Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مسرح جان رينوار الصغير" فيلم يستعيد خيوط لعبة مشاكسة

مرة أخرى حين تكشف الإبداعات الصغرى عن نقاط القوة في أعمال كبيرة تبدو كالمتاهة

مشهد من "مسرح جان رينوار الصغير" (موقع الفيلم)

ملخص

مرة أخرى حين تكشف الإبداعات الصغرى عن نقاط القوة في أعمال كبيرة تبدو كالمتاهة

إذا كان فيلم جان رينوار، السينمائي الذي يلقب عادة بـ"شاعر السينما الفرنسية" يذكر مباشرة بعمل فني آخر ينتمي إلى صنف فني غير سينمائي، فإنه يذكر باللوحة الأخيرة التي رسمها الفنان الأميركي إدوارد هوبر بعنوان "الممثلان". وليس فقط لأن فيلم رينوار كان هو بدوره آخر إبداع حققه المخرج الفرنسي. بل كذلك لأن المعنى بين العملين الفنيين مشترك، وظروف إنجازهما متشابهة والمرارة التي تطغى عليهما معاً واحدة لا لبس فيها. فكلا الفنانين كان يحقق عملاً إبداعياً يودع به فنه لمرة أخيرة ويعلن نهايته بكل بساطة أمام جمهوره الذي يشعر الآن أنه لم يخذله أبداً ويستحق منه لفتة ووصية وهو يدنو حثيثاً من النهاية. والحقيقة أن شعور ولوج النهاية هو الذي يبقى بعد أن ينسى كل من العملين. ونعرف طبعاً أن هوبر سيرحل عن عالمنا بعد عامين من إنجاز لوحته (1965) في عام 1967، بينما سيعيش رينوار (1894 – 1979) سنوات عدة بعد إنجازه "مسرح جان رينوار الصغير" (1969)، لكنه وكما حال زميله الأميركي سيكون قد انتهى كمبدع مع ذلك العمل الأخير.

وصية فنية أخيرة

ومهما يكن من أمر فإن رينوار جعل من ذلك الفيلم وصيته الفنية الأخيرة، تماماً كما فعل هوبر إذ جعل من لوحته "الممثلان" نوعاً من وصية فنية أخيرة. ويمكننا القول إن التشابه بين الفنانين يتوقف هنا. وهذا ما يتيح لنا التوقف عند فيلم رينوار الذي، إن كان من الصعب اعتباره واحداً من أفلامه الكبرى (على غرار "الوهم الكبير" أو "قوعد اللعبة" أو "نانا" أو حتى "حفلة في الريف") فإنه واحد من أفلامه الأكثر أهمية. وبالتحديد لأنه عمل يتسم بذاتية معلنة – منذ العنوان على أي حال – ولأنه انطلاقاً من هنا قال الكلمة الأخيرة، الكلمة الفصل في نظرة رينوار إلى سينماه وجمهوره، وعلاقته بالفن السينمائي، وشاعريته الإبداعية، حتى من دون أن يكون موضوع الفيلم ذاتياً. بل لعل الذاتي "الإضافي" فيه ما يحمله من شكوى حول مصير المبدع، لا حين تجف مصادره الإبداعية طبعاً، فهذه لا تجف أبداً من تلقاء ذاتها وذات صاحبها، بل حين تسد في وجهه أبواب الإنتاج وينصرف عنه جمهور عريض يخيل إليه عن خطأ أن المبدع لم يعد لديه ما يقوله إذ إنه قال في أعماله السابقة كل ما كان في إمكانه أن يقوله. وهنا في هذا الفيلم المؤلف من مقدمة بديعة وأربع حكايات أكد رينوار أن ثمة هنا أربعة أفلام قصيرة قد يصلح كل منها أن يتحول إلى عمل كبير لا يمكنه أن يقل جمالاً وشاعرية وأهمية عن إنتاجه السابق. ويقيناً أن هذه الرسالة وصلت، ولكن فقط إلى الجمهور النخبوي الذي كان في ذلك الحين كل ما تبقى للسينمائي الكبير.

مسرح الدمى

ومن هنا لم يكن صدفة أن يفتح فيلم رينوار الأخير هذا، عالمه على مسرح للدمى، ولكن من يقدم ما سيحدث ويوجه حديثه إلى الجمهور من على ذلك المسرح، ليس المهرج المعتاد (غينيول) بل جان رينوار نفسه الذي تلتقطه الكاميرا عجوزاً متعباً لكنه كعادته دائماً مبتسماً باشاً يتكلم بكل طلاقة وهو ينظر إلى الكاميرا بالتالي إلى متفرجي المسرح ومتفرجي الفيلم، لكنه رغم بشاشته وابتسامته لا يبدو قادراً على إخفاء مرارة ستكشف على الفور أن المشهد الذي نراه فيه هو مشهد وداع. وبالفعل يتحدث رينوار هنا عن أنه في سبيله إلى إنهاء مساره السينمائي بعد أن فشل في تحقيق أي فيلم جديد وأدرك أنه بات منتمياً إلى الماضي الذي ولى. وهو للمناسبة ومنذ بداية الفيلم، يوجه تحية إلى تلك "الفنانة الفاتنة" جان مورو، التي رغم أنها لم تمثل أي فيلم من إخراجه، كان يتطلع قبل تقاعده إلى أن تكون بطلة لأكثر من مشروع كان يسعى إلى تحقيقه، بالتالي ها هو هنا يدعوها إلى مشاركته وقفته كي تغني له ولجمهوره أغنية تعود إلى بدايات القرن الـ20 يقول مطلعها "عندما ينتهي كل شيء/ عندما يموت حلمنا الجميل...". وبالفعل تنشد جان مورو الأغنية الحزينة.

الماضي بديل للحاضر

أما رينوار فإنه يتابع حديثه الموجه إلى الجمهور "المزدوج" قائلاً إنه إذ يعجز عن جعل جان مورو جزءاً من حاضره وسينماه، إنما يريد الآن أن يضع الماضي مقابل الحاضر... لكن الماضي الذي يحكي عنه سيكون قد شغلته لحظات أكثر جمالاً من حقيقته وذلك عبر تلك الحكايات القصيرة التي يتألف منها "هذا الفيلم الإضافي...". وهكذا تتتابع تلك الحكايات على الشاشة. وتحمل الحكاية الأولى عنوان "ليلة الميلاد الأخيرة" وهي تحكي حكاية مشردين يبدوان سعيدين رغم كل شيء. سعيدين إلى درجة أنهما في سهرة عيد الميلاد يخلدان إلى النوم في زاوية بائسة كبؤسهما وسط ديكور لا يخفي ما في تكوينه من افتعال، ما يحيلنا بتأكيد إلى أجواء واحد من الأفلام الأولى التي حققها رينوار نفسه عند بداياته السينمائية في عام 1928 أي شريط "بائعة الكبريت الصغيرة". وهنا يفيدنا رينوار أنه أمام واقعه الجديد وقد بات كل شيء مرعباً ومعولماً ولا إنسانياً، بات اليوم عاجزاً عن أي تفكير مستقبلي، بالتالي لا يمكنه من جديد إلا اجترار الماضي. وها هو يجتره بالفعل من خلال الحكاية الثانية وعنوانها "آلة التلميع الكهربائية" التي تحدثنا عن معاناة الصبية إيميلي التي بعدما بدأت إحباطاتها بزوج أول كان أفضل ما أهداها إياه آلة تلميع كهربائية، يتلوه زوجها الثاني الذي يبادر إلى رمي الآلة من النافذة مشمئزاً باعتبارها "مادة استهلاكية شيطانية تعود الناس على الكسل"، لكن إيميلي كانت قد تعلقت بالآلة إلى درجة وجدت نفسها وبشكل تلقائي، تلقي نفسها وراءها من النافذة محاولة أن تستعيدها! وبالتوازي مع اكتمال مأساة إيميلي يصور لنا الفيلم في حكايته الثانية هذه، جمهرة من عمال متظاهرين يهتفون بالشعار الفرنسي الشهير "من المترو إلى النوم فالعمل" والمعبر عن خواء حياتهم اليومية وقد أصبحوا، كما حال الشخصية التي يلعبها تشارلي شابلن في "الأزمنة الحديثة" مجرد روبوتات ملحقة بالآلة!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كل النساء الخاضعات

ويقودنا هذا إلى الحكاية الثالثة والمعنونة "ملك إيفتو" التي يتحدث رينوار في مفتتحها إلى الممثلة فرانسواز آرنول التي يشرح لها الدور الذي تلعبه كامرأة ساذجة يتلاعب بها الرجال فينتهي بها الأمر إلى التماشي مع رغباتهم كالحمل الوديع، قائلاً لها: "ستكونين نانا بعض الشيء ومدام بوفاري بعضه الآخر" أي بمعنى أنها ستكون مجرد صدى لبعض الشخصيات النسائية المستكينة رغم تمردها الظاهري، في عدد من أفلامه القديمة. وحول هذا الفيلم وبالأحرى حول هذه الحكاية الأخيرة من الفيلم، علق الناقد الفرنسي بيار مورا كاتباً أن كثراً أحبوا هذا الفيلم واستساغوه رغم أنهم لم يروا في الحكايات المتتالية فيه ما يليق بخاتمة مخرج كبير من طينة جان رينوار. أما ما استساغوه في هذه الحكاية في رأي مورا فكان تلخيصها لقدر كبير من الأبعاد اللاأخلاقية التي دائماً ما طبعت نهايات، بل جوهر، أفلام جان رينوار. بل لا شك أنهم نظروا إلى ذلك "الجوهر" مكثفاً في عدد محدود من المشاهد ومن الدقائق بالتالي، على أنه نظرة أخيرة على فكر رينوار الذي سبق أن ثأر لهم من كل ما هو "صائب سياسياً" و"ممتثل أخلاقياً" في أفلام رينوارية مثل "نانا" و"قواعد اللعبة" وبخاصة "الوهم الكبير" حيث اعتادت تلك الأبعاد المشاكسة على أخلاقيات مجتمع بورجوازي "تميزه تفاهة لا برء منها"، أن تتوه وسط تشابكات أحداث ومواقف وحوارات تخلط كل شيء بكل شيء، وربما في محاولة ذكية للإفلات "إن لم يكن من رقابات السياسات الحكومية، فبالتأكيد من رقابات السلطات الاجتماعية والكنسية التي غالباً ما تكون أكثر غباء، وتفاهة من الرقابات الحكومية". ولعل أقوى ما في "مسرح جان رينوار الصغير" كون هذا المخرج اعترف، أخيراً، بلعبته شارحاً أبعادها وما أقدم عليه من تحايل كي يبثها حتى ولو كان قد جازف في أحيان كثيرة بأن يفقد الجمهور خيوط إدراكها في متاهات شاعرية سينماه وها هو يلتقط تلك الخيوط، أخيراً، ويدعو متفرج فيلمه إلى استعادتها مكثفة صريحة ومشاكسة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة