا تحت رعاية قطبين متقابلين، وإن هاجس الهوية يتأرجح بين جحيمين متنافسين يمثلان متاهة الروايات الرمزية الوطنية وروابط القرابة والتأمل الفنتازي الذي اختلقته ذات طفولية بعيدة عن الواقع، اسكرها هذيان تقدير الذات المفرط والذي يمكن أن يكون مدمرًا. هذا ما تؤكده بحسب عوده الروايات والسرديات الموازية للقومية اللبنانية والقوميات الأوروبية في القرنين الماضيين. فالإنسان المسكون بهاجس الهوية والجذورية هو بمعنى ما قاتل محتمل أو فاقد للذاكرة، لا يمكنه سداد دينه للحياة إلا بتدميرها ونهبها وبتر نفسه. على هذا المستوى من التحليل والبناءات الجدلية تكمن العقدة شبه الميتافيزيقية لجميع معارضي مسألة تحديد الهوية. فبالنسبة لهم، كما بالنسبة لبول عوده، الفرنسي-اللبناني والرومي الكاثوليكي العلماني البعيد عن ممارسة الطقوس الدينية، إن الذوات لا تملك إلا مأزق الاختيار بين أن تكون أو أن تصير. والكينونة تعني فيما تعنيه الرغبة في البقاء كما كان أسلافنا، بينما تعني "أن نصير" أن نصبح بالضرورة مختلفين عما نحن عليه أو ما يتوقعه الآخرون منا في الإقبال الحرّ على تحديات الحياة المستجدة والقطع مع الماضي والتطلع إلى آفاق متجددة.  

الصيرورة والغيرية

يقول عوده المدافع عن الصيرورة والغيرية إن كل شكل من أشكال التفرّد الإبداعي هو مواجهة جريئة لا بدّ منها للتخلص من الجمود. ولعل التفرّد يؤخَذُ غِلابا، ولو ترافق في كثير من الأحيان مع الشعور بالخطر. لكنه في الأخير يبقى الباب الوحيد للخروج من المأزق الذي تتخبط فيه الذات الإنسانية المتأرجحة بين الإبقاء على الخصوصية والحفاظ على ما كان، وبين انفتاح الذات على عالم آخر مغايرٍ لما هي عليه. بتعبير فلسفي   وجودي أوضح، يشاطر عوده سارتر رؤيته القائلة بمبدأين مهمين في الحياة، مبدأ الهوية ومبدأ الوجود. يعرفنا المبدأ الأول على ماهية الكائن وهويته الجوهرية وينطبق على الكائنات غير العاقلة، أي التي وُجِدَت بماهية وهوية مكتملة، وهي قلَّما تتغير مع الزمن. في حين أن مبدأ الوجود يقتصر على الكائن الإنساني. إذ إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي وُلِدَ ناقصًا وغير مكتمل الهوية، والكائن الوحيد الذي يسبق وجوده ماهيته، أي أنه وجود  حرٌّ بلا ماهية محددة سلفًا، وجود لذاته، ومن أجل ذاته، وليس وجودًا في ذاته وفي متناول اليد. وهذا ما يفسر ظهور وحضور مشكلة الهوية في عالم الوجود الإنساني التاريخي الثقافي، حيث توجد الحرية والعقل واللغة والرغبات والأحلام والتنافس والصراع والآمال.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبمقابل فهم "محنط" للهوية، يرسّخ بول عوده تصوره المختلف المدافع عن فكرة أن الذات تكتسب كيانها وهويتها من تفاعل العناصر الثقافية التي تسهم في تشكيلها. وأن الوافد إلى ثقافة مغايرة لثقافته الأصلية، يكتسب مقومات جديدة تضاف إلى هويته حالما يندمج في الآخر، كليًا أو جزئيًا، فيصبح العنصر المشكل للهوية مرتبطًا أكثر باللغة والمصير المشترك الذي تحكمه العناصر الاقتصادية والاجتماعية ضمن سيرورة لا تتوقف عن الحركة. شرط هذا التشّكل الهوياتي التحرّر من الرغبة في التشبّه أو التماهي المطلق بالأب، والإرادة في أن نصير ما نطمح إليه، وما ينشأ من خياراتنا ومراتب معرفتنا وبيئتنا الثقافية في جدلية يتعاقب على تطورها أطوار شتّى. هذا ما يمّكن المرء من النجاح في القضاء على "جحيم" الآخرين.

لكن هذا التغلب يتطلب جهدًا وتعبًا لتنجح النفس في رمي الأثواب التي ألبستها إياها الخصوصيات الجامدة والتحرّر من ثقل الأسلاف، فيصبح المرء شخصًا موئله هذه الثقافة التي يتطلع إلى الانغراس في صميمها. لكن ذلك ليس بالأمر السهل، لأن الصراع الذي يعيشه الباحث عن تشكيل هوية جديدة، كما هو حال بول عوده نفسه، في المعركة الشاقة التي خاضها طوال حياته ضد التأرجح المرهق بين هويتين متناقضتين، أوشك أن يفسد في مناسبات عدة شروط قبول الذات والسعي وراء حياة ذاتية وعائلية مستقرة. ذلك أن الرغبة في أن نصبح مختلفين عما نحن عليه، هو بعينه مغامرة مجنونة محفوفة بالمخاطر.

كتاب بول عوده هو بالتأكيد كتاب جميل يقول لنا أن هناك أناس يطمئنهم الانتماء إلى هوية وطنية وثقافية ومجتمعية محدّدة. وهناك أناس، على العكس من ذلك، يشعرون أن أسرهم في نطاق هوية جامدة متحجرة هو أشبه ما يكون بالإقامة الجبرية. ذلك أن مجرد السؤال عن مكان ولادتهم يجعلهم يحلمون بالهروب من سجن التواريخ والأماكن وشِباك الهويات. وبول عوده بالتأكيد هو أحد هؤلاء الهاربين الذين يقودهم "شغف مجنون بالحرية"،  إلى التطلع إلى رؤية "مكان الولادة"، لا كمكانٍ مكتوبٍ على أوراقه الثبوتية كماضٍ أو تراثٍ عليه حمله على الدوام، بل كإمكان وجود. فالماضي والتراث هما في ما نتخاره أو نبتكره في تطلع إلى الأمام، علنا نصبح دومًا مختلفين قدر الإمكان بغية التحرّر ِمن  كل الأسوار والأسلاك الشائكة التي من شأنها أن تمنع الوجود.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة