ملخص
كيف تحول "الرمو" في أعراس تونس إلى ما يشبه التنافس الطبقي بين أبناء المناطق الريفية الفقيرة؟
ظاهرة جديدة لافتة للانتباه في عدد من المدن والقرى التونسية، وهي المبالغ المالية الخيالية التي يتم تجميعها في حفل الزفاف، أو ما يعرف بـ"الرمو"، حيث تحولت العملية من حركة رمزية تضامنية مع العريس في حفل زفافه من خلال تقديم مساعدة مالية، إلى أحد مظاهر التباهي والتفاخر التي تعكس تحولات عميقة في المجتمع التونسي.
تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي أخيراً مقاطع فيديو لحفل زفاف في أحد أرياف معتمدية العلا بالقيروان، ويظهر في الفيديو شخص يقوم بحماس كبير وكثير من التباهي بالكشف عن حقائب مالية كبيرة تحتوي على مبالغ خيالية، قائلاً إن "قيمتها 478 ألف دينار (160 ألف دولار)، تم جمعها خلال حفل الحنة في ما يعرف بـ"الرمو".
و"الرمو" أو "الشاشية" هي من تقاليد الأعراس في عدد من جهات الجمهورية التونسية، وبخاصة في المناطق الريفية، حيث يتم تقديم هدايا للعريس من أصدقائه وأقاربه في حفل "الحنة" أو ليلة الزفاف، وعادة ما تتمثل هذه العطايا في مبالغ مالية تتفاوت قيمتها من جهة إلى أخرى، كما تعكس قيمة "الرمو" المكانة الاجتماعية لصاحبه.
وتعود هذه الظاهرة إلى سنوات خلت، وتختزل قيم التضامن والتآخي بين الأسر التونسية، ولم تكن في الأصل تتعدى بعض الدنانير، لكنها وصلت اليوم إلى مئات الآلاف لتصبح مجالاً للتفاخر والتباهي والتنافس بين وجهاء وأعيان القرية.
ومع رواج الفيديو بشكل لافت على مواقع التواصل الاجتماعي، فإنه أثار جملة من الأسئلة حول هذا التقليد، وتلك التناقضات الكبيرة في المجتمع التونسي.
ظاهرة اجتماعية مرضية
يؤكد المتخصص في علم الاجتماع سامي نصر لـ"اندبندنت عربية"، أن "الرمو" في الماضي "كان يعكس قيمة التضامن التلقائي بين الأسر التونسية الموسعة، وهو ما يخلق نوعاً من التوازن الأسري، أما اليوم وفي خضم ما يعيشه المجتمع التونسي من تحولات تغيرت تلك المعادلة وأصبحنا أمام ظاهرة شبه مرضية تكرس الطبقية الاجتماعية، وتحرج الأسر متوسطة الدخل، كما تسهم في تعزيز ظاهرة العزوف عن الزواج التي يعانيها المجتمع التونسي بسبب مظاهر التفاخر التي كرست التفاوت الطبقي، وأفرغت مفهوم الزواج من معانيه الأصيلة وسط غلاء الأسعار واهتراء القدرة الشرائية للتونسيين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف المتخصص الاجتماعي أن بروز ثقافة التفاخر دمرت المنظومة القيمية للمجتمع التونسي، لتنسحب مظاهر التباهي على كل نواحي الحياة اليومية لبعض التونسيين المهووسين بمواقع التواصل الاجتماعي".
ويستحضر سامي نصر أن "الرمو" في الأصل "ظاهرة إيجابية تزامنت مع ظاهرة سلبية، وهي سيادة مواقع التواصل الاجتماعي التي تم توظيفها سلبياً، وهو ما بات يهدد أركان المجتمع والأسر التونسية التي تلهث الآن وراء التظاهر والتباهي في إطار مسايرة الموجة الراهنة".
ويخلص نصر إلى أن "الأدوار التي كان يضطلع بها المجتمع المدني والإعلام في التوعية والتثقيف من أجل تعديل الوضع لم تعد ممكنة اليوم أمام هول الانبهار والشغف بهذه الوسائط الجديدة التي تعكس هوساً مرضياً أفرز مجتمعاً موازياً ينبني على التفاخر ويتأسس على المادة ولا يعير اهتماماً كبيراً للقيم المجتمعية المعروفة".
شبهة تبييض الأموال
المفارقة أن ظاهرة "الرمو" بمبالغ كبيرة تنتشر بكثافة في المناطق الأشد فقراً، وتعتمد على التهريب والاقتصاد الموازي في أنشطتها، وهو ما جعل أستاذ علم الاجتماع السياسي بالعيد أولاد عبدالله يرجح، في تصريح خاص، إمكانية أن تكون هناك شبهة تبييض أموال في تلك العملية من أجل إعادة تدوير تلك المبالغ المالية في المسالك الطبيعية، متسائلاً "هل تعترف البنوك التونسية ومؤسسات المحاسبة المالية بـ(الرمو) كمصدر شرعي للأموال؟".
يتحدث المتابعون عن اختراع طريقة جديدة لتبييض الأموال في تونس اسمها "الرمو" أو الرشق في الأعراس أو في حفلات الختان، حيث تصل قيمة الأموال التي يتم تجميعها إلى نصف مليار (160 ألف دولار)، ويتولى الشخص من طريق ثقات من عائلته تنظيم حفل ختان أو زفاف على أن يتبارى أفراد عائلته في إهدائه الأموال في شكل "رمو"، ويتم الإعلان عن المبلغ ثم يودع في البنوك، بينما هي في الأصل أموال متأتية من التهريب خارج المسالك الرسمية.
يشير أولاد عبدالله إلى أن هذه "الظاهرة تحولت من رمزيتها النبيلة التضامنية إلى بعد مختلف يتجلى في مظاهر التباهي والتفاخر من خلال التصوير ومكبرات الصوت التي قد تحرج من يرغب في المساعدة بمبلغ مالي بسيط، بينما آخرون يساعدون بمئات الملايين".
ويلفت المتخصص الاجتماعي إلى ضرورة متابعة هذه الظاهرة سوسيولوجياً، وحتى أمنياً من أجل تطويق مظاهر تجميع الأموال بكميات كبيرة خارج المسالك الرسمية، مؤكداً أن بعض الحالات وصلت إلى التقاضي أمام المحاكم من أجل عدم الإيفاء بـ"الدين"، بينما كانت في الماضي مساعدة تضامنية واحتفالية.
تعد مدينة العلا من أفقر المدن التونسية وأعلاها في نسب بطالة، وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء (مؤسسة حكومية)، لكن هذه المدينة التي تشتهر بنشاطها الزراعي صارت من معاقل التهريب في تونس خلال العشرية الأخيرة.
وتزامن نشر فيديو "الرمو" مع الإعلان عن انتحار فتى في مدينة حفوز المجاورة للعلا لم يتجاوز عمره 14 سنة بسبب عدم تمكن عائلته من تقديم مبلغ قيمته 25 ديناراً (نحو ثمانية دولارات) للمشاركة في نشاط صيفي ترفيهي، وهي حالة الانتحار الرابعة لأطفال في ظرف شهر واحد (أغسطس) في ولاية القيروان المصنفة من أفقر ثلاث ولايات في تونس.