Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل خسرت تونس معركتها ضد المحتكرين؟

شعور عام بتغول الظاهرة أمام جهود محدودة ووضع اقتصادي هش

ارتفاع معدلات تضخم المواد الغذائية أكثر من 15 في المئة خلال عام (أ ف ب)

ملخص

أسر تونسية تلجأ إلى أقاربها في أوروبا لإرسال المواد الغذائية ودعوات إلى تبني أسلحة اقتصادية تكفل تحجيم دور المحتكرين والمضاربين

تزداد الندرة المسجلة في عدد من المواد الغذائية الأساسية في تونس هذه الفترة تعمقاً، يرافقها انشغال وقلق شديدان من عجز السلطات القائمة على توفير هذه المواد المفقودة بشكل لافت، مما يغذي الشعور العام في البلاد بتنامي الاحتكار الآخذ في التغول على حساب الدولة.

وبين تصريحات المسؤولين الحكوميين بتوفر كل المواد وبكميات كبيرة وأن نسق التوريد يجري بحسب الأهداف المرسومة، وبين واقع السوق المزري فارق شاسع وكبير، إذ بالكاد يمكن العثور على السكر والقهوة والرز وأنواع المعجنات.

وتأكيداً على هذه الندرة، برزت في الآونة الأخيرة ظاهرة جديدة في البلاد تقوم على استعانة عدد من الأسر التونسية بأقاربهم في المهجر لدى عودتهم إلى البلاد لقضاء العطلة، بخاصة عبر البواخر، لحمل أكياس السكر والفارينة والقهوة.

وتقول شادلية بن مصطفى، متقاعدة من أحد المصارف التونسية، إنها لجأت إلى مخاطبة شقيقتها المقيمة في إيطاليا بشرح وضعية الاحتكار في البلاد وغياب عديد من المنتجات الغذائية الأساسية طالبة منها عند العودة إلى تونس، حمل مؤونة من أكياس السكر والفارينة والرز.

وتقر المتحدثة لـ"اندبندنت عربية" باستفحال ندرة عديد من المواد، مؤكدة أن الأمر غريب وتحيط به عديد من الأمور الغامضة، مستنتجة أن أهم عوامل الندرة تعود إلى تغول المحتكرين الضاربين بعرض حائط كل المبادئ الأساسية للتجارة، بغية الربح السريع وسط عجز السلطات المعنية عن اتخاذ الإجراءات الكفيلة بـ"قلع ضرس" الاحتكار في البلاد.

المواد المتوفرة

مقابل ذلك، يؤكد المدير العام لديوان التجارة الحكومي والمسؤول الأول عن توريد المنتجات المدعمة من قهوة وشاي وسكر ورز، محمد الهادي الاينوبلي، أن تزويد السوق بالمواد الأساسية المتخصص بها الديوان تجري بنسق طبيعي، وأن هناك توريداً متواصلاً.

وأفاد في تصريح لـ"اندبندنت عربية" بوصول 44600 طن من مادة السكر منذ منتصف يوليو (تموز) الماضي مع توفر أكثر من 34 ألف طن في الموانئ التونسية.

وبالنسبة إلى القهوة، فإن الشحنات المنتظر وصولها تبلغ 1935 طناً، أما مادة الرز فالكميات المتوفرة تفوق 700 طن إلى جانب شحنة من مادة القهوة بحجم 715 طناً، كما يقول.

ويشير الاينوبلي، إلى أن جهود ديوان التجارة في تواصل من أجل تزويد السوق وبالكميات المناسبة، ويقوم بتوزيعها على الجهات المعنية، مشدداً على أن دور الديوان يقف عند هذه المسألة، وأن هناك جهات أخرى هي من تتولى الرقابة في إشارة إلى جهاز المراقبة الاقتصادية بوزارة التجارة التونسية.

فشل مواجهة الاحتكار

وفي غضون ذلك يجمع عديد من التونسيين على أن وزارة التجارة وعدداً من الهياكل المعنية فشلت في اقتلاع "ضرس" الاحتكار والمضاربة التي تغلغلت في الفترة الماضية، ولم تجد الوزارة الحلول الجذرية للحد من تنامي الظاهرة التي أضرت بقوت التونسيين، وألهبت الأسعار بشكل جنوني، حتى لم يعد باستطاعة التونسي البسيط مجاراتها.

ويستفيق التونسيون تقريباً يومياً على أزمة جديدة، آخرها أزمة الخبز ومن خلفها توفر مادة الفارينة، التي فقدت من السوق، وسط مطالبة المنتجين وأصحاب المخابز بإيجاد حل لأزمة الخبز، الأمر الذي ألهب السوق وأربكها وأكبر دليل على أن "ضرس" الاحتكار لم يتم اقتلاعه، هو ضرب المضاربين عرض الحائط بكل قرارات وإجراءات تسقيف أسعار عدد من المنتجات الأساس على غرار البطاطا، والبيض، والدجاج، حتى بلغ الأمر أبعد من ذلك بتعمد المحتكرين إخفاء المنتجات للمضاربة بها عند تسقيف أسعارها، في حركة منهم لإرباك السوق، علاوة على أنه حتى صغار التجار، يرفضون بدورهم تطبيق التسعيرة الجديدة، ولا يبالون بتطبيق القانون.

صراع يومي

يرى رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك، لطفي الرياحي، أن ما يحدث الآن في تونس من غلاء فاحش للأسعار أمر غير مقبول بالمرة، وأن وزارة التجارة التونسية تتصارع يومياً مع "لوبيات" الاحتكار والمتاجرين بالقدرة الشرائية لعموم التونسيين.

 وأكد أن هناك "حرباً مستعرة" بين مصالح المراقبة الاقتصادية بوزارة التجارة وعدد من المضاربين والمتلاعبين بالأسعار في عديد من مناطق البلاد، ما أعطى الإحساس لدى عديد من المواطنين أن الوزارة عجزت عن التصدي للممارسات الاحتكارية التي أخذت في التصاعد في السنوات الأخيرة، وتعمق أزمة ارتفاع الأسعار واختفاء السلع.

وقال، إن ما يحدث حالياً حرب بين السعي إلى تكريس دولة القانون ودولة الفساد، مشدداً على "أنه في السنوات الأخيرة تفشت ظاهرة سن القوانين "على المقاس" ولعدد من المضاربين ضمن الاقتصاد الريعي الذي عم البلاد.

وتابع المتحدث، أن هناك تواطؤاً بين معظم حلقات الإنتاج من خلال تعمد إخفاء البضاعة من السوق، مع التعلل بأن المواد الأولية وأعلاف الحيوانات أضحت مرتفعة جداً.

ضعف أجهزة الدولة

من جانبه أقر أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية، معز السوسي، بوجود ندرة حقيقية ليست فقط في مادة الخبز بل في عديد من مواد الأساس الغذائية الأخرى، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع معدلات تضخم المواد الغذائية أكثر من 15 في المئة بحساب الانزلاق السنوي بين يوليو (تموز) 2022 و2023.

ولفت في تصريح لـ"اندبندنت عربية" إلى أن تونس تبدو ضعيفة في محاربتها لتنامي الاحتكار الآخذ في الاتساع، بسبب ثقل هياكلها وعدم اشتغالها بانسجام فضلاً عن التوجس الذي ينتاب المسؤولين في التعاطي مع هكذا ملفات حساسة خوفاً من إقالتهم ومحاسبتهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وشدد على أن التجارب السابقة أظهرت أن التصدي للاحتكار بواسطة الحلول الأمنية لم يعط نتيجة ملموسة، بدليل مواصلة تعاظم الظاهرة في عديد من المجالات والقطاعات، معتبراً أن "الدولة صارت اليوم تسبح ضد تيار الاحتكار الجارف".

ويعتقد معز السوسي أن الدولة على مر السنوات الماضية لم تضع خطة ذكية في مقاربتها لمكافحة الاحتكار وردع المحتكرين بل اتخذت خيارات أظهرت محدوديتها ولم تتماش مع الواقع.

أسلحة اقتصادية ناجعة

ويقترح المتحدث وجوب إقرار ما وصفه بـ"الأسلحة الاقتصادية" الناجعة والقادرة على قلب الموازين حتى تتمكن الدولة من أن تكون في موضع القوة في علاقة بالاحتكار والمحتكرين.

وتابع بالقول "من الضروري إدخال تغييرات جذرية على سياسة أسعار بعض المنتجات حتى تكون قريبة من سعر الكلفة وكذلك قريبة من الواقع ومعقولة إذ إنه من غير المقبول بالمرة أن تكون أسعار الأعلاف أعلى مرتين من أسعار الخبز".

أضاف "في وضعية الندرة من المهم إقرار زيادة في أسعار بعض المواد لتكون قريبة" موضحاً أن تونس تبيع مواد غذائية مدعمة بأثمان لا تعكس حقيقة الكلفة.

وفي سياق تحليله لتنامي الاحتكار، عرج معز السوسي إلى مسألة تهريب المحروقات التي اعتبرها خطراً حقيقياً على الاقتصاد التونسي بسبب اختلاف الأسعار بين تونس وليبيا والجزائر.

وضمن الأسلحة الاقتصادية التي تحدث عنها، يرى أنه بالإمكان إقرار اتفاق بين تونس والجزائر وليبيا يقضي بتقريب أسعار بيع المحروقات بحيث لا تتجاوز الزيادة في هذه الدول نسبة 20 في المئة.

وخلص إلى أن بهذه الطريقة في الإمكان القضاء على مهربي المحروقات والقطع نهائياً مع محتكري بيع المواد البترولية.

محدودية المراقبة

بالرجوع إلى تصريح معز السوسي حول غياب الاليات وضعف الدولة، فإن الأمر يحال إلى محدودية سلك المراقبة الاقتصادية بوزارة التجارة -إحدى أهم أذرع مكافحة الاحتكار والمحتكرين في البلاد– بخاصة أن هذا السلك النشيط المحمول على كاهله مراقبة الأسواق والمحال التجارية التي تعد زهاء 400 ألف نقطة بيع في كامل أرجاء البلاد لا يتعد عدد أعوانه المنتشرين على الميدان 300 عون مراقبة.

ويعتقد أحد مسؤولي جهاز المراقبة الاقتصادية، مشترطاً عدم ذكر اسمه، أن المعادلة لا تستقيم بين عدد محدود من أعوان المراقبة يفتقرون إلى عديد من وسائل العمل العصرية، وبين مسالك توزيع مختلفة ومتعددة، ما يجعل المهمة "شبه مستحيلة".

ويضيف المتحدث أن حجم العمل تضاعف بشكل رهيب في السنوات الأخيرة في محاولة شجاعة من أجل تقليم أظافر المحتكرين المتسلحين بالمال والوسائل اللوجيستية (سيارات عصرية وقوية وأجهزة تواصل).

ويقترح هذا المسؤول مزيداً من تعزيز جهاز المراقبة الاقتصادية بالوسائل الضرورية وبخاصة القيام بانتدابات جديدة وزيادة عدد الأعوان مع إمكانية إجراء عمليات نقلة أعوان من إدارات أخرى لها عديد من الموظفين ووضعهم على ذمة جهاز المراقبة الاقتصادية.

الرئيس ينزل بثقله

أمام تواصل تسجيل احتكار كبير في عدد من المواد وتذمر التونسيين من الندرة المسجلة مما جعل الوضع المعيشي يتأزم أكثر، نزل الرئيس قيس سعيد بثقله في المسألة من خلال تعدد أنشطته واستقباله عدداً من أعضاء الحكومة المعنيين بالملف في خطوة لحلحة الوضع.

ويعكس هذا الانشغال من أعلى هرم السلطة في البلاد، تغول حجم الاحتكار وأخذ المحتكرين لموقع القرار والتحكم في السوق وتموقع مهم في المشهد الاقتصادي والتجاري في البلاد.

وقال رئيس الجمهورية في 18 أغسطس (آب) الجاري، إن عمليات المراقبة المشتركة التي قامت بها وزارات الداخلية والمالية والتجارة والفلاحة أثبتت حجم الاحتكار والشبكات التي تقف وراءها وتختلق الأزمات بغاية التنكيل بالمواطنين وتأجيج الأوضاع الاجتماعية.

وأكد الرئيس قيس سعيد أن الأزمة المفتعلة في الخبز لا يجب أن تتكرر عند العودة المدرسية والجامعية أو بالنسبة إلى عدد من المواد الأساسية الأخرى، بخاصة أن البعض يرتب منذ الآن إلى اختلاق أزمات أخرى في عدد من المواد الأساس.

وقال الرئيس التونسي، إن "الدولة لن تبقى مكتوفة الأيدي وأنها ستحارب كل المحتكرين والمضاربين وستعمل على تطهير الإدارة من كل من اندس داخلها وصار يمثل عقبة لا يمكن قبول استمرارها بقضاء حاجات المواطنين".

وفي الأثناء، كشفت رئاسة الجمهورية، عن نتائج عمليات المراقبة المشتركة التي قامت بها منتصف الشهر الجاري، قوات الأمن والشرطة وإطارات وأعوان وزارتي المالية والتجارة على 15 مطحنة أسفرت عن حجز 6528 طناً من مواد مدعمة منها 1597 طن فارينة ونحو 100 طن فارينة رفيعة و1579.5 طن سميد إلى جانب 3100 طن قمح و152 طناً من الأعلاف.