ملخص
بعد مرور نصف قرن على ولادة موسيقى الهيب هوب يرسم متخصصون خريطة تأثيرها في الثقافة الأميركية والعالمية.
في مساء يوم الـ11 من أغسطس (آب) عام 1973، ولدت موسيقى الهيب هوب المعروفة أيضاً باسم (الراب) بابتكار فريد خلال حفلة جماعية في ضاحية برونكس بمدينة نيويورك، حينها لم يتنبأ أي من المغنين الأوائل بأن موسيقى الهيب وحركات القفز ستصبح صناعة عالمية بمليارات الدولارات، لكن ما لا يمكن إنكاره هو أنه خلال السنوات الـ50 التي مرت على هذا الحدث، تطورت تلك الموسيقى ونمت وتركت بصمة كبيرة تقريباً على جميع جوانب الثقافة من اللغة والأدب إلى الرقص والمسرح والفنون البصرية والأزياء.
موسيقى الهيب هوب كشفت أيضاً عن ألم وصراع العيش على هامش المجتمع ونسجت ثقافة مشتركة من خلال الطبقة الاجتماعية أو الاضطهاد التاريخي أو تهميش الشباب، ليس فقط في أميركا ولكن في جميع أنحاء العالم، فإلى أين وصل هذا التأثير، وما عوامل انتشاره، وهل كان إيجابياً؟
احتفال بذكرى مؤثرة
فيما احتفت نيويورك مساء الجمعة الماضي بذكرى مرور نصف قرن على انطلاق موسيقى الهيب هوب في برونكس عبر إحياء حفلة ضخمة على مدى ثماني ساعات بمشاركة آلاف من سكان المدينة والسياح، وتكريم الأميركي المولود في جامايكا كليف كامبل المعروف باسم كول هيرك الذي أطلق الشرارة الأولى لهذا النوع من الموسيقى الإيقاعية عام 1973، قال نجوم الحفلة إن الهيب هوب لم تكن فقط ظاهرة موسيقية هزت العالم، بل تفاعل ثقافي انتقل من كونه صوت من لا صوت لهم في أميركا تعبيراً عن الفقر والتمييز والتهميش ضد الأميركيين السود إلى التأثير في اللغة والأدب والفنون والأزياء، ولينتشر ليعبر عن هويات وثقافات أخرى مختلفة في أرجاء الكوكب كافة من أوروبا إلى أفريقيا وأميركا اللاتينية ومن الصين واليابان إلى روسيا وأستراليا.
كانت الحفلة تذكيراً بالبداية التي اجتمعت فيها عناصر الهيب هوب معاً خلال السبعينيات حين عانت المناطق الفقيرة من نظيرتها الحضرية في الولايات المتحدة من الظلم والتمييز الاجتماعي الواضح، مما دفع كول هيرك مع كثير من الخيال وكلمات نابضة بالحياة إلى تكوين الهيب هوب من خلال تدوير التسجيل نفسه على أسطوانات مزدوجة وعزل وتمديد الفواصل الأكثر إيقاعاً في الأغنية التي كانت تقنية جديدة ومثيرة ملأت الأرضية بالراقصين الذين أمضوا أياماً وأسابيع في تطوير حركاتهم، وسرعان ما حاول منسقو أغاني آخرون في برونكس التفوق على هيرك في إطار من المنافسة التي لا تزال الدافع الرئيس في عالم الهيب هوب.
ووفقاً لمركز كينيدي الثقافي في العاصمة الأميركية واشنطن، أضاف هذا المشهد حركة متنامية من رؤى وأصوات الشعراء المتفائلين والفنانين والفلاسفة الحضريين، الذين حاولوا بأية وسيلة متاحة نشر ما كان يحدث في أحيائهم التي عانى كثير منها التجاهل وكانت على وشك الانهيار.
ما الهيب هوب؟
ينظر بعضهم إلى الهيب هوب على أنها الموسيقى ذات الإيقاع المذهل وكلمات الأغاني السريعة التي ينطق بها مغن يمسك بيده ميكروفوناً محمولاً، فيما يراها آخرون خطوات رقص تتحدى الجاذبية، بينما يعتبرها بعضهم الآخر على أنها موسيقى يحولها الكتاب إلى لوحات فنية بأحرف ورسومات على الجدران تعبيراً عن الحياة، لكنها في الحقيقة كل ما سبق وأكثر، فهي تحتضن هذه العناصر الفنية وتمزجها بشكل تصبح معه وسيلة للرؤية والاحتفال والتجربة والفهم والمواجهة والتعليق على الحياة والعالم، وبمعنى آخر فإن الهيب هوب هي أسلوب حياة وثقافة.
وبحسب المتخصصين في موسيقى الهيب هوب، هناك ستة عناصر في هذه الثقافة، تشمل أولاً (دي جي) أي التعامل الفني مع الإيقاعات والموسيقى، وثانياً (رابنغ) أي موسيقى الراب بمعنى وضع شعر الكلمات المنطوقة على إيقاع محدد، وثالثاً (بريكينغ) وهو شكل رقص الهيب هوب، ورابعاً (الكتابة) وهي رسم غرافتي على الجدران بأسلوب بارز وعال، وخامساً (المسرح والأدب) أي الجمع بين عناصر الهيب هوب والمواضيع المختلفة في الدراما والشعر والقصص، وسادساً (معرفة الذات) من خلال التعبير عن المبادئ الأخلاقية والاجتماعية والروحية التي تعلم وتلهم طرق الهيب هوب وكينونتها في الوجود.
عولمة الهيب هوب
على رغم بداية الهيب هوب عام 1973، إلا أن الانطلاقة القوية التي دفعت بها إلى الانتشار العالمي كان إصدار أغنية (رابرز ديلايت) في خريف 1979، التي كانت أبرز تسجيل ناجح تجارياً، فمع انطلاق هذه الأغنية بدأت موسيقى الراب في الانتشار في جميع أنحاء العالم، إذ ظهرت نسختان منها باللغة البرتغالية في البرازيل، وأخرى باللغة المحلية في جامايكا وفنزويلا وهولندا وألمانيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي غضون بضع سنوات، كانت الأغنية تسمع في أجزاء متفرقة من العالم مع تغيير يناسب البيئة المحلية، كما الحال في "ظواهر الراب" لأوركسترا الفنانين اليابانيين يلو ماجيك عام 1981، وفي "راب ليلة السبت" للنيجيري ديزي كيه عام 1982، وحتى في روسيا السوفياتية التي شاركت الظاهرة أيضاً في "راب" تشاس بيك عام 1984.
وسرعان ما تبع مزيد من الإنجازات في الانتشار العالمي لموسيقى الهيب هوب، ففي عام 1984 استضافت فرنسا أول عرض أسبوعي متلفز على المستوى الوطني مخصص لموسيقى الراب، وهو ما سبق عروض الراب على قناة "أم تي في" بالولايات المتحدة بنحو أربع سنوات. وفي أوائل التسعينيات، أنتج مشهد الراب الفرنسي النابض بالحياة "أم سي سولار" كأول نجم راب عالمي متجول حائز على الأسطوانة البلاتينية خارج الولايات المتحدة، ومنذ ذلك الحين أصبحت فرنسا ولا تزال، ثاني أكبر سوق لموسيقى الراب في العالم.
مفارقة الألفية الجديدة
بحلول عام 2000، دخل مصطلح "الهيب هوب العالمي" في الخطاب التجاري والأكاديمي، كما ظهرت أنماط جديدة عالمية مستوحاة من موسيقى الهيب هوب، لكن هذا التوسع العالمي ميزته مفارقة واضحة، إذ كيف للثقافة الحضرية الأميركية السوداء التي نسجت موسيقى الراب والهيب هوب نسيجها، أن تمثل في الوقت ذاته تجربة الفرد ومكانه في فكرتها الأساسية بينما تنتقل من بلد لآخر ومن ثقافة لأخرى؟
بالنسبة إلى المتخصصين في الموسيقى المرتبطة بالأعراق مثل الأكاديمي المتخصص في الموسيقى بجامعة ويسليان إيريك شاري، فإن هذا التناقض يقود إلى قلب الهوية والأصالة، إذ يستخدم الناس ويشكلون ويحولون العناصر الثقافية حينما تنتقل من مكان آخر لجعلها تتحدث عن تجربتهم الخاصة، وهنا يعاد تعريف علامات الأصالة خلال هذه العملية.
تعدد المسارات
مع موسيقى الهيب هوب، كان هناك طيف واسع من علامات الأصالة، أي أن يظل منتج العمل صادقاً ومتناغماً مع الشكل الفني للبيئة التي يمثلها، وفي حين أن الهيب هوب تعبر منذ البداية عن التكامل بين أنماط الأداء والأزياء للأميركيين السود (من أصل أفريقي) وأن بعضاً منهم خارج أميركا حاول تقليدها أو نسخها، إلا أن موسيقى الهيب هوب تمتلك أيضاً القدرة على إلهام مغني الراب العالميين للتعمق في تقاليد الأداء المحلية، وهذا يعني أخذ نماذج من موسيقى بلدانهم واستكشاف التعقيدات في لغاتهم ولهجاتهم حين اختيار كلمات أغانيهم.
ويعزز هذه الرؤية الباحثة الرائدة في موسيقى الهيب هوب هاليفو أوسوماري، التي استكشفت الأصالة في مفهومها عن هوامش الارتباط، الذي أسس مسودة نظرية الهيب هوب العالمية، ويتعلق هذا المفهوم بمدى الارتباط بين ما تسميه "الصدى الاجتماعي بين الثقافة التعبيرية للسود" من ناحية، والديناميات المماثلة في الدول والثقافات الأخرى من ناحية أخرى، حيث يمكن الربط بينهما عبر ثقافة مشتركة مع أجزاء مختلفة من الشتات الأفريقي أو من خلال الطبقة الاجتماعية أو الاضطهاد التاريخي أو تهميش الشباب.
وبتوسيع هذا الإطار قليلاً، يمكن لأي شخص يشعر بالتهميش الاعتماد على روح الهيب هوب، ويمكن أن يشمل ذلك الأوكرانية أليونا أليونا، التي تعرضت للتنمر بسبب مظهرها، وحتى أنصار تفوق البيض في بلدان الشمال الأوروبي.
لكن باحثة الهيب هوب والناشطة السياسية إيفون بينو قدمت وجهة نظر بديلة حول انتشار هذا النوع من الموسيقى في جميع أنحاء العالم، حيث كتبت عام 2002 أنه في حين أن موسيقى الراب أصبحت عالمية لقدرتها على التكيف والانتقال، فإن ثقافة الهيب هوب لم تكن ولا يمكن أن تكون كذلك، لأنه من غير المنطقي توقع أن التعبير الثقافي الذي يتمحور حول تجارب الأميركيين السود واللغة العامية الخاصة بهم، يمكن أن يعبر عن الجميع حول العالم أو أن ينفصل عن جذوره ككيان ثقافي.
تصنيع الأصالة
ومع ذلك، تظهر دلائل معاكسة لما تقوله إيفون بينو، حيث تناول فيلم وثائقي عام 2007 عن موسيقى الهيب هوب في كينيا، القضية من وجهة نظر مختلفة وهي أن هذا البلد الأفريقي الذي نظر في البداية إلى موسيقى الهيب هوب على أنها سلالة جديدة من الاستعمار يسمح لها بالاندماج مع الثقافات الأخرى حول العالم وتملي اختيار الملابس واللغة وأسلوب الحياة بشكل عام، إلا وجودها كان مرحب به وقبلته الغالبية على نطاق واسع على عكس المستعمرين، وذلك لأن الكينيين صنعوا موسيقى الهيب هوب الخاصة بهم، وكانوا ينظرون إليها على أنها حافز للتأمل الذاتي والإحياء الثقافي أينما حلت.
كما أن مغني الراب السنغالي فادا فريدي قال عام 2006 وهو يغني على إحدى أغاني الهيب هوب، إن جمهوره كان يرى أن هذه الموسيقى تماثل "التاسو"، وهو أحد أشكال الفن السنغالي اللفظي المصحوب بقرع الطبول، وبالمثل يرى مغني الراب الأسترالي واير أم سي وجود صلة بين التجمعات التقليدية للسكان الأصليين المعروفة باسم "كورو بوري"، التي تتضمن الغناء والرقص ورواية القصص وبين الهيب هوب، الذي يقول إنه مجرد أمر حداثي، كما يلاحظ كذلك مغني الراب الأميركي فرانك فال، وهو من السكان الأصليين من قبيلة سيكانغو لاكوتا، وجود صدى بين موسيقى الهيب هوب وثقافة السكان الأصليين.
الصدى المحلي
يقول الباحثون في موسيقى الهيب هوب إنه في أي مكان تقريباً وصلت إليه موسيقى الراب والهيب هوب، أشار الناس إلى صداها مع التقاليد المحلية، إذ استخدم بعضهم التقاليد المحلية لتحويل موسيقى الهيب هوب إلى شيء له جذور محلية عميقة، وبهذه الطريقة استخدمت مغنية الراب اليابانية هيمي الشكل الشعري القديم (تانكا) لمجموعة أغنيتها "تاتيبا شاكوياكو"، وفي الأغنية تغني الراب عن المفهوم الياباني لكوتوداما أو "روح اللغة" المضمنة في عدد المقاطع.
وعلى هذا النحو، اعتمد مغني الراب الغاني أوبرافور على بعض الأمثال في لغته الأم، واستند مغني الراب الصومالي الكندي كنعان، إلى الشعر الشفهي الصومالي، وتم استكشاف الروابط التاريخية بين مغني الراب الفرنسي المعاصر والأغنية الفرنسية بشكل مثمر، وهذا ليس مفاجئاً، نظراً إلى الهويات المزدوجة لأبناء المهاجرين الأفارقة في فرنسا، مثل مغني الراب عبدالملك.
وفي حين لا يزال الرابط بين الهيب هوب والثقافة الأميركية السوداء لا يمحى، اعتبر أشهر مغني الراب في الصين فافا، خلال مقابلة عام 2018 مع صحيفة اسكواير سنغافورة، أن موسيقى الهيب هوب تساعد فريقه في التعبير عن أعمق مشاعرهم وأفكارهم وحول كيفية فهمهم للعالم الذي يعيشون فيه. وعندما سئل عن أن الهيب هوب الأميركية نمت من نضال الأميركيين من أصل أفريقي، فمن أين تأتي موسيقى الهيب هوب الصينية؟ أجاب "الهيب هوب الصيني يأتي من التمرد في حياة الشباب، ونستخدم موسيقى الراب للتعبير عن أنفسنا".
الماضي والمستقبل
وفي الولايات المتحدة، حيث انطلقت هذه الموسيقى للمرة الأولى، أدرك فنانو الهيب هوب القلقون في شأن المستقبل أن المجتمع الأميركي جعل عديداً من السود والسكان الأصليين وغيرهم من الملونين يشعرون بأنهم مختلفون أو أقل من البشر، أو حتى مثل الأجانب وعبروا عن ذلك من خلال فنهم.
لكن على رغم تأثيرات الماضي، هناك كثير من موسيقى الهيب هوب التي تتحدث عن المستقبل مثل أغنية بلانت روك عام 1981 التي تعد جزءاً من تقليد يعتمد فيه مغني الراب على ما يسمى "أفروفيوتشريزم"، وهو مزيج من الخيال العلمي والسياسة والتكنولوجيا والمستقبل والتحرر بهدف إثراء كلماتهم ومظهرهم، وفقاً لما يقوله روي ويتاكر، أستاذ فلسفة الأديان الأفريقية في جامعة سان دييغو.
وبحسب ويتاكر "تنصح النزعة المستقبلية الأفريقية الشعوب المهمشة بإعادة تقييم جروح الماضي وحالات الظلم الحالية، بينما تطمئنهم إلى أن هناك مستقبلاً محتملاً يمكن أن يشعروا فيه بالانتماء".