ملخص
المعارك الضارية حولت نيالا من لؤلؤة الاقتصاد والتعايش السلمي إلى مدينة يعمها الخراب
أجبرت المعارك الضارية المتواصلة منذ نحو أسبوع داخل مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، 85 في المئة من سكانها على الفرار وفاق عدد القتلى 62 شخصاً، بعدما حولتها الاشتباكات والقصف المكثف المتبادل بين الجيش وقوات "الدعم السريع" إلى مدينة أشباح توقفت فيها كل أسباب الحياة من خدمات كهرباء ومياه واتصالات.
كما نهبت أسواقها التي أقفلت لتتحول لؤلؤة مدن دارفور إلى خرابات تسكنها القطط والكلاب ويحوم حولها شبح الموت، بعدما كانت نموذجاً للتسامح طوال تاريخها بفضل تنوعها ونشاطها التجاري الذي اجتذب كثيراً من المهاجرين إليها من مناطق مختلفة من السودان.
قد تجد بعض مظاهر الحياة في أطرافها البعيدة لتفقد أروع مدن السودان إرثها في السلم الاجتماعي والتعايش السلمي، هكذا وصف قيادي أهلي مرموق، فضل حجب اسمه في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أوضاع المدينة، مردفاً "لقد أصبحت نيالا بكل أسف أثراً بعد عين".
وتابع "معظم أحياء المدينة باستثناء بعض المناطق الصغيرة في جنوبها، باتت تنتشر فيها قوات الدعم السريع، بينما يختفي أي أثر لأي سلطة سواء إقليمية أو ولائية ولا حتى محلية"، مستغرباً "الغياب التام لحكومة الولاية منذ انطلاق الطلقة الأولى، لذلك السلطة الآن باتت في يد كل من يحمل سلاح أو يضع على رأسه عمامة المقاتلين الشهيرة بـ’الكدمول‘ ومنتقداً حصر مهمة ما يسمى "القوات المشتركة" التي قال إنها "تضم عدداً مقدراً من الدعم السريع في توصيل مواد الإغاثة من مدني إلى الفاشر إن وجدت، من دون التصدي لحماية المدنيين".
وينبه القيادي السوداني إلى أن المأساة التي يعيشها المواطنون كبيرة ومتفاقمة، بخاصة بعد توسع دائرة الاشتباكات لتعم أنحاء المدينة كافة، في وقت تكثف قوات "الدعم السريع" من هجماتها على قيادة الفرقة 16 مشاة، إذ تمكنت الأخيرة من صد هجوم متزامن شنته قوات الدعم السريع من اتجاهات عدة وامتدت المطاردة إلى داخل أحياء السكك الحديدية والنيل والرحمن وطيبة شرق المدينة.
فرار جماعي
وعن الوضع داخل المدينة، أوضح القيادي الأهلي أن "الجيش ظل متمترساً في الحامية بالجزء الغربي من المدينة، بينما بدأت قوات الدعم السريع تبسط سيطرتها على معظم أحياء المدينة والقرى المتاخمة من الناحية الشرقية والشمالية منها، حيث تقع الأسواق والمستشفيات، مما أدى إلى نزوح أكثر من 85 في المئة من السكان إلى جنوب المدينة".
وأشار إلى أن بعض الفارين من المدينة لجأوا إلى معسكرات النزوح القديمة، في وقت تتزايد أعداد الضحايا المدنيين مع كل اشتباك نتيجة القتل المباشر أو بسقوط قذائف المدفعية (الدانات) على المنازل والمعسكرات وفاق عدد القتلى 32 شخصاً، إضافة إلى الذين لم يتم حصر عددهم لصعوبة الوصول إلى مناطقهم.
على نحو متصل، وصف الناشط الاجتماعي السوداني محمد إسحق، الوضع الإنساني في مدينة نيالا بأنه "محزن ومخيف ويتجه بسرعة نحو مأساة وكارثة حقيقية"، متهماً قوات "الدعم السريع" بحشد مئات المقاتلين من بينهم أطفال قصر للقتال معها، وسط انتشار مجموعات مسلحة تبث الرعب وتمارس النهب والترويع داخل أحياء المدينة شبه الخالية وتقتل المدنيين بدوافع عرقية أحياناً أو السرقة لا فرق لديها.
اغتيال وحسرة
كما اتهم إسحق جنود "الدعم السريع" باغتيال المواطن أ. ف، أحد القيادات المجتمعية داخل منزله قبل يومين، مما رفع من درجة التوتر والاحتقان داخل المدينة وسط مطالبات من ذوي القتيل بتسليم الجناة إلى السلطات العدلية.
وتحسر على واقع مدينة نيالا التي لم تكن تشهد كثيراً من التوترات القبلية طوال فترات حروب ونزاعات دارفور الماضية بحكم إرثها الطويل في التعايش السلمي واحتضانها لعدد من الإثنيات والأعراق في وئام تام، لافتاً إلى أن أجواء المدينة بدأت تشهد القلق والتوترات الأمنية مع ميلاد قوات "الدعم السريع" التي تكونت في نيالا، فضلاً عن جيوش الحركات المسلحة الموقعة اتفاق جوبا للسلام 2020 وظهور جرائم النهب والسلب والسطو المسلح، بما يشكل شرارة للصراعات القبلية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأطلقت مجموعات شبابية منذ أيام نداءات ومناشدات عدة مطالبة الجيش و"الدعم السريع" بوقف القتال ولو بهدنة موقتة لتمكين الأسر العالقة في خضم المعارك من الخروج ومغادرة المدينة، كما أطلقوا استغاثة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسمَي"أنقذوا نيالا" و"اللهم إحفظ نيالا" من دون جدوى أو استجابة.
في الأثناء وخلال منتصف الأسبوع، أعلن الجيش السوداني مقتل اللواء ياسر فضل الله، قائد الفرقة 16 مشاة، غدراً في المعار، ونعى بيان المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة، اللواء الركن فضل الله الذي اغتالته يد الغدر والخيانة في نيالا وهو يؤدي واجبه المقدس في الدفاع عن الوطن.
مساعدات عالقة
بدورها ترجح الأمم المتحدة ارتفاع عدد الضحايا جراء الاشتباكات إلى 60 قتيلاً و250 مصاباً، كما تسببت المعارك في فرار كثر نحو مدينتي الفاشر بشمال دارفور والضعين بشرق دارفور.
من جانبه، قال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في السودان (أوتشا) في بيان له إن تجدد الاشتباكات بين الجيش و"الدعم السريع" في مدينة نيالا، أدى إلى نزوح آلاف الأشخاص إلى مناطق أخرى خلال الفترة من الـ11 إلى الـ 17 من أغسطس (آب) الجاري، بينما تشير تقارير أخرى إلى فرار نحو 60 ألفاً من منازلهم.
ونبه إلى أن شاحنات المساعدات الإنسانية المحملة بالمواد الغذائية والصحية والمياه التي كانت متجهة إلى مدينة نيالا، ما زالت تنتظر في مدينة الضعين بشرق دارفور، منذ الـ14 من أغسطس الجاري بسبب القتال.
من جانبه، يرى المستشار في أكاديمية السودان للدراسات الاستراتيجية اللواء معاش معتصم عبدالقادر أن قوات "الدعم السريع" مصرة على محاولات نقل الصراع إلى ولايات البلاد كافة بما فيها القريبة من الخرطوم بغرض الإيحاء باستمرارها في المعركة، خصوصاً بعد الضغط الكبير عليها في اشتباكات العاصمة.
ويؤكد عبدالقادر أن سعي قوات "الدعم السريع" إلى تمديد وتوسيع القتال كجزء من محاولاتها لإيهام الرأي العام والعالم الخارجي بالانتشار لن يجدي لأن قدراتها البشرية والمادية في تناقص وتردٍّ مستمرين على مستوى العاصمة والولايات، بخاصة البعيدة من الخرطوم في كل من كردفان ودارفور.
أهمية نيالا
تعد نيالا (900 كيلومتر غرب الخرطوم)، عاصمة ولاية جنوب دارفور، مدينة تجارية ومركزاً اقتصادياً مهماً يضم أكبر أسواق المنتجات الحيوانية والزراعية والغابية، إذ تعتبر أهم مراكز تصدير الصمغ العربي والفول السوداني والماشية، وأهّلها ثقلها السكاني وموقعها الوسط لتصبح جسراً بين مدن دارفور.
كما أسهم خط السكك الحديدية في جعلها مركزاً للتصدير والاستيراد لكثير من المنتجات إلى بقاع السودان كافة، فضلاً عن التجارة الحدودية مع دول جنوب السودان وأفريقيا الوسطى وتشاد وليبيا المجاورة.
وتتميز نيالا بمناخ معتدل لموقعها على ارتفاع أكثر من 600 متر فوق مستوى سطح البحر ووجود مصادر متعددة للمياه العذبة من الأودية والخيران والآبار.
وتحظى المدينة بارتباط حضاري بمملكة الداجو التي سادت بين القرنين الـ12 والـ15، وتعد نموذجاً لانسجام التنوع الإثني والقبلي، وتضم إلى جانب قبيلة الداجو مجموعات أخرى من القبائل الأفريقية والعربية أشهرها الرزيقات والمسيرية، إلى جانب مجموعات المهاجرين الذين اجتذبتهم التجارة والنشاط الاقتصادي من أنحاء البلاد كافة.
إدانة "يونيتامس"
بدورها، عبرت بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم التحول الديمقراطي في السودان (يونيتامس) عن قلقها البالغ إزاء التأثير الخطر للقتال بين قوات "الدعم السريع" والقوات المسلحة السودانية في المدنيين في منطقة دارفور.
ودانت البعثة ضمن بيان لها حول الوضع في دارفور، بشدة الاستهداف العشوائي للسكان المدنيين والمرافق العامة من قبل قوات "الدعم السريع" والميليشيات المتحالفة، لا سيما في محلية سربا على بعد 45 كيلومتراً شمال الجنينة في غرب دارفور خلال الفترة من الـ 24 إلى الـ26 من يوليو (تموز) الماضي، معبرة عن القلق ذاته إزاء حوادث مماثلة في نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، وزالنجي بوسط الولاية.
وأعرب رئيس البعثة الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في السودان فولكر بيرتس عن قلقه من التقارير التي تشير إلى منع المدنيين من المغادرة إلى المناطق الآمنة، مما أدى إلى وقوع عدد كبير من الضحايا، وهذه التقارير تذكرنا بانتهاكات وقعت في الجنينة، غرب دارفور، في يونيو (حزيران) الماضي.
وأوضح بيرتس أن البعثة توثق جميع التجاوزات، مذكراً بأن هذه الأفعال البشعة تشكل انتهاكات خطرة لحقوق الإنسان للمدنيين وقد تشكل جرائم حرب بموجب القانون الدولي، مطالباً أطراف القتال بالامتثال لالتزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان الدولي لضمان سلامة وحماية جميع المدنيين.
وحض بيان البعثة، جميع القوى المشاركة في العمليات العسكرية على وقف عملياتها فوراً واستئناف محادثات منبر جدة، مؤكداً التزام الأمم المتحدة دعم وتسهيل الجهود المبذولة نحو حل سلمي للنزاع في جميع أنحاء السودان والتضامن مع أهل دارفور والتزام تحقيق سلام واستقرار دائمين في المنطقة.
وتتزامن اشتباكات مدينة نيالا التي ظلت تشهد نزاعات متقطعة منذ نشوب الحرب منتصف أبريل (نيسان) الماضي، مع هجوم قوات "الدعم السريع" لليوم الثالث على التوالي على سلاح المدرعات ومجمع الذخيرة جنوب العاصمة السودانية الخرطوم، إلى جانب تجدد المواجهات بين الطرفين في الأحياء المحيطة بسلاح المهندسين في أم درمان.
ومع دخول القتال بين الجيش و"الدعم السريع" في السودان شهره الخامس، قدرت الأمم المتحدة عدد القتلى بأكثر من 4 آلاف من بينهم مئات المدنيين، كما أشارت إلى أزمة إنسانية كارثية ومتفاقمة جعلت أكثر من 6 ملايين سوداني على حافة المجاعة.