Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المفكر أوليفييه روا يطلق صرخة ضد "تسطيح العالم"

 كتاب يخلخل المعطيات الجاهزة ويعيد النظر في أزمة الثقافة العالمية المعاصرة      

المفكر الفرنسي أوليفييه روا (دار الساقي)

ملخص

يسعى المفكر الفرنسي أوليفييه روا في كتابه "تسطيح العالم: أزمة الثقافة وسطوة القواعد والمعايير" إلى خلخلة المعطيات الفكرية الجاهزة، ويدعو إلى إعادة النظر في مسلمات سياسية واجتماعية يضعها العالم خارج دائرة الاهتمام.  

ثمة أمور كانت تبدو بدهية، في الأقل ضمن الثقافة نفسها، لم تعد كذلك فجأة. ما كان يبدو بدهياً في السابق ينظر إليه اليوم على أنه غير مقبول ولا يمكن تصوره، فهل تغير تصورنا للخير والشر إلى هذا الحد منذ 30 سنة إلى الآن أم أن الفضاء الذي يتشكل فيه الخير والشر هو الذي تغير؟ هل نحن ضمن ثقافة جديدة أم أن تمدد المعيارية هو علامة أزمة عميقة لمفهوم الثقافة نفسه؟

إزاء هذه التساؤلات المربكة يرى أوليفييه روا في "تسطيح العالم: أزمة الثقافة وسطوة القواعد والمعايير" (ترجمة بديعة بو ليلة، دار الساقي) أن النزاعات السياسية اليوم تخاض حول مسائل القيم والهوية بدلاً من أن تدور حول الاقتصاد أو الرهانات الاجتماعية الفعلية. فقد ترجم تمدد مجال الحرية اللافت منذ نصف قرن في السياسة والجنس والاقتصاد والفن إلى تمدد لافت أيضاً لنطاق القواعد والمعايير، حتى يمكن القول إننا في صراع نماذج ثقافية: قيم دينية مقابل قيم مادية، قيم غربية مقابل قيم إسلامية، محافظون يدينون الخروج على التقسيم الجنسي، فيما تريد النسويات وضع حد للثقافة البطريركية بأشكالها كافة. وهكذا فالثقافة هي فعلياً في مركز الاهتمامات على رغم أن معنى كلمة "ثقافة" يبقى مبهماً، ونحن لا نمر بانتقال ثقافي وإنما فعلياً بأزمة مفهوم الثقافة نفسه، ومن أعراضها أزمة اليوتوبيات، كما تمدد النظم المعيارية. فاليوتوبيات الكبرى ذات النزعة الكونية ماتت أو هي تعيش بصعوبة ضمن أشكال راديكالية بائسة (الإرهاب بأنواعه كافة)، وحتى "عودة الأديان" المزعومة أخفقت في أن تغزو المجتمعات مجدداً، ولم تعد تتعلق بغيرالخلاص الفردي. عم تعبر الأزمة إذاً؟ يلخص المؤلف التحولات بأربعة مستويات غيرت العالم منذ ستينيات القرن الماضي: أ- تحول القيم مع الثورة الفردانية في الستينيات، ب- ثورة الإنترنت، ج- العولمة المالية النيوليبرالية، د- عولمة المجال وتنقل البشر، أي زوال الأقلمة.

يحاول روا النظر في العلاقات بين هذه المستويات الأربعة من زاويتي الثقافة والمعيار، طارحاً سؤالاً أساسياً: هل إننا نعيش ببساطة انتقالاً بين نموذجين ثقافيين: الليبرالي الكوسموبوليتاني النسوي في مقابل التقليدي المحافظ السيادي البطريركي؟

تمثل الستينيات، في رأي المؤلف، نقطة تحول في تصور القيم، فهي بداية ثورة عالمية للشباب، بدأت بنزع الشرعية عن الماضي، لتشكل فئة سياسية بعينها، وهذا أمر جديد في التاريخ: كان الشباب في الحركات الثورية السابقة (الفاشية والشيوعية) طليعياً، ولكنه لم يكن فئة مستقلة تنتج قيمها الخاصة، في قطيعة مع الأجيال السابقة، إلا أن اعتراضاً عميقاً على الثقافة السائدة وعلى القيم التي تحملها، هو الذي انتصر في النهاية.

الثقافة الفردانية

 تتلخص ثقافة الستينيات الجديدة بكونها فردانية بصورة عميقة، متمركزة حول الفرد، وتتموضع في تواصل مع أيديولوجيا الأنوار التي تجعل من الفرد وحقوقه نقطة الرابط الاجتماعي. وهي بذلك تشكل حرب قيم، لأنها تجري في داخل الثقافة الغربية ذاتها، وهي عكس صدام الحضارات الذي يضع الثقافة الغربية، المتصورة كوحدة، في مواجهة الثقافات الأخرى.

في تعريفه للنيوليبرالية رأى روا أنها "التعميم المطلق لسوق حرة لم تعد مبنية على الإنتاج وإنما على التسليع النسقي لكل ما لم يكن بالضرورة سلعة، والمؤلف هنا لا يوجه اهتمامه إلى الجوانب الإقتصادية البحتة، ولا حتى السياسية، ولكن إلى أثر هذا التوسع في حقل الثقافة والقيم. لقد فكر ماركس بالفعل في تسليع الرأسمالية للعالم، ولكنه وضع له حدوداً. كان يتعين وجود قيمة استعمالية من أجل جعل خدمة ما "سلعة"، أما اليوم فلم يعد سوى قيمة تبادلية تعوض القيمة الاستعمالية، ولم يعد العمل قيمة في حين أنه كان كذلك في الرأسمالية.

 أما الإنترنت فهي بالفعل عنصر من عناصر تغير النظرة الثقافية واسع الانتشار في المجتمع، وهي لا تبتدع ثقافة جديدة لكنها تدمر فكرة الثقافة نفسها، وجعل الرجوع إلى الواقع بلا فائدة من خلال خلق عوالم افتراضية مكتفية ذاتياً.

إزاء ظاهرة العولمة طرح المؤلف السؤال الإشكالي المطروح منذ عصر النهضة: هل العولمة هي تعبير عن غربنة العالم، وهل الغرب هو ثقافة ضمنت هيمنتها منذ التوسع ما وراء البحار عام 1492، أم إنه منذ عصر الأنوار بوتقة لنظام قيم يدعي الارتقاء إلى الكونية، أي أنه فوق الثقافات كافة؟ هل إن  القيم المسماة غربية - حقوق الإنسان والديمقراطية ودولة القانون والعلمنة - ليست سوى طريقة لتحقيق سيطرة ثقافة الغرب أم أن هذه القيم استقلت عن الثقافة التي ولدتها وغدت تشكل نظاماً فكرياً كونياً تتبناه الحركات من أجل الديمقراطية؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 باختصار يحيل مصطلح "الثقافة" إلى معان تدور جميعها حول قطبين: الثقافة بالمعنى الأنتروبولوجي والثقافة المدونة أو "الثقافة الرفيعة"، الثقافة بالمعنى الأنتروبولوجي تخلق مجموعة من البنيات الذهنية ونوعاً من البداهة، وهي تحدد "آداب السلوك" وتستشرف نفسها في مجال ما، إلا أن هذا المجال الثقافي مأزوم، إذ لم يعد المهيمن عليهم يعانون التجريد الثقافي، وإنما الثقافات المهيمنة هي أيضاً في أزمة. فإذا كان "بيض أميركا" المسيطرون على السلطتين الاقتصادية والسياسية يشعرون أنهم مهددون من أقليات حقيقية تعيش في انعدام أمن، فذلك لأنهم يعانون صعوبة في تحديد ثقافتهم الخاصة، مما أفضى إلى انتصار الثقافات الفرعية التي تتموقع داخل ثقافة مهيمنة وتجمع أشخاصاً يتصفون بسمات محددة ويتقاسمون رموزاً وممارسات ثقافية داخل الثقافة المهيمنة أو في تعارض  معها.

 أما الثقافة كمدونة فهي مجموعة من الإنتاجات (سرديات شفوية، نصوص، طقوس) يضفى عليها طابع "بيداغوجي"، فضلاً عن إضفاء قيمة رومانسية على الفنان كـ"عبقري" والرؤية إلى الفن كثقافة رفيعة، لكن ثمة اختلاف كبير بين هذه الثقافة والثقافة الجماهيرية التي تتلخص في كونها استهلاكية منتزعة من سياقها وتاريخها، ومتاحة للجميع من دون تلقين سابق، وقادرة على تجاوز الحيز الإقليمي والتوافق مع عولمة الثقافة، فيما يرى اليسار الراديكالي في الثقافة الرفيعة علامة على الانتماء إلى النخبة وإضفاء الشرعية على السيطرة الاجتماعية.

يشكل الكتاب إضاءة في العمق على أزمة الثقافة المعاصرة وتفاعلها مع ثورة الحداثة، بكل ما تمثله من انقلاب جذري في القيم وتمدد في المعايير، وانعكاس ذلك على تحولات التفكير في عصر العولمة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة